قراءة مفتاحية في رواية (ريح الجنوب) لعبد الحميد بن هدوقة

عكاشة شايف من جامعة تلمسان
" الأرض...المرأة على هذين المحورين بنيت هذه القصة الشيقة التي تناولت أبطالا عديدين، فحلّلت نفسياتهم تحليلا عميقا حتى جعلت منهم رموزا لطائفات تتصارع في كل مجتمع يسعى إلى تحطيم الأغلال لبناء مجتمع نام جديد.
عكاشة شايف من جامعة تلمسان
" الأرض...المرأة على هذين المحورين بنيت هذه القصة الشيقة التي تناولت أبطالا عديدين، فحلّلت نفسياتهم تحليلا عميقا حتى جعلت منهم رموزا لطائفات تتصارع في كل مجتمع يسعى إلى تحطيم الأغلال لبناء مجتمع نام جديد.
فنفيسة الطالبة الثائرة على الأوضاع وأبوها الإقطاعي الانتهازي وشيخ المجلس الشعبي البلدي أحد أبطال الثورة الداعي إلى الإصلاح الزراعي وصانعة الفخار التي تحاول أن ترسم وقائع الثورة على فخارها... كلهم أناس نعرفهم ونراهم في كل قرية من القرى الجزائرية"
ذلك هو الملخص الذي وضعه الناشر على غلاف الرواية وإذا كان الناشر عمد إلى هذا الملخص قصد تقديم نبذة موجزة عما يعتمل في باطن الرواية، بحيث هو يشارك الأديب الذي يضع العنوان لعمله الأدبي، فاني أحذر القارئ من محاولة الاكتفاء بعنوان الرواية أو بالمخلصات التي كثيرا ما تقدم لها وأن الملخصات وعناوين الأعمال الأدبية كثيرا ما تخون العمل الأدبي، بل هي كثيرا ما تكون إشارات ضالة أو خاطئة على طريق فهم العمل الأدبي بحيث هي قد توجه المتلقي في اتجاه بعيد عن الاتجاه السليم.
وعلى العموم إن هذا الملخص لأحداث الراوي يبقى مجرد لافتة ضوئية بسيطة، شأنها في ذلك شأن اللافتة التي توضع عادة على بداية الطريق لتشير إلى المدينة التي لا تزال بعيدة.
فالمسافة التي تفصل بين الملخص والعمل الأدبي كالمسافة التي تفصل بين بداية الطريق الطويل والمدينة البعيدة. فهل وصل - يوما - مسافر ظلّ واقفا على قارعة الطريق يتمعن في اللافتة التي تشير إلى المسافة الطويلة التي لا تزال تفصله عن نقطة الوصول؟.
ومهما يكن فإن هذا الملخص هو موجز أحداث هذه الرواية كما تصورها فصولها السبعة. ولكن من خاف هذه الأحداث المباشرة يبقى أشدّ تعقيدا مما يمكن استخلاصه منها. ولعل بعض هذا سيتجلى في ضوء القراءة الأولية التي سنحاول بواسطتها فتح بعض المنافذ على معالم هذه الرواية.
إن أبرز ما يصدم الملتقى عند مواجهته لأحداث هذه الرواية هو ذلك الصراع العنيد بين مخلفات الماضي ومستجدات الحاضر بين قيم عريقة وقيم جديدة، بين أنماط حياتية تقليدية ريفية وأنماط حياتية عصرية مدنية...
تبدأ الرواية بحوار جدلي طويل بين الطالبة (نفسية) والأم (خيرة) والعجوز رحمة، يدور كله حول محاولة إقناع كل طرف للآخر بالعدول عن قيمة: فالأم والعجوز رحمة تصران على ضرورة احترام التقاليد الموروثة عن الأسلاف، والتي تخص مكانة المرأة ووظيفتها في الحياة، أما نفسية فهي تصرّ على رفض هذه التقاليد ومحاولة تنصلّها من القيود العرفية الخاصة بوضعية المرأة في المجتمع الريفي. لقد طالعت نفسية قصصا كثيرة، صورت لها الوضعية المزرية للمرأة العربية (202) فأحبت أن تثور.. ثم ثارت ولكن...؟
فقد ترددّت في الرواية مواقف كثيرة تؤكد هذه المقولة، كان من بينها ما جاء على لسان نفسية و هي تتبرم من حظها التعس، الذي أنثى (203) تقول: "... هذه المرأة التي في الإرث لها نصف حظ الرجل، وفي الحياة لا حظ لها معه مطلقا. فهو أبدا السيد... وهي التي لها الحرية الخروج إلا ثلاث مرات في عمرها، الأولى من بطن أمها والثانية خروجها إلى الدار زوجها والثالثة إلى قبرها..." (202)
بل إن مكانة المرأة - فيما ترى نفسية - قد بلغت من الحضيض مبلغا يرى له فقد صار الرجل - في هذه المنطقة الريفية يستحي أن ينطق باسم زوجته أمام غيره، وإذا تطلب الأمر أن ينطق باسمها فإنه يسارع إلى أردافه بقول: (حشاك) (203).
وعلى الرغم من أن أحداث هذه الرواية جاءت لتصبّ في قضية المرأة، ومن هذه القضية تمثل المركز البؤري الذي تدور حوله المحاور الأخرى، فإن القارئ يلاحظ أيضا، بصيصا أخر يحاول في كل مرة أن يطفو على بساط أحداث هذه الرواية ولكن سطوع أشعة قضايا المرأة جعله يبقى خافتا، أنه بصيص الأمل الذي تخلل أحداث الصراع في حشمة، وتمثل فيما يمكن تسمية (قصة الناي)، بأنغامه وايحاته المتكررة عبر مساحات فصول الرواية كلها.
إن ما يعرف عن أصوات الناي أنها قد ارتبطت بالريفي أو الخلاء حيث الأفق المفتوح لا تصده الحواجز ولا تعكر صفوه الصخوب. وللناي صوت عذب لا يكاد يسمعه الإنسان حتى يستلذه، ويتوقف ليسمع إليه، أما في المدينة فإن صوت الناي يختلط بصوت صفارات السيارات وزئيرها ولا يمكن للإنسان أن يميز بين صوت الناي وبقية الأصوات، ومن تّم فإنه لا يتوقف ولا يولي أهمية لما يسمعه، ممّا يجعل الناي يبقى منطلقا في إنسانية فلا يعترض سبيله معترض.
وفي المقابل كانت المرأة في الريف هي الناي، فهي إذا ظهرت تصدي لها الناس بكل جوارحهم لأن ما يحجبها عندهم شفاف، أما في المدينة فإنها تذوب في غليان المارة، لا تجد من ينظر إليها ولا من يعيرها اهتماما، إنها تتحول من الناي إلى صخب، والصخب كريح الجنوب (أو القبلي) يزعج الناس وينفّرهم منه.
وهكذا فإن هذه المقارنة تجعلنا نفهم سرّ ورود قصة الناي وتكرارها في أحداث الرواية، تقول العجوز (رحمة) أن أنغام الناي " تتحدى الحر والغيوم" وانه لولا الناي لظّن أن القرية خلت من سكانها منذ سنين (26).
فما سرّ هذا الناي الذي يتصدى لريح الجنوب، ويتحدى كل عوامل الخراب التي تحل بالقرية؟
إنه بلا شك صوت، ولكنه ليس كأصوات الأموات الذين تتردّد عليهم النساء القرية كل جمعة (23-24) ولا هو كأصوات الشهداء الذين أزمعت سلطات القرية على إعادة دفن رفاتهم في مقبرة خاصة (41) إنه صوت الوجود الذي بعث الحياة في الصمت الكئيب المخيم على القرية (43) منذ أمد بعيد.
لم يكن صاحب الناي سوى الراعي (رابح) ابن البكماء ولكنه كان في خيال نفسية، أميرا يتبختر بين قطيعه (13-14).
إن صاحب الناي أمير في هذه البقعة الخالية، وصاحب (نفسية) أو أبوها هو أيضا أمير في هذه القرية الفقيرة، يتحكم (رابح) الراعي في قطيعه ويعزف له الألحان التي يريدها، ويوصلها إلى حيث يشاء دون أن يحجبها حاجب، كما يتحكم (عابد بن القاضي) في بنته (نفسية) ويزّوجها لمن يشاء ولكن وضعية الناي تختلف من المدينة عن وضعيته في القرية، كما تختلف وضعية (نفسية) في المدينة عما هي عليه في قريتها.
إن ضجيج المدينة يفقد صاحب الناي سيطرته على أنغامه فتخرج عن طواعيته، كما أن حياة المدينة تفرض على (عابد بن القاضي) أن يترك لـ (نفسية) حريتها في الخروج إلى الحياة...
وهكذا نخرج بمعادلة بسيطة تتمثل في أن: امتلاك (رابح) الراعي للناس يعادل امتلاك (عابد بن القاضي) لنفسية.
ولكن ما يلفت الانتباه، أننا لو عكسنا عناصر المعادلة، كأن نضع الناي في فم عابد بن القاضي ونجعل نفسية في البيت رابح الراعي (وهو بالفعل، ما حصل في لرواية، حيث شاءت أقدار الرواية أن تصبح نفسية في بيت رابح الراعي، وتكون
مهمة عابد بن القاضي الترويج وإشاعة أخبار زواج بنته بمالك) - فإننا سنجد المعادلة تأخذ حلا آخرا، وتصبح قابلة للاختزال، حيث يتّم القضاء على الراعي وعابد بن القاضي، ويبقى الناي ونفسية طليقين، وهو - فيما يبدو- الحل الذي كان يريد الكاتب أن يصل إليه من خلال القاعدة التي أمن بها عابد بن القاضي و هي أن "الأبناء حلّ" (48) لكل المشاكل.
شاءت المفارقة أن تنجو عابد بن القاضي بفضل القاعدة ( الأبناء هو الحل) فقد كانت نفسية " هي الحل... كما كانت من بنته زليخة هي الحلّ.. وكما كان ابنه الذي قتل أثناء غارة جوية هو الحلّ" (48).
لقد قدم عابد بن القاضي ولده وبنته زليخة قربانا أو فدية في أيام الثورة مقابل احتفاظه بأمواله، وقد تّم في عهد ما بعد الثورة تقديم نفسية عربونا لشراء تنازل الاصلاح الزراعي عن تأميم ممتلكاته.
هل نجح عابد بن القاضي الانتهازي في تطبيق قاعدته، الأبناء هم الحلّ؟
إن الرواية تؤكد فشله، لقد فقد الأبناء وبقي الحلّ في حاجة إلى حلّ.
ذلك هو ما أوصلتنا إليه أحداث الرواية، ولكن ما بقي مغمورا يحتاج إلى شيء آخر من التمعن هو ما يمكن التعبير عنه بالتساؤل التالي:
ما علاقة ريح الجنوب بأحداث الرواية؟
لو تمعنا في المهمة التي جعلت بن مالك عدوّا صديقا لعابد بن القاضي (29،33،47) وربطناها بمهمة ريح الجنوب - التي تسبّبت في خراب القرية (192)- لا نكشف خيوط الجواب.
لقد هبت ريح الثورة فأقلقت عابد بن القاضي الإقطاعي، وسارع حين ذاك إلى التستر بمالك المجاهد، وها هي الريح تهّب من جديد في عهد الحرية، ولكن عابد بن القاضي لم يغير من سياسته الانتهازية، فقد لجأ إلى الحيلة نفسها، وهو ما جعله يفشل في تحقيق غايته.
كان مالك جنديا يحارب العدوّ الغاصب وأصبح شيخ بلدية يشرف على البناء والتشييد، وفرق بين محاربة العدوّ وخدمة الصديق في عرف مالك، ولكن هذه القاعدة تبقى - في عرف عابد بن القاضي - معكوسة، لأنها تهبّ في غير صالح المصالح الخاصة، فهي كريح الجنوب تنشر غبارها على الطالح والصالح معا، وتجعل القرية حاوية على عروشها (75).
إن نقاط الربط بين مالك وريح الجنوب تمكن في أن كليهما يهبّ من خارج، فالرياح تأتي من خارج المكان وهو الجنوب، وجاء مالك من خارج الزمان، زمن الثورة التحريرية وهذا كله جعل عابد بن القاضي يعاني من القيود الخارجية. ومن ثمّ فإن موقفه لا يختلف - إلا من حيث النوعية - عن موقف نفسية ممّا يحيط بها من قيود ولكي يتخلص عابد بن القاضي من عوامل التلف راح يضع أولاده في مهب الريح، حتى يصدّوها عنه، ولكن الريح كانت أقوى من الأولاد، ففشلت نظريته، وبقي وحيدا في مهبّ الريح، تقذف به يمينا وشمالا إلى أن خرّ ميتا، واستمرت الريح...
وهكذا إذا جمعنا أهم عنصرين في أحداث هذه الرواية وهما: انتهازية عابد بن القاضي وعناد الطالبة نفيسة، وسلطنا عليهما ريح الجنوب، فإننا سنحصل على مخلفات، تبدو غير متوقعة وإن كانت تبقى في ميزان منطق الأحداث داخلة في إطار ما يمكن، إن الريح بما تحمله من زوابغ رملية تقضي عادة على كل ما هو بدون أساس متين، وتكسر أو تلوي عنق كل ما هو عنيد متطاول.
وقد وقع هذا بالفعل، إذ فشلت كل محاولات عابد بن القاضي (القائمة على الانتهاز لا على الإخلاص والحق)، كما انهار إصرار نفيسة وعنادها، وبقيت الريح تزمجر في الأفق معلنة حتمية انتصار على الباطل.
أما مالك فقد نجح، لأنه اعتمد على أسس ثابتة، آمن بها وعمل على تحقيق نتائجها. فكان هو الريح والريح هي مالك وهو فيما يبدو لي ما أرادت هذه الرواية أن تقوله.
ريح الجنوب، عبد الحميد بن هدوقة، ش.و.ن.ت/ ط.4 الجزائر