من السيرة الذاتية الى السيرة الروائية

الدكتور الطيب بودربالة كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة باتنة
الدكتور الطيب بودربالة كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة باتنة
تنوعت الآراء وتعددت حول تعريف السيرة الذاتية، لأنه لا يوجد تعريف شامل جامع مانع، في هذا المجال. لكننا نستأنس بالتعريف الذي اقترحه الناقد فيليب لوجون الذي يعد بحق مرجعية أساسية في دراسة السيرة الذاتية. يعرفه هذا الأخير بأنها: (( حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة )) (1).
ويمكن تحليل هذا التعريف إلى العناصر التالية:
1- الصياغة: وتتحقق باللجوء إلى:
أ ) الحكي أو القص أو السرد.
ب ) استعمال الأسلوب النثري.
2- موضوع السيرة: ويتناول حياة فرد وتاريخ شخصية معينة ومحددة في إطارها الزماني والمكاني.
3- وضعية المؤلف: وتتمثل في مطابقة شخصية المؤلف ( الذي يحمل اسم شخصية واقعية حقيقية) لشخصية السارد ولو كان الضمير المستعمل أحيانا هو ضمير الغائب ( كما هو الحال في كتاب الأيام لطه حسين ) وليس ضمير المتكلم.
4- وضعية السارد:
أ ) تطابق السارد مع الشخصية الرئيسية.
ب) منظور استرجاعي للقص والحكي.
ويتمثل هذا الاستحضار في انتقاء الذاكرة لبعض الأحداث التي جرت في الماضي القريب أو البعيد.
والسيرة الذاتية باعتبارها جنسا أدبيا متبلورا ومحدد المعالم والأسس ظاهرة متأخرة، إذ يعتقد مؤرخو الأدب أن أن أول كتاب جدير بهذه التسمية هو كتاب الاعتراف لجان جاك روسو الذي كتبه سنة 1760. غير أن التاريخ الثقافي الإنساني يزخر بكثير من الكتابات التي تمثل الإرهاصات البدائية الأولى لهذا الجنس أو بتعبير آخر ن حفريات السيرة لذاتية. وقد ازدهرت كتابات السير والتراجم قبل كتابات السيرة الذاتية. وهي ظاهرة معروفة لدى كل الحضارات ، وتعني كتابة حياة عظيم أو شخصية مشهورة والتعريف بمناقبها ( أو بمثالبها إن وجدت ). أما كلمة الترجمة فهي رامية الأصل، ويبدو أنها انتقلت إلى اللغة العربية في القرن السابع الهجري بفضل ياقوت الحموي الذي استعملها في كتابه معجم البلدان، ويقصد بها حياة شخص معين ويعتقد أن فروقا كانت موجودة في البداية بين مصطلح السيرة ومصطلح الترجمة. ارتبطت الكلمة الأولى بالتاريخ المسهب والمفصل للفرد.
أما الثانية، فهي تعني، قبل كل شيء التاريخ الموجز للفرد. ومع مرور الزمن، حدث التقاء وتطابق بين الكلمتين، وامتزج اليوم المفهومان حيث أصبحا متطابقين. وأضحت التراجم والسير تعني مدلولات واحدة، كما غدت السير الذاتية مطابقة تماما للترجمة الذاتية ( أو الشخصية ) (2). بعد هذه التوطئة المنهجية يجدر بنا أن نبحث عن أركيولوجيا السيرة الذاتية بهدف القيام بنوع من التأصيل لهذا الجنس الأدبي المتميز.
عندما نتصفح تاريخ الجزائر القديم، نكتشف أن أول محاولة في كتابة السيرة الذاتية هي من إنجاز القديس أوغستين ( المولود سنة 354 بسوق أهراس، والمتوفي سنة 430 بعنابة )، وهي سيرة ذاتية دينية موسومة بـ (( الاعترافات )). ويرى بعض النقاد العارفين بتاريخ السيرة الذاتية أن هذا الكتاب يشكل بحق المحاولات المحتشمة الأولى لهذا الإبداع المتميز. واستطاع هذا المفكر أن يسيطر طيلة القرون الوسطى على الفكر المسيحي بفضل كتاباته المشهورة مثل (( مدينة الرب )) (3)، غير أن هذه المرجعية المسيحية لم تؤثر في الأدب الجزائري الحديث، لأن أسقف (( هيبون )) هو قبل كل شيء أب من آباء الكنيسة المسيحية. وقد عرفت الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي بعضا من أشكال الترجمة الذاتية. كما كان لاحتكاك المسلمين بالثقافات اليونانية والفارسية والهندية تأثير حاسم في بروز هذه الروايات الجديدة التي تعبر عن تحمل الأديب والمفكر المسؤولية، في الوقت نفسه عن اندماجه في ديناميكية المجتمع وفي الصيرورة التاريخية. ويعد القرن الثالث الهجري منعطفا حاسما في التوجهات الإبداعية. وتحدد الأدب (الذي هو الأخذ من كل شيء بطرف، حسب تصورات تلك الفترة) كفضاء ثقافي تلتقي فيه المؤثرات الحضارية الوافدة بالعبقرية الحضارية العربية الأصيلة. وقد عمد بعض مشاهير الأدباء إلى قص النوادر والطرائف والتجارب التي عاشوها حقيقة أو تلك التي تتصل مباشرة بمحيطهم الاجتماعي والثقافي. ويعد الجاحظ (المتوفى سنة 868) من رواد هذا النوع من المغامرة الإبداعية. فقد ضمن كتاباته المتنوعة بعضها من فصول حياته . وبفضل روحه المرحة ودهائه وأخلاقه وحسه الفكاهي، تمكن هذا العبقري من تأسيس أسطورته الشخصية (4) حيث تتناغم روحه الإبداعية مع عظمة الحدث الحضاري ومع انتصارات العقل الإسلامي ومن بين الذين برعوا في هذا اللون من الأدب نجد العبقري المعروف، أبا حيان التوحيدي ( المتوفى سنة 1023 ). ويعد كتابه " الصداقة والصديق " نموذجا رائعا لكتابات السيرة الذاتية، حيث يعبر فيه عن نظرة سوداوية وعن روح تشاؤمية عانت الأمرين، نتيجة خيانة الأصدقاء وفساد الذمم وانهيار القيم. وقد عاش الأديب مأساة الاغتراب واكتوى بنارها في مجتمعه وبين أهله وذويه. وأدى هذا اليأس بالكاتب في أخريات حياته إلى إحراق كتبه خوفا أن تؤول بعد مماته إلى معاصريه الذين هم ليسوا جديرين بها. لأنهم عاجزون عن تذوقها وفهمها وتقديرها. ومثال آخر، نجده مجسدا في كتاب " طوق الحماقة " لابن الحرم الأندلسي ( المتوفى سنة 1062 )، وقد ترجم الكتاب إلى مختلف اللغات الأوروبية وأثر أيما تأثير في الشعر الأوروبي وبخاصة في شعر التروبادور. وقد خرج الأديب في هذا الكتاب بين الشعر والنثر، بين التجارب الشخصية والقضايا الاجتماعية. وعلى الرغم من كونه مرجعية دينية ( فهو مؤسس المذهب الظاهري )، فإنه يعبر في هذا النص عن روح التسامح والتفتح التي كانت سائدة في الأندلس. وقد عرف التراث الأوتو بيغرافي نفسا جديدا مع صاحب " المقدمة " عبد الرحمان بن خلدون ( المتوفى سنة 1405 ). عاش هذا العالم فترة تاريخية زاخرة بالأحداث الكبرى والتحويلات الهامة التي زلزلت الإمبراطورية الإسلامية واستطاع هذا المفكر العبقري أن يتمثل هذا الزخم الحضاري الجارف ليعبر عن هذا الصدام العنيف بين الحضارات والإمبراطوريات.. فهو شاهد عيان على عنف التاريخ وعلى أفول نجم الحضارة الإسلامية التي كانت تعيش رمقها الأخير ويعد كتابه " التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا " من أهم كتابات السيرة الذاتية عند العرب. وتزخر كتب الرحلات بكثير من التعابير الأوتوبيوغرافية المستمدة من تجارب السفر واكتشاف عادات وتقاليد الشعوب والبلدان المزارة. يكفي أن نتصفح بعض الكتب " ابن بطوطة والإدريسي، والمسعودي وابن جبير، وابن فضلان وحسن الوزاني وليون الإفريقي " وياقوت الحموي لنكتشف هذا التداخل والالتحاق بين مكونات السيرة الذاتية وجنس اليوميات والمذكرات. وهي كتابات تذكرنا بوصف ماركو بولو الفينيسي لأسفاره ومغامراته عبر بلدان الشرق.
ويبدو أن مكونات السيرة الذاتية تسللت إلى كل حقول المعرفة عند المسلمين فالذات الكاتبة حاضرة بقة في كل ما تصنفه بحيث أصبحت الذات هي الموضوع وأصبح الموضوع هو الذات. إلى جانب هذه النماذج الأوتوبيوغرافية التي ذكرناها آنفا، فإن هناك نماذج أخرى تتوقفنا بأصالتها وعمق دلالتها السيكولوجية والوجدانية والثقافية. وتمثلها أحسن تمثيل الأوتوبيوغرافيا الصوتية التي فرضت ننفسها على امتداد الأزمنة والعصور كملحمة روحية تتطلع نحو البحث عن الحقيقة وعن المطلق بفضل المجاهدة والمكاشفة والمشاهدة والفناء في المحبة الإلهية وتتسم هذه الكتابات ببعض السمات منها:
1- إن الراوي والشخصية الرئيسية الفاعلة في الأحداث والمؤلف هم شخصية واحدة. وهذا يمثل النواة الصلبة المشكلة لسيرة الذاتية كما يرى فيليب لوجون.
2- إن الحياة المسرودة، رغم ارتباطها بتجربة روحية إشراقية، فإنها تصل بفضل سبرها لأغوار النفس الإنسانية وعن أسرارها العميقة . كما تصفح عن بعض ثوابت الطبيعة الإنسانية في تشكلاتها وتجلياتها المختلفة. ولا ينكر أحد أن هذه الكتابات كانت لها إشعاعية كبيرة في تربية النفوس وتطهيرها والسمو بالإنسان في مدارج الكمال والمحبة الإلهية.
وكتابات المتصوفة كثيرة، ونكتفي هنا بإيراد بعض النماذج على سبيل المثال لا الحصر، مثل كتاب " المنقذ من الضلال " لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي ( 1078_1111 ) والذي يحكي فيه تجربته الصوفية والتحول الذي عرفه بعد خروجه من بغداد وتحوله من العلوم العقلية إلى عالم العلوم الربانية والدينية وتعتبر كتابات الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ( المتوفى سنة 1240 ) بمثابة الموسوعة الكاملة في حقل المعارف الصوفية. عاصر ابن عربي الفيلسوف ابن رشد وتشبع بالثقافات والأفكار التي كانت سائدة في عصره. ونجد تجربته الصوفية ورؤيته المعرفية وفلسفته الكونية مبثوثة في ثنايا مصنفاته الصوفية المختلفة ( الفتوحات المكية، فصوص الحكم، وترجمان الأشواق ...الخ ) وتعد "الفتوحات المكية" موسوعة صوفية ومعراجا روحيا فريدا من نوعه. وهذا ما يفسر إشعاعية كتابات ابن عربي الصوفية في الشرق والغرب، قديما وحديثا. وقد يلجأ أقطاب الصوفية أحيانا إلى لغة الشعر للتعبير عن عالم الباطن وعن عالم الأسرار الروحية ( ومن أشهر دواوين المتصوفة، ديوان ابن الفارض ).
بعض مميزات تراث السيرة الذاتية:
يتضح مما سبق أن التراث العربي الإسلامي يتضمن بعض عناصر السيرة الذاتية التي بإمكانها أن تغذي السيرة الذاتية الحديثة. فالبحث عن الذات والكتابة عنها، من الأمور التي تزخر بها الثقافة العربية الكلاسيكية. غير أن الإشكال يكمن في طرق التعبير عن ماض الشخص وفي أشكال صياغة واستحضار ومساءلة الجوانب الخفية من حياة الفرد. وبإيجاز يمكننا أن نلاحظ ما يلي:
1- إن الخطاب الاوتوبيوغرافي يؤدي وظيفة أساسية في الدفاع عن شرعية ومصداقية الخطابات الأخرى. فتدخل الذات في الكتابة شهادة على صحة وأصالة القول، وبرهان على الحقيقة التي يراد الترويج لها.. فالكاتب يلجأ هنا إلى رصيده الشخصي لتوثيق قضايا اجتماعية وفكرية، وضمان موضوعيتها ومصداقيتها. فالتجربة والمعايشة تصبحان وسيلة اليقين والحقيقة.
2- إن هذا الخطاب ينشط داخل ثنائيتي الخير والشر، الحق والباطل، النور والظلام. فكانت السيرة الذاتية رجل أخلاق يمجد الخير ويناهض الشر، يدافع عن القيم النبيلة ويتصدى للقيم المنحطة.
3- إن هذا الخطاب ينصب أساسا على الأنا الاجتماعي والوجودي على حساب الأنا السيكولوجي الذاتي. فالكاتب يجد حرجا في نفسه كلما تعرض للحديث عن أسرار حياته الشخصية التي يجب أن تبقى محاطة بالسرية. لأن واجب التحفظ والتستر يفرض عليه عزل دائرة الحياة الشخصية عن أنظار الناس. وهذا من صميم الأخلاق الإسلامية. والأحاديث الشريفة تشير إلى ذلك بصراحة. وحتى في التخاطب اليومي فإننا نجد ما يؤكد هذا التحفظ. وخير مثال على ذلك عبارة (( أعوذ بالله من كلمة أنا )) التي ترد بكثرة في التواصل الشفاهي. ويقول باسكال (( الأنا جدير بالاحتقار )) ومثال على ذلك أن ابن خلدون لم يتعرض في قصته عرف أسرته أمام شواطئ الإسكندرية إلا في بضع جمل.
4- إن المجال الوحيد الذي تتحرر فيه الذات الفردية من القيود الاجتماعية، هو مجال السيرة الصوفية. تمكنت الأوتوبيوغرافيا هنا ما الانفلات من الدوكسا والضغط الاجتماعي لتلج عالم الرمز والأسرار الباطنية، لمعايشة عالم الأنوار الربانية حيث الفناء والبقاء الأزلي. ويتعرض سالك الطريق إلى شتى المحن، وتمر النفس الإنسانية بشتى الأطوار والأحوال والمقامات. ويعترف العالم السيكولوجي يونج بعظمة التراث السيكولوجي الصوفي. يقول في هذا الشأن: (( إننا باعتبارنا علماء سيكولوجيين غربيين، نجد أنفسنا نحبو أمام الإنجازات السيكولوجية الإسلامية التي يمثلها المتصوف أحسن تمثيل )).
مكنتنا هذه الإطلالة من تأصيل السيرة الذاتية في التراث العربي الإسلامي من خلال رسم معالم أركيولوجيا ثقافية جديرة بالاكتناه وتفاديا للأحكام الجاهزة وللإسقاطات التعسفية التي تضر بالموضوعية العلمية، يجب علينا أن نشير إلى أن أشكال السيرة الذاتية التي تتضمنها كتب التراث، على أهميتها وأصالتها، فإنها لا تتطابق تماما، من الناحية الفنية، مع السيرة الذاتية الحقيقية كجنس أدبي تبلور في الغرب بداية من القرن الثامن عشر بفعل تحول المجتمعات من البنى الاجتماعية المهيمنة إلى البنى الفردية المؤلمة على مركزية الفرد، وهذا نتيجة الثورة الصناعية الزاحفة. وعلى غرار التراجم والسير الذاتية المعروفة في الحضارات الأخرى، فإنها تعتبر ممثلة لسيرة الطفولة الذاتية قبل أن يشتد عودها ويكتمل تكوينها وتتحدد في شكلها النهائي. والحقيقة التي يجب أن تقال هي أن السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، تعود أساسا إلى احتكاك العالم العربي بالغرب الرأسمالي وإلى عملية المثاقفة التي عرفها العرب منذ بداية عصر النهضة الذي أعقب حملة نابليون على مصر، وما نتج عنها من خلخلة في الأبنية الاجتماعية والتخييلية العميقة. كتب المستشرق الأمريكي فور جرومباوم هذه الظاهرة في كتابه " هوية الإسلام الثقافية " ما يلي: (( عندما تم الاحتكاك بين الشرق الإسلامي والغرب في القرن التاسع عشر، كانت منطلقات كلا الطرفين جد متباينة. في حين كان الفرد في الشرق خاضعا كلية للأسرة وللعصبية وللقبلية وللوحدة والعرقية والدينية داخل دولة لا تمثل إلا كيانا شكليا، كان الغرب، وقتها، يعيش عصر تمجيد الفرد وتقديسه في إطار انتماء عضوي للدولة ويندر أن نجد تحليلا للذات في الثقافة الشرقية إذا استثنينا التجارب الدينية. إن روح التستر تفرض نفسها على كل محاولات الحديث عن الذات )) (5)، ونجد من ضمن العوامل التي ساعدت على ظهور السيرة الذاتية في الغرب نجد الدور الحاسم الذي لعبته الثورة الصناعية في تفتيت وشرذمة الكيانات الاجتماعية التقليدية التي كانت تدمج الفرد كلية وتصهره في بوتقتها. ونفت الثورة الصناعية في أوربا الانتماءات الجماعية السابقة لتفتح عهد النزعة الإنسانية الجديدة وأسطورة الفرد الذي أصبح مقياس كل شيء. وهكذا تم انتقال المجتمعات الغربية من أنساق اقتصادية حرفية وتقليدية إلى أنساق اقتصادية رأسمالية تقوم على الفردية. إضافة إلى هذه العوامل، فقد أسهمت الاعترافات الدينية المعروفة لدى المسيحيين في بلورة وتغذية هذا الجنس الأدبي الجديد. وقد اعتاد النقاد اعتبار كتاب روسو، الاعترافات، بمثابة شهادة ميلاد هذا الجنس الأدبي المتميز، الذي يبشر بتحولات حضارية كبرى وبميلادة إنسانية جديدة. وعندما اخترقت الحضارة الغربية ما تبقى من رموز حضارية عربية شرع الأدباء العرب ينهلون من هذه النزعة الإنسانية الجديدة وينسجون على منوال أدبائها. ونشير في هذا الصدد إلى أن بعض كتابات السيرة الذاتية العربية الحديثة، نجحت في السمو إلى مصاف روائع الأدب العالمية بفضل روحها الإبداعية وأصالتها وعبقريتها ودلالتها الحضارية.. وغدت هذه الكتابات صورة مشرقة لحوار الآداب والحضارات ونذكر على سبيل المثال " الأيام " لطه حسين، و " حياتي " لأحمد أمين، و " المذكرات " لحسنين هيكل و " عصفور من الشرق " و " مذكرات نائب في الأرياف " لتوفيق الحكيم، و" موسم الهجرة إلى الشمال " للطيب صالح.
رواية السيرة الذاتية في الجزائر :
يتزامن ظهور السيرة الذاتية في الجزائر مع التحولات الثقافية الكبرى التي عرفتها الجزائر غداة الحرب العالمية الثانية. ويكتسي هذا الجنس الأدبي أهمية خاصة نظرا لما عرفته البلاد من هيمنة ثقافية استعمارية أدت إلى استئصال جذور الانتماءات الثقافية الأصيلة. ويصعب علينا أن نطبق نظرية المثاقفة على وضعية الجزائر. ذلك أن الثقافة الفرنسية سعت بكل الوسائل إلى تطبيق استراتيجية الاستئصال المنهجي لكل رموز الثقافة العربية الإسلامية في الجزائر. فنحن لسنا بصدد ظاهرة مثاقفة عادية، وإنما نحن أمام ظاهرة إبادة ثقافية إذا جازنا استعمال هذا اللفظ ETHNOCICLE. ولازال الشعب الجزائري بعاني حتى يومنا هذا من هذه الصدمة الثقافية التي أحدثت شرخا عميقا في ذاكرته وهويته. لذلك لا تعجب إن وجدنا أن البدايات الأولى للسيرة الذاتية في الجزائر، تحكي مأساة الإنسان الجزائري الذي عصفت به رياح الاستعمار. فهذه الأدبية الجزائرية فاطمة نايت منصور، أم الشاعر جون عمروش، تسجل هذه الصفحات المظلمة من حياتها وحياة أهلها وذويها. وقد أنهت كتابة سيرتها الذاتية " قصة حياتي " سنة 1968، بمقدمة أعدها لها الروائي كاتب ياسين. كما نشرت ابنتها طاوس عمروش عدة روايات ذات طابع أوتوبيوغرافي في مثل:
- ياقوتية سوداء، سنة 1947 .
- نهج الطبال، سنة 1960 .
- العشيق الوهمي، سنة 1975 .
إذا استثنينا كتاب فاطمة نايت منصور المذكور، فإننا نلاحظ أن الأدباء الجزائريين لم تستهوهم كتابة السيرة الذاتية. غير أن، بعضهم آثر مغامرة رواية السيرة الذاتية لما تتيحه من بعث وإحياء لعوالم الذات الدفينة لدمجها مع لعبة المتخيل، بهدف التعبير عن رؤى فنية وإيديولوجيو وثقافية.
إن كل رواية تتضمن بطريقة أو بأخرى بعض مكونات السيرة الذاتية، كما توحي المقولة المشهورة: (( كل رواية هي عبارة عن سيرة ذاتية وحوليات اجتماعية )) ويقول فلوبير: (( السيدة بوفري هي أنا )) ولكن ما يستوقفنا في الرواية الجزائرية هي تلك الإشارات الجلية التي تتخذ من السيرة الذاتية متكأ لها ويقترح فيليب لوجون التعريف التالي للسيرة الذاتية:
(( هي رواية تضم كل النصوص القصصية التي تجعل من القارئ يعتقد، انطلاقا من عناصر المشابهة والمطابقة، وجود تطابق كلي بين الكاتب والشخصية الرئيسية بينما الكاتب إستراتيجية إخفاء هذا التطابق، وعدم التأكيد عليه على الأقل )) (4) وتعتبر رواية " ابن الفقير" لمولود فرعون والتي نشرت سنة 1950 أول رواية جزائرية جديرة بهذا الاسم، وهي في الوقت نفسه أول نص أوتوبيوغرافي يؤسس للأدب الروائي الجزائري ذي التعبير الفرنسي. وتحكي هذه القصة ملحمة الشاب فورولو ( وهو اسم نحت من كلمة فرعون ) الذي خاض مغامرة العلم ليحقق، بفضل عزيمته الصلبة نجاحات كبرى في التحصيل والدراسة وارتياد آفاق العلم اللامحدودة. إنها انتصارات شاب تمكن من الانفلات من قبضة الحتمية الريفية وسطوة العادات والتقاليد ليلج عوالم الاختلاف ويحقق طموحاته وتطلعاته. وقد اختار فرعون مرحلة مشرقة من حياته، هي مرحلة الطفولة، ليمارس هذا النوع من التجريب ويقص علينا قصة نموذجية تنطبق أساسا على النخبة الجزائرية المتفرنسة التي عانت مرارة الاستلاب وشقت طريقها وسط المسالك الوعرة لتصبح ملاقي كل التناقضات. تلك النخبة التي انتزعت بعنف من ثقافتها الأصلية ليرمى بها في عالم التصادمات الثقافية والصراعات الحادة. فهي بين المطرقة والسنداد، بين أمرين أحلاهما مر، فهي متجزرة في ثقافتها الأصلية التي رضعتها مع لبن الطفولة، وفي الوقت نفسه متشبعة بحلم الالتحاق بالآخر والتماهي معه في مجال نموذج الحياة. لكن الوضع الاستعماري يؤجج هذا الصراع ويعمق الهوة ويجعل تحقيق التقارب والوحدة مستحيلا. لذلك يقف الأديب الجزائري خلال هذه الفترة على فوهة بركان. ولد فرعون للأدب وللتاريخ عن طريق رواية السيرة الذاتية، مفوضا جدلية الأنا والآخر، ومقتحما فضاء الرواية الاستعمارية في الجزائر، ومؤسسا لخطاب روائي متميز وأفق انتظار جديد. وباعتبارها باكورة الأدب الروائي الجزائري المكتوب بالفرنسية، فإن الكاتب وجد نفسه ملزما بالتمهيد لها بتوطئة يشرح فيها الأسباب التي جعلت السيد فورولوا الذي أصبح معلما في قرية نائية من قرى القبائل الكبرى، يفكر في نشر هذا المخطوط وإظهاره للنور، بعد أن ظل سنوات طويلة قابعا في درج من أدراج مكتب المعلم.
إن هذه المزاوجة بين صدق السيرة الذاتية ولعبة المخيلة أتاحت للروائي استغلال هامش الحرية وصياغة ما يريده من أفكار ورؤى وجماليات. إنها لعبة الحقيقة والخيال، الواقع والأسطورة، الصدق والوهم، فراوية السيرة الذاتية، نظرا لما توفره من إمكانيات إبداعية غير محدودة، تفتح للأديب آفاقا لانهائية، على خلاف كتابة اليوميات والمذكرات التي تقتضي الوفاء والإخلاص لحياة المؤلف. وقد اختار الأديب إستراتيجية التوفيق بين وصف ملحمة شبابه من جهة، ورصد معالم الحياة الاجتماعية والثقافية من عادات وتقاليد ونشاطات اقتصادية من جهة أخرى. ويعني ذلك أن النظرة الأوتوبيوغرافية تتفاعل في النصر الروائي مع النظرة الإتنوغرافية التي تسمح بالتعبير عن بعض ملامح الهوية الثقافية للمجتمع الريفي القبائلي. فالرؤية الاتنوغرافية تدعم في هذا السياق مشروعية الرؤية الإيديولوجية والثقافية. وكأن الكاتب يسعى لاقتناء القراء الفرنسيين بأن ما ورد في هذا الكتاب هو الواقع الجزائري بعينه، خاصة وأنه وظف الاتنوغرافيا الاستعمارية بعد تحويرها وتحويلها عن دلالاتها الثقافية الأصيلة. فالأديب بلجوئه إلى خطاب السيرة الذاتية يصبح شاهد عيان على كل ما يمت بصلة إلى الثقافة التقليدية التي ينوي المستعمر إدخالها متحف التاريخ.
وإذا كان رواد الرواية الاستعمارية في الجزائر والذين أتوا من بعدهم، ونقصد هنا بما يسمى بمدرسة الجزائر العاصمة التي يتزعمها ألبير كامو، قرأ قد أسسوا جدلية الأنا والآخر في نصوصهم الروائية على القتل الرمزي للجزائر، فإن الرواية الجزائرية قد استطاعة قلب هذه الجدلية، لتمثل نقيض الأطروحة الاستعمارية وذلك بوضعها الجزائري في المركز الأخير في المحيط. أي أنها حققت بدورها القتل الرمزي للمحتل. فمركزية الذات الكاتبة والساردة تعني انتزاع الجزائري لحق الكلام وفي التعبير عن ثقافته وفي تحقيق مصيره بنفسه، بعيدا عن كل وصايا أجنبية: (( أنا أكتب إذن فأنا موجود )).
وتعد رواية "ابن الفقير" أسطورة مؤسسة للأدب الروائي الجزائري الحديث ، لذلك كثرة النصوص الروائية التي تتناص معها سلبا أو إيجابا، رفضا وتقبلا. وقد سقت الإيديولوجية المدرسية ، غداة الاستقلال، إلى الاستعانة بنصوص هذه الرواية وإدماجها داخل الكتب المدرسية لتلقين التلميذ الجزائري روح الاجتهاد والتحدي والمواجهة التي تمثلها شخصية فورولو التي أصبحت قدوة ومثالا يحتدى به. وقد حاول الأديب المغربي عبد الكبير الخطيبي أن يضع هذه الرواية في سياقها الدلالي الحقيقي: (( كتاب فرعون الأول " ابن الفقير (1950) هو سيرة ذاتية يحكي فيها الكاتب كيف قضى طفولته بمسقط رأسه (( تيزي هيبل ))، وكيف ترعرع وسط الحياة القاسية والبائسة التي عاشها شعبه وكانت المدرسة بالنسبة للطفل خلاصا أنقذه من سطوة العائلة، وخوله حصوله على المنحة أن يتابع دروسه الثانوية ليصبح معلما.
إن هذه الرواية الواقعية تدهشنا الآن بشفافيتها، وبمظهرها البسيط المسرف بعض الشيء في التعقل، والمائل كثيرا إلى التنقيص من الذات. وتدهشنا كذلك شخصياتها المتاهدمة التي تتحرك في عالم مقفل، محدد الملامح، حيث لكل شيء موضعه. وهي قصة تنوء تحت عبء كبير من الرحمة والطيبوبة، ولا غرابة فإنها سيرة ذاتية لرجل ذي إرادة حسنة. وهنا نضع أيدينا على فرق جوهري يميز فرعون عن كتاب آخرين مثل كاتب يسين وميمي والشرايبي الذين لا يرون، عندما يحكون قصصهم سوى سلسلة من التشويهات تطبع حيوات طفولة مكلومة وفاشلة )) أما كتابات مولود معمري الروائية والمتمثلة في الروايات الثلاث المعروفة : " الربوة المنسية ( 1952 )، و" سبات العادل ( 1956 ) " و " الأفيون والعصا ( 1965 ) " فإنها تتعامل بطريقة غير مباشرة مع السيرة الذاتية محققة نوعا من التوتر بين حياة الكاتب والأحداث الواردة في النصوص. فهي ليست سيرة ذاتية من الدرجة الأولى على غرار سيرة مولود فرعون
أو بالأحرى نستطيع أن نقول إنها سيرة ذاتية يطغى عليها عنصر الإبداع الروائي. ويعترف الكاتب في بعض التصريحات الصحفية أنه عاش بعض الأحداث الواردة في فصول تلك الروايات مثل تلك المتعلقة بالطفولة في " الربوة المنسية " وتلك المتصلة بالاستلاب المدرسي والحرب العالمية الثانية في " سبات العادل "، وتلك التي تحيل على الثورة الجزائرية في " الأفيون والعصا ". فهو يكتب عن وعي وعن دراية وعن معرفة عميقة بالأحداث المذكورة في المتن الروائي، لأنها تتصل بتجاربه الشخصية وبمحيطه الاجتماعي المباشر وغير المباشر. غير أن صياغة هذه الأحداث وربطها بالديناميكية الاجتماعية جعلتها تقترب أكثر من الدلالات الاجتماعية والتاريخية.
بعد ظهور رواية " نجمة " (1956) لكاتب يسين منعطفا حاسما وتاريخيا في مسار الرواية الجزائرية. لأنها نفت في الشكل والمضمون معا ، كل الأساليب الموهودة في الكتابة. يقول الطاهر بين جلون في هذا الصدد: (( إن كاتب يسين الذي يعتبر أكبر أديب مغاربي، لم يتبنى الأوتوبيوغرافيا على غرار الأسلوب المألوف: إنني ولدت ... ولكنه ابتدع شكلا جديدا الأوتوبيوغرافيا، يتمثل في السيرة الذاتية للجزائر. وهنا تكمن في الحقيقة أصالة " نجمة " ))(6) ويفضل الروائي نعتها بـ " السيرة الذاتية التعدادية L’autobiographie plurielle (()) لتداخل وتشابك خطابات السيرة الذاتية داخل النص الروائي، حيث تتناغم الأصوات وتتحاور وتتصارع داخل سنفونية الصراع والمواجهة. إنه جرح الطفولة الذي لا يندمل والذي تغذيه جراحات التاريخ وتأوهات الذاكرة الفردية والجماعية.
تحيلنا السيرة الذاتية التعددية إلى معمارية الشخصيات الروائية الرئيسية: رشيد ن لخضر، مصطفى، مراد، نجمة، سي مختار. وكل واحد من هؤلاء الشخوص يمثل الوجه الخفي لحياة كاتب العجيبة والغريبة. وتشكل هذه الشخصيات مجتمعة الأسطورة الشخصية للكاتب، كما تمثل أحلام الأمة الجزائرية وآمالها وتطلعاتها نحو إنجاز وتحقيق مستقبل مشرق بعد سلسلة المخاضات التاريخية العسيرة: (( عليك أن تفكر في مصير هذه البلاد التي جئنا منها، والتي ليست إقليما فرنسيا ، ولا تتوفر على باي أو سلطان. لعلك تفكر في الجزائر المحتلة وفي ماضيها المستغل (...) ولكن الغزو كان شرا لا بد منه. كان مخلبا مؤلما حمل معه وعد بالتقدم لشجرة الأمة التي نخزتها ضربات الفأس. إن الفرنسيين مثلهم مثل الأتراك والرومان والعرب، لم يكن أمامهم سوى التجزر كرهائن للوطن الذي يتشكل جنينه، والذي كانوا يتنازعون على فضائله )) (7). وقد كان لتأثر كاتب يسين بأقطاب الرواية الحداثية في كل من إنجلترا وأمريكا وفرنسا دور حاسم في تفجير مقومات الرواية التقليدية وفي تبني نمط جديد من الكتابة المتحررة من كل القوالب والقيود. ونذكر على سبيل المثال بعض الأسماء التي ألهمت الروائي وفجرت عبقريته الروائية، مثل فولكنر، دوس باسوس، ستاينبك من أمريكا وجويس وفرجينيا ا وولف من بريطانيا، وبروست من فرنسا. كما استفاد الروائي من المنجزات التقنية والفنية التي حققتها الثورة الروائية في فرنسا وفي بقية بلدان الغرب. يعلق عبد الكبير الخطيبي على هذه العبقرية فيقول: (( أصبحت الآن أهمية كاتب يسين في الأدب المغربي والفرنسي شيئا ملما به. وقد حيا فيه الناقد " موريس نادو " الأديب الذي تجاوز بالقوة الرواية الأمريكية. وكثيرا ما يرتبط الحديث عنه بالحديث عن فولكتر وجويس. ولأول مرة وجد اليسار الفرنسي عند كاتب عربي، ليس فقط التوافق السياسي، بل أيضا الاهتمامات الأدبية العميقة. فقبل كاتب يسين كان الأدب المغربي يشجع بدافع التعاطف وبقصد إعادة تقويم ثقافة مستعمرة. أم إنتاج ياسين فإنه يجعل الأمر متعلقا بإعادة النظر في " مجموع الرواية الحديثة " )) (8).
إن هذه السيرة الذاتية التعددية تعكس عمق الجرح وعنف التاريخ وعسر المخاض، مخاض الأمة الجزائرية التي أصبحت نجمة ترمز لها. نجمة التي أصبحت تمثل الجرح والوطن والانتماء. وحكي هذه الأوتوبيوغرافيا مأساة الكاتب الذي انتزع بعنف ودون رحمة من دفء الأمومة وبراءة الأطفال ليقذف به داخل " شذقي الذئب" على حد تعبير الروائي. وتروي القصة في الوقت نفسه مأساة الجزائر التي تعاقب الغزاة والمحتلون على أرضها، الواحد تلو الآخر. ونجمة هي الجزائر التي تفتض بكارتها بعد كل غزو. ولكنها في كل مرة تسترجع عذريتها وحريتها وحقيقتها الأبدية، لتطرد الغزاة المحتلين. وإذا كان غلاة الاستعمار يرون أن تاريخ الجزائر هو تاريخ تعاقب الغزاة على أرض الجزائر، فإن كاتب ياسين يرى عكس ذلك، إذ يعتقد أن تاريخ هذا الوطن هو تاريخ المقاومة الدائمة والثورات المستمرة ضد المحتلين الأجانب، لأن عشق الحرية يجري في عروق الشعب الجزائري مجرى الدم. وسمي هذه المقاومة في أحد مسرحاته بــ "حرب الألفي سنة " لذلك فإن السيرة الذاتية تلتقي هنا بتاريخ أمة بأكملها. فالكاتب عاش مأساة 8 ماي 1945، وشارك في مظاهراتها وهو شاب لم يتجاوز السادس عشر من عمره. ألقي عليه القبض وزج به في السجن حيث لقي ألوانا من التعذيب. وفي السجن عاش الإرهاصات الشعرية الأولى وفتح عينيه على مأساة الشعب الجزائري، وتعلم شيئين عزيزين عليه: الشعر والثورة. وبعد خروجه من السجن يصطدم بالفاجعة. لقد جنب أمه بعد أن قيل لها إن ابنها توفي داخل السجن، كما طرد أبوه من وظيفته من طرف الإدارة الاستعمارية لمشاركة الابن في المظاهرة. ويجد نجمة ابنة عمه التي أحبها حبا عظيما، يجدها قد تزوجت من إنسان آخر. ولم تغير المظاهرات شيئا من الواقع الاستعماري، بل ازداد القمع الاستعماري وحشية وضراوة. وبقي المستعمر جاثيا على صدر الأمة الجزائرية. وعندما يلتحق الشاب بثانويته يجد الأبواب موصدة دونه. لأن الإدارة فصلته نهائيا بحجة ممارسة السياسة . وهناك تتشابك خيوط المأساة لتنسف التاريخ وتفجر الشعرية. وأصبحت هذه الأمور كلها مشكلة الهاجس المركزي الذي يستحوذ على كتابة الروائي ويوجهها وجهة خاصة. وقد ساعدت هذه الممارسة العضوية للكتابة على التحام كتابة المغامرة مع مغامرة الكتابة في إطار التزام كلي ومطلق مع الذات والتاريخ والعالم.
تلك بعض عينات رواية السيرة الذاتية في الجزائر، آثرنا تقديمها بإيجاز لأن هذا البحث لا يسع للإسهاب والتفصيل. والحق يقال إن كتابات جيل الخمسينات مازالت في حاجة إلى قراءات جديدة لاكتشاف أسرارها وخباياها. وقبل أن نختم البحث نورد بعض الملاحظات التي تضيء، بعض الشيء، هذا الجنس المتميز:
1- إن انتماء هؤلاء الأدباء لجيل واحد، هو جيل الخمسينات، جعل هذه السير تتقاطع أحيانا مع بعضها البعض، لتكشف عن شخصيات متشابهة، وعن قضايا مشتركة. ذلك أن التاريخ المشترك الذي ينهلون منه كلهم، قد ترك بصمات قوية على هذه السير الشخصية. يتجلى هذا التقاطع بصفة خاصة في الموضوعات ( الأرض، المرأة، المثاقفة، المدينة، الريف، الاغتراب، التشرد، صراع الأجيال، القمع الاستعماري، الصراع السياسي...الخ).
2- إن ما يميز السيرة الذاتية في الغرب هو ظهورها في فترة متأخرة من حياة الأدباء. فرواية السيرة الذاتية تأتي عادة تتويجا لمسار ثقافي حافل بالإبداعات وهذا الرصيد الأدبي الذي حقق شهرة الأديب، يكفل أيضا نجاحات الكتابات الجديدة التي يفترض فيها أن تمثل زبدة المعارف وقمة إشعاعية الكاتب. وكما يقول فاليري، فإن (( الأدباء يتفتحون بكتابة رغباتهم ويختمون حياتهم بكتابة مذكراتهم )).
بالنسبة لجيل الخمسينات، فإننا نلحظ رواية السيرة الذاتية هي الفعل المؤسس للكتابة الروائية. ذلك أن هناك حتمية تاريخية تجعل من هؤلاء الكتاب يفجرون ذاتهم ويصلبون نفوسهم ليقدموها قربانا للحرية والانعقاد. فالكتابة ليست اختبارا فنيا وإنما هي ضرورة وجودية وتاريخية.
3- إن الجرح العميق الذي لا يلتئم بالنسبة لأدباء الخمسينات هو جرح المثاقفة والاستئصال الثقافي. فذاكرة الأديب تسافر عبر الدنيا، ولكنها تعود دائما إلى الجرح البدئي إلى الهاجس المركزي الذي استبطنه اللاشعور. فالسيرة الذاتية تحاول عبثا تخطي صخرة سيزيف، ولكنها ترد في كل مرة إلى الذكريات المأساوية المؤسسة للاغتراب والقطيعة والذوبان في هوية الآخر.
4- وما يميز أيضا هذه الكتابات هو تأثرها بقيم المجتمع الجزائري الذي يعيش وضعية استعمارية خطيرة. فالكاتب، حفاظا على وحدة شعبه، لا يملك إلا مجاراة واحترام مقدسات المجتمع الذي يواجه خطر الموت وألف 9582*1ناء. لذلك عزف هؤلاء عن تعرية أنفسهم أمام نظرة الآخر، واكتفوا بالتركيز على الذات الوجودية والسوسيولوجية بعيدا عن متاهات الفضائح والتعرية والنرجسية التي نلحظها لدى كاتب الغرب.
5- نهاية رواية السيرة الذاتية هي دائما نهاية دالة. وعادة تكون هذه النهايات مفتوحة على كل الدلالات، ويبقى القارئ متعطش لمعرفة مآل الشخصيات. وهذه ضرورة تفرضها تقنية السرد والتشويق وتفرضها حياة المؤلف التي لم تنته بعد، ويفرضها التاريخ الذي لم يقل بعد كلمته الأخيرة. ويرى جان تيبودو أن ما يميز رواية السيرة الذاتية، أن البطل رئيسي لا يموت أبدا.
تلك ملاحظات مختصرة أريدها لها أن تكون إضاءة بسيطة لكتابة السيرة الذاتية التي تحتاج إلى اكتشاف كنوزها الدفينة. لأن هذا اللون من الكتابة لم يلق الدراسة العلمية الجادة والكفيلة بفك دلالاته والفنية والثقافية. ولأن الموضوع شائك ومعقد فإنه يحتاج إلى منهجية محكمة وإلى تضافر كثير من العلوم الإنسانية مثل علم النفس وعلم الاجتماع، والتاريخ والانتربولوجيا وعلم السرديات للإحاطة بكل جوانب الإشكالية.
الهوامش :
(1) فيليب لوجون: السيرة الذاتية - الميثاق والتاريخ الأدبي .
ترجمة علي حلي، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994 .ص-22-23 .
(2) أنظر كتاب عبد اللطيف محمد السيد الحديدي
في السيرة بين الذاتية والغيرية في ضوء النقد الأدبي، الطبعة الأولى، دار السعادة للطباعة، 1996.
(3) كتاب ينتمي إلى حقل الفكر الطوباري الذي ينقد الواقع المعيش ويسعى لاستشراف معالم المجتمع المستقبلي أو ما يسمى بالمدينة الفاضلة التي تمثل المجتمع الأمثل والمنشود .
(4) نجد حضورا قويا لأسطورته الشخصية في كتابه المختلف مثل البخلاء والحيوان والبيان والتبيين .
(5) CUSTOUVON
GRUNBOUM M:
L' identité culturelle de l'islam paris gallimard -N R F- 1973- p.p.138.141.
(6) "Nourddine bousfiha : " Entreten avec tahar ben jelloun
in les écrivains francophones...
(7) Kateb yacine : Nedjma , paris , seuil , 1956,, p.130.
(8) عبد الله الخطيبي: في الكتابة والتجربة
ترجمة محمد برادة، الطبعة الأولى، دار العودة، بيروت، 1980 ، ص .99