قراءة سيميائية في فاتحة رواية نوار اللوز للروائي الجزائري واسيني الأعرج

أ.د رشيد بن مالك جامعة تلمسان
1-0 فاتحة الرواية*
قبل قراءة الرواية التي قد تكون لغتها متعبة، تنازلوا قليل وأقرأوا تعريبة بني هلال. ستجدون حتما تفسيرا واضحا لجوعكم وبؤسكم. ما يزال بيننا، وحتى وقتنا هذا: الأمير حسن بن سرحان ودياب الزعبي وأبو زيد الهلالي والجازية (...)، فمنذ أن وجدنا على هذه الأرض وإلى يومنا هذا والسيف لغتنا الوحيدة لها مشاكلنا المعقدة(...)
وحتى لا أثقل عليكم وأبدو أتعس من أبي زيد الهلالي، أو الأمير حسن بن سرحان من (التغريبة) أقول أن أحداث هذه الرواية من نسيج الخيال بشكل من الأشكال، وإذا ورد أي تشابه أو تطابق بينهما وبين حياة أي شخص أو أية عشيرة أو أية قبيلة أو أية دولة على وجه هذه الكرة الأرضية، فليس ذلك من قبيل المصادفة أبدا.
واسيني الأعرج
من تأمل هذا الحادث من بدايته إلى نهايته، وعرفه من أوله إلى غايته، علم أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في المصالح العباد(...)
المقريزي: إغاثة الأمة في كشف الغمة
* "نوار اللوز، تغريبة صالح بن عامر الزوفري" دار الحداثة، بيروت 1983. رواية للكاتب الجزائري واسيني الأعرج ولد يوم 8أوت 1954 بقرية سيدي بوجنان الواقعة على الحدود الجزائرية المغربية نشأ في بيئة عائلية فقيرة. التحق بمدرسة القرية حيث تلقى تعليمه الابتدائي، ومنها انتقل غلى مدينة تلمسان لمزاولة التعليم الثانوي ثم تحول سنة 1973 إلى جامعة وهران لتحضير شهادة اللسانس في الأدب العربي وبعد تخرجه في سنة 1977، سافر غلى دمشق لمواصلة دراسته العليا، فتحصل على شهادة الماجستير برسالة موسومة "اتجاهات الرواية العربية في الجزائر" ثم على دكتوراه دولة بأطروحة عنوانها "تطور مفهوم البطولة في الرواية الجزائرية". ثم عاد غلى الجزائر ليلتحق بسلك التعليم الجامعي حيث يشغل حاليا أستاذ في الأدب الحديث بجامعة الجزائر.
1- النظام السيميائي لفاتحة الرواية/ البحث يفي مستويات النص وأشكال بنيته
تتصدر الفاتحة الرواية وتندرج ضمن ما يسمى عموما بخارجيات النص. يتأكد هذا الطابع الخصوصي بإمضاء بن (الأول للروائي واسيني الأعرج والثاني للمؤرخ المقريزي) هما بمثابة الحدود الفاصلة بين مقطعين نفترض أنهما يلتقيان دلاليا لتجسيد العلاقة بين السلطة والرعية.
ولئن كانت مستقلة عن النص الروائي وأحداثه وشخوصه، فإنها ملحقة به زمنيا ومرتبطة به دلاليا.
نلاحظ، من خلال قراءتنا لفاتحة الرواية، أن نظامها يختلف اختلافا جذريا عن نظام النص الروائي، فهي كلام على كلام وممارسة فكرية على خطاب منتج يسمى فيها الكاتب الأشياء بأسمائها بغرض إقامة تواصل مباشر وشفاف مع القارئ، وبهدف تحريكه نحو القنوات التي سيمر بها حتما نصه الروائي. إن هذه المترلة المتميزة والخاصة التي يحظى بها الكاتب تجعله يتبوأ من الفاتحة موقع المرسل/ المحرك الذي يسعى إلى إرساء قواعد الاتصال بالقارئ والتواصل معه في سبيل إقناعه بأمر يراه حقيقة تجسدها وقائع الرواية. من هذا المنطلق الأساسي تترع الفاتحة نزوعا برهانيا.
نفترض أن الفاتحة تقدم لنا تأويل الكاتب لحطابه وعالم روايته الدلالي والحوافز الحقيقية التي تختفي وراء تحركات شخوصه ورغباتها.
انطلاقا من المعطيات النصية، تحتوي الفاتحة على كل سمات الخطاب المعتبر كملفوظ "يتوجه به شخص إلى شخص آخر وينظم ما يقوله في مقولة المتكلم"(1) ونلتمس هذا التوجه الصريح في النص في نزوع الآنا الكاتب (المتكلم) بخطابه إلى الأنتم (القراءة):
"قبل قراءة هذه الرواية التي قد تكون لغتها متعبة، تنازلوا قليلا واقرءوا تغريبة بني هلال (الرواية ص5).
يحمل الفعل "تنازلوا"، في هذا الملفوظ، شحنة دلالية خاصة. تقول لإنسان "تنازل" عندما نجبره على فعل شيء هو غير مقتنع به والاقتناع هنا مقرون بقيمة النصوص الشعبية التي أضحت ثانوية بينما هي في الحقيقة تحتوي على العمق الذي لا يظهر حقيقة ما يريد النظام تفاديه وعدم إظهاره لأن دلالته خطيرة.
(1)E. Benveniste, Problème de linguistique générale, Gallimard, paris, 1974, T.2.P.79.
تبدو الرسالة MESSAGE الموجهة على القارئ واضحة المعالم. إن الكاتب، من موقع المرسل/ المحرك DESTINATEUR/ MANIPULATEUR، وباستعماله صيغة الأمر في "تنازلوا" و"اقرءوا"، يقدم، من ناحية، التغريبة على أنها مرور اضطراري لفهم النص الروائي، ويؤسس، من ناحية ثانية، القارئ فاعلا منفذا في برنامج ملحق ذي طابع معارفي تكون الغاية منه إحداث وصلة بينه وبين تغريبة تشكل مرجعيه نصية للرواية ولئن كانت القراءة هذا الفعل المعارفي الممارس على النص، فإن لغته المتعبة تعد محصلة طبيعية لفصلة disjonction القارئ عن التغريبة المنتجة اللامعرفة.
حتى يتحقق التواصل بين القارئ والنص وتزول الحواجز، وتصير اللغة مرنة، مريحة ينبغي أن يحدث تحول في كفاءة compétence القارئ يؤهله للانتقال من وضعية اللامعرفة غلى المعرفة.
ويعتبر هذا التحول الذي يدخل ضمن الإجراءات التشكيلية للكفاءة شرطا أساسيا يتوقف عليه الأبعاد الدلالية التي يمكن أن يستنبطها القارئ من النص السردي.
" ستجدون حتما تفسيرا واضحا لجوعكم وبؤسكم، ما يزال بيننا، وحتى وقتنا: ب{ هذا الأمير حسن بن سرحان ودياب الزغبي وأبو زيد الهلالي والجازية (...)، . فمنذ أن وجدنا على هذه الأرض والى يومنا هذا والسيف لغتنا الوحيدة لحل . . . . مشاكلنا المعقدة(...)" (الرواية، ص5)
يعتبر الملفوظ (ب) امتداد للملفوظ (أ) وتكريسا للبعد المعارفي لموضوع التحري objet de quete المعلن عنه منذ بداية الفاتحة في البرنامج القاعدي من الواضح أن انتلاك هذا الموضوع سيؤهل القارئ لممارسة فعله التأويلي على وضعه الاجتماعي وما يحمله من تناقضات.
يبدو الحاضر، بهذه الصورة التي يقدمها الأنا المتكلم، في الملفوظ (ب)، تجسيدا للماضي من حيث تلاقيهما في البؤس والمشاكل المعقدة والسيف.
ابتداء من الملفوظ (ب)، يتحول الخطاب لتذوب المسافة بين القارئ والكاتب الذي ينظم كلامه في مقولة المتكلم ويشمل/ أناه/ بالضمير/ نحن/ ( في وجدنا) ليؤكد انتماءه إلى الفئة الجائعة البائسة ويعبر عن طموحاته ورغبتها في تغيير الوضع تأسيسا على هذا فإنه يضعها وجها لوجه مع الفئة الظالمة التي تملك القدرة pouvoir على القمع في حل المشاكل المعقدة يأتي القمع هنا نتيجة حتمية لعدم إدراكها الجوهر الممارسة المعرفة الحرة وأهميتها في تنظيم نشاط إنساني يتجانس ورغبة الفئة المظلومة في تحرير طاقاتها برفع القيود عنها.
ومع نهاية الملفوظ (ب)، يلتقط الكاتب/ العنف/ في سياقه التاريخي ويقدمه على أنه ظاهرة تاريخية متوغلة في القدم عبر حقب زمنية مختلفة وممتدة إلى يومنا هذا.
لقد تحول العنف بفعل التداول والإرث إلى لغة (وحيدة مشحونة بالممنوعات) لتمارس حصورها ورقابتها وهيمنتها على لغة الآخر بهدف محاصرته وإقصائه تأسيسا على هذا، فإن الأمير حسن بن سرحان ودياب الزغبي وأبي الهلالي والجازية شخصيات لم تذكر لذاتها وإنما ذكرت في سياق الحاضر لتشغيل كنقاط مرجعية، أدلة دالة يفرزها نظام موروث ومؤسس على العنف والقمع والإقصاء.
بعد انتهاء الملفوظ (ب)، يتحول الخطاب من جديد من ضمير/ نحن/ إلى ضمير/ الأنا/ ليركز بعد ذلك على أحداث الرواية:
الخيال بشكل من الأشكال، وإذا ورد أي تشابه أو تطابق بينهما وبين حياة أي شخص أو أية عشيرة أو أية قبيلة أو أية دولة على وجه الكرة الأرضية، فليس ذلك من قبيل المصادقة أبدا (الرواية ص5).وردت الكلمات المركزية في الملفوظ (ج)، وعلى المستوى الشكلي، بخط بارز وأكثر اسودادا:
/تشابه/، /تطابق/، فليس ذلك من قبيل المصادقة أبدا/ لتؤكد القصدية (بوصفها نقيا لمصادفة) من خلال عمليتي/ التشابه/، ولنشعر القارئ محدود رسالة الرواية التي تحيل على الواقع يمثل مرجعها. ولئن كان الكاتب يقيم علاقة صدق بينهما ويخول لنفسه إخضاع النص إلى امتحان الحقيقة، فإنه، ينتهي في الأخير إلى أن تطابق النص مع الواقع، ومن خلال ذلك يتحقق الامتداد، فالتاريخ كواقع مضى يجد امتداده في واقع ما يزال حيا ومعيشا"(1).
(1) نقي الدين أحمد بن علي المقريزي، إغاثة الأمة بكسف الغمة أو تاريخ الجماعات في مصر، دار ابن الوليد ودار الجماهير الشعبية، دمشق 1956.
من هذه المنطلقات، وتأسيسها على ما سبق، نلاحظ أن الخطاب البرهاني للمرسل/ المحرك يشتغل على النحو يكون فيه فهم الوضع الراهن مربوطا بقراءة الضي، بعبارة أخرى إن المرسل/ المحرك يرغب في نقل القارئ من نص فاتحة الرواية إلى نص تغريبة بني هلال. وتشكل هذه النقلة برنامجا ملحقا يرتكز القارئ على تجلياته الدلالية للدخول في وصلة بتأويل وضعه الاجتماعي الذي يقدمه المرسل على أنه يتسم بـ من عناصرها الأساسية. إن المرسل يقدم القارئ على أنه يفتقر إلى المعرفة بوصفها موضوع جهة. تأسيسا على هذا، فإنه يضع القارئ أمام احتمال وارد عندما يقر بأن لغة نص الرواية بل تأويل جوع القارئ وبؤسه من هذه الزاوية، تعتبر قراءة الرواية برنامجا معلقا قد ينفذه القارئ وقد يعرض عنه ما دام الهاجس الأساسي للمرسل المحرك هو تأويل وضع القارئ الاجتماعي من هذه الزاوية، قد تم أي الفاتحة عن غايتها الأساسية المتمثلة في تقديم أجواء الرواية وتوجيهاتها الدلالية المحورية. غير أن المرسل يستدرك في النهاية الموقف ويورد نصا ثانيا نعتبره امتدادا للأول، من حيث حمولته الدلالية، وإطارا له في الوقت نفسه من حيث الحدود السياسية التي تشكل مرتكزا أساسا في تأويل وقراءة الظاهرة الاجتماعية.
"من تأمل هذا الحادث من بدايته إلى نهايته، وعرفه من أوله إلى غايته
د علم أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم
عن النظر في مصالح العباد(...)"
من الواضح أن هذا الملفوظ مأخوذ من المقدمة التي وضعها تقي الدين أحمد بن على المقزي لكتابة "إغاثة ألمه بكشف الغمة "أو تاريخ المجاعات في مصر" الذي يؤرخ للجماعات بوصفها ظواهر مادية اجتماعية صرفة. ويرد وجودها إلى ضعف السلطة السياسية وتمزقها وانصراف الحكام عن الاهتمام بشؤون الشعب وانقطاع كل صلة بينهما. ضمن هذا الإطار الدلالي العام يشتغل الملفوظ (د) ويتماهى بشكل قصدي وبرر مع المحاور الدلالية لنص فاتحة الرواية. لفهم هذا الملفوظ ينبغي أن نسلم بوجود منظورين الأول اللافظ المنتج لهذا الملفوظ. أما المنظور الثاني، فإننا ندركه من خلال زاوية النظر التي يقدم منها نص المقريزي ويضعه في السياق الدلالي لفاتحة الرواية.
1-1 المنظر الأول:
نلتمس حضوره في توقيع المقريزي بوصفة فاعلا في فضاء مرجعي (مصر) يلاحظ بعد عميق تأمل حادثا، ويصوغ أجوبة لفهمه في ملفوظ يقوم على ثلاث مرتكزات أساسية تبدو واضحة في التقطيع الآتي:
(من تأمل الحادث من بدايته إلى نهايته)، و(عرفه من أوله إلى غايته)، (علم أن ما بالناس سوى تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد). حتى نفهم التجليات الدلالية لهذا الملفوظ، سنرصد الوحدات المعنوية التي تدخل في تشكيل التأمل والمعرفة والعلم من منطلق تراثي:
إذا استندنا إلى لسان العرب، نلاحظ أن التأمل يستعمل للدلالة على النظر في الأمر بتثبيت وتأن من ناحية، والمشاورة من ناحية ثانية(1). أما المعرفة فإنها تقال لإدراك الجزئي أو البسيط(2).
ويأتي العلم كمحصة للتأمل والمعرفة بما أنه يحيل على إدراك الشيء بحقيقته في بعده الكلي والمركب(3).
ويطلق العلم على مجموع مسائل وأصول كلية تجمعها جهة واحدة. من هنا نلاحظ أن الخطاب المعارفي يتضمن ثلاث مستويات أساسية مسخرة لصياغة أجوبة على الإشكاليات التي تطرحها قراءة وفهم الحادث. ينبغي أن ننظر الى الحادث، في هذا المقام، على أنه المصيبة التي نزلت بالناس، وتحديدا المجاعات التي نسفت المجتمع المصري. تأسيسا على هذا، يقوم هذا الملفوظ على ثلاثة برامج: /التأمل/ و/ المعرفة/ و/ العلم/، يشكل الأول والثاني في تعالقهما برنامجا ملحقا يسخر لإدراك الأسباب التي أدت إلى حدود المجاعات (المعادل الموضوعي للحادث). إن الحادث بوصفة موضوعا للتأويل لا يمكن أن تدرك تجلياته الدلالية إلا إذا وضعناه في صلب بنية زمنية.
- ابن منظور لسان العرب المجلد الأول، دار الجيل، دار لسان العرب بيروت، 1988، مادة: أمل.
- إبراهيم مصطفى، أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر، محمد علي النجار، المعجم الوسيط، استانبول، تركية، 1989.
- نفسه
يوضح التأمل والمعرفة الشروط الضرورية لامتلاك الموضوع الذي يتحدد عبر عملية التحري Quête لمتسمة بالطابع السياسي. إن المرسل المحرك يسعى إلى إقناع القارئ بأن المصيبة التي نزلت على الفاعل الجماعي (أهل مصر) محصلة لسوء تسيير الحكام. وبالتالي فإن فهم آليات تسيير السلطة مرهون سلفا بتأسيس فاعل ممتلك لكفاءة ترتكز أساسا على التأمل والمعرفة. ويمكن أن نلاحظ في هذا المساق أن الخطاب يترع مترعا علميا بما أنه يفضي إلى تحديد طبيعة العمليات التي ينتظم وفقها فهم الحادث بوصفة ظاهرة اجتماعية يخضع هذا الخطاب لعمليات ثلاثة: أ) فهو يقدم الحادث كمشروع تفكير وكأي ممارسة علمية فإنها ترتهن في وجودها إلى التأني والتثبت في الأمر والمشاورة. إن التأمل بوصفة ممارسة فكرية يشمل لحظتين أساسيتين: بداية الحث ونهايته يعني النظر في الأسباب التي أفضت إلى حدوث الحادث محصلة لحلقات تمتد من بداية الحادث إلى نهايته. إن التأمل، في هذا المساق، هو النظر في العملية التحويلية المنتجة للوضع الراهن والمحدثة للحادث. ويتم من خلال هذه العملية لإعادة بناء، من خلال العناصر الملاحظة، الأفعال التي أسهمت بشكل أو بآخر في إفراز وضع خطير يؤدي في جميع الحالات إلى الموت. انطلاقا من المعطيات النصية، نلاحظ أن المعرفة هي في الواقع قراءة ثانية تتم عبرها عملية البناء. هذه القراءة خاضعة للمنطق المعكوس. فهي تبدأ من التأمل في نهاية الحادث. والارتقاء إلى مستوى أرقى منه من الناحية المنطقية والتدريجية إلى أوله. فهو يحدد من جهة موضوع التفكير ويحدد من ناحية ثانية التأمل. إذا استندنا إلى لسان العرب نلاحظ أن المعرفة لا تدرك من المنظور السيميائي في القدرة على برمجة العمليات الضرورية لتحقيق الأداء. ينبغي أن ننظر إلى المعرفة هنا استنادا إلى المرجعية التراثية التي تضبط حدودها الدلالية. وبالتالي فإنها إدراك جزئي يفضي بالضرورة إلى الإحاطة بالكليات إحاطة تمثل أرقى ما يصل إليه العلم انطلاقا من هذا التحليل الأولي. يمكن أن نحدد خاصيتين لهذا الخطاب مناسبتين للحظتين من التنظيم السردي. تتمثل الخاصية الأولى في السياق الذي يتم فيه امتلاك الموضوع عن طريق التأمل أولا والمعرفة ثانيا (الكفاءة). أما الخاصية الثانية، فإنها تتحدد عبر مسار يقود إلى الإدراك الكلي للحادث الذي تقف وراءه أسباب لا ينأى تأويلها عن الإطارين السياسي والاقتصادي. يمكن أن نحدد هذا التنظيم انطلاقا من منظورين يتقدم المنظور الأول بوصفة حدا لبرامج امتلاك المعرفة السياسية يهدف هذا البرنامج إلى التحري عن الموضوع معارفي بوصفة موضوع جهة يؤهله امتلاكه للتأويل السياسي والاقتصادية والسياسية المنصهرة في الموضوع المعارفي، شراء المناصب والمراكز الحكومية بغض النضر عن الجدارة.
الجدارة والأهلية. يقول المقريزي "السبب الأول وهو الأصل الفساد ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة، كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال. بحيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل. فتخطى لأجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يأمله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة، لتوصله بأحد حواشي للسلطان على ما يريده من الأعمال" (المقزيري، ص41) وتتمثل الهبة الضديدة دفع ما عليهم من دين تجاه السلطان وسد حاجتهم ثاميا وهذا يؤدي إلى ازدياد الضرائب ومصادرة الأموال وقد دفع هذا الوضع أهل الريف إلى هجرة فتتقلص المساحات المزروعة تقلصا يؤدي إلى قلة المنتجات الزراعية وارتفاع أسعار الموجود منها، وبالتالي تحدث الضائعات الضائقات الاقتصادية التي قد تؤدي إلى الجماعات. إن المقزيري يحرك القارئ لمعرفة جوهر الانسداد والإشكال القائم بين السلطة من موقع قوته ورغبة منه في تنمية ثروته يعرض المناصب السياسية وفي دوائر خاصة للبيع وفي مقابل ذلك يتحول الزبون إلى فاعل سياسي متحرر من القيود القانونية ومفتقد إلى الجدارة التي تمكنه من تسيير أمور الدولة التي يفرضها المقام السياسي يجسد مشروعه رغبته في استرجاع ما وهبة للسلطان من جهة وتنمية ثورته من جهة أخرى. في هذا المساق ندرك البعد التداولي للفعل السياسي. يخص المنظور الثاني إمكانات النظر إلى موضوع المعرفة السياسية على أنها تشكل رهان التواصل بالنسبة الكاتب والقارئ يبدي هذا الرهان إذا وضعنا نص المقزيري في صلب الإستراتيجية الخطابية للمرسل المحرك الأساسي واسيني الأعرج. ذلك أن إراده للمقزيري ليس مجانا فهو يشغل كعنصر أساسي في القصة القصيرة التي يروي أحداثها للقارئ والتي تشكل إطار عاما للقصة الكبيرة نوار اللوز. نعتبر فاتحة الرواية نصا سرديا لأنها تنطلق من وضع مضطرب يتجلى عبر الحادث ويسعى المرسل إلى تقديم المساعدة للقارئ الجماعي المحتمل بوصفة فاعلا متضررا من الوضع غير أن المساعدة المتمثلة في تحريك لمعرفة أسباب الحادث ومن ثم تمرده على السلطة السياسية يصطدم بالسيف بوصفة لغة السلطة لحل المشاكل المعقدة.
هكذا فإن المرسل المحرك ينتقل في خطابه من الأنتم ("ستجدون حتما"...) إلى الـ/ نحن/ ليطرح إشكالية التواصل بين السلطة والشعب من جهة والسلطة والمثقف من جهة أخرى وعلى اعتبار أن الكاتب يعد واحدا من رموزها. يضع القارئ والحكام وجها لوجه. وتحسم هذه المواجهة بالسيف.