قراءة سيميائية في رواية : " عواصف جزيرة الطيور " للروائي خلاص جيلالي 2 ( القسم الثاني ) .

الدكتور رشيد بن مالك جامعة تلمسان
1)خلاص جيلالي، عواصف جزيرة الطيور، منشورات مارينور، الجزائر، 1998
2)ولد خلاص جيلالي بعين الدفلى يوم 20 أبريل 1952 وهو من عائلة فلاحين بسطاء. زاول تعليمه الابتدائي بعين الدفلى، ثم التحق بدار المعلمين بخميس مليانة أين تخرج كمدرس 1970 . ويتحصل في سنة 1973 على شهادة الباكالوريا ليسجل بمعهد الحقوق جامعة الجزائر لتحضير شهادة الليسانس. غير انه توقف عن الدراسة في السنة الثانية لأداء الخدمة العسكرية في جيجل ووهران ( 1973 _ 1975 ). ( ثم عاد لسلك التعليم بعين الدفلى. لم يلبث أن استقال من التعليم ليستقر بالجزائر العاصمة ويشتغل كمترجم حر. تخلى عن هذه المهنة ليعمل في العديد من المؤسسات ( البنك، وزارة الثقافة شركة نشر وتوزيع الكتاب، المركز الثقافي بالعاصمة، وتوظف أخيرا بالمجلس الاعلى للإعلام ووزارة الاتصال والثقافة التي اخذ منها التقاعد في سنة 1997). بعد هذه الرحلة الطويلة تفرغ للكتابة الصحفية.
أعماله المنشورة
أ _ المجموعات القصصية لجيلالي خلاص :
- أصداء، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 976 .
- خريف رجل المدينة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر ط1، 1981.
- نهاية المطاف بين يديك، الدار التونسية للنشر، تونس، ط2، 1982.
ب _ روايات جيلالي خلاص :
_ رائحة كلب، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1985.
- حمام الشفق، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1986.
عواصف جزيرة الطيور، مارينور 1998.
- زمن الأزمنة المتوحشة، دار هومة 1998.
- بحر بلا نوارس، منشورات دحلب 1998.
- الحب في المناطق المحرمة، دار البرزخ 2000.
ج_ قصص الأطفال لجيلالي خلاص :
- سر المشجب، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1983.
- مرارة الرهان، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1984.
- الديك المغرو ، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1984.
- السفر الى الحب، دار الحضارة، دار ثالة، الجزائر 1997.
سنقتصر في هذه الدراسة على فحص المضامين الدلالية لرواية " عواصف جزيرة الطيور " من خلال تحليل البرامج السردية الأساسية للقصة والرهانات الموجودة بين الفاعلين المنفذين ومواضيع القيمة المستهدفة. وتعد هذه الرهانات في القصة التي بين ايدينا سياسية بالدرجة الأولى وتمس بشكل مباشر العلاقة بين السلطة والشعب في حقبة تاريخية طويلة تبدأ بالغزو الفرنسي للجزائر وتنتهي بأحداث أكتوبر الأليمة التي هزة الجزائر المستقلة سنة 1988.
تعالج الرواية إذن فترة حاسمة في تاريخ الجزائر خضعت لقراءات وتأويلات متباينة وصلت إلى حد التناقض أحيانا وهي خاضعة في الأعم والأغلب الى استراتيجيات سياسية يتبناها هذا المحلل أو ذاك لتعزيز توجه سياسي مبني سلفا.
في هذا البحث المتواضع، لا نولي أهمية لهذا النوع من الدراسات التي تصدر أحكام قيمة هي إلى الذاتية أقرب منها إلى الموضوعية التي تستمد أصولها من التفكير العلمي المرتكز أساسا على صوغ الفرضيات والتحقق منها في أثناء البحث. ولا ننظر إلى المنافسة النقدية على أنها منبر للدفاع عن قضية سياسية أو إيديولوجية. كما أننا لا نولي أهمية للتحليلات التي تدرس النص من خارجه. لقد أثبت مثل هذه التوجهات النقدية فشلها في فض الاشكالات التي يطرحها النص على جميع الأصعدة. سنفحص في القسم الثاني من هذا البحث التجليات الدلالية للنص التاريخي في الرواية والآليات التي تحكمه عبر عملية التناص والمهيمنات السياسية التي ترتهن إليها في ضوء المعطيات النصية.
انتهينا في تحليلنا السابق إلى أن ناتجة أصلا عن نظام سياسي متآكل من الداخل تحكمه مجموعة من القيم المضطربة ( مصادر الحريات الفردية والجماعية، الاختطافات، الاغتيالات) المسخرة لـــــ " وضع الوطن في الجيب " إن سوء التسيير الذي يقف وراء الوضع المهتري الذي آلت إليه البلاد يشكل حقسقة هي بمثابة الرسالة التي يحرص الراوي على " نشرها حتى لا يسجن التاريخ (" الرواية ، ص .52 .. ) فهو يسعى إذن إلى تحرير التاريخ باستشارته.
إن الكاتب في احتلاله لموقع المرسل المحرك يضع منذ البداية القارئ وجها لوجه مع نص تاريخي ويؤسس الرواية عليه. ويتقدم كوسيط بين لحظة حاضرة (زمن الكتاب) ولحظوة ماضية ( زمن الأمير عبد القادر ):
" أعلم أن هذا الإقليم، منذ دخل في حيز العمران، مأوى الفتن وعش الأهوال والمحن ومنتزى الملوك والثوار ومطمح نظر الكبار و الصغار، فما هدأت لأهله روعة ولا طابت لهم فيه هجعة ولا خيم بساحته أمن، ولا فارقه الورع والوهن ولا خلا منه زمان من قراع الكتائب ومفاجأة المصائب والنوائب.
ومع هذا، ترى مساجده ومدارسه بالعباد والعلماء عمارة، ومجالسه بالأذكار وأنواع العلوم زاهرة " ( تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبد القادر، الرواية، ص .7).
من هذه المطلقات، يحتل الخطاب الروائي موقعا تناصيا intertextuel (1) بما أنه يمارس عليه سلطته ويشتغل ضمن أطره الدلالية المحددة سلفا. وسوف نلاحظ أن المسارات الصورية التي تحكم هذا النص ستتوزع بطريقة أو بأخرى لتتماهى في أشكال سردية وخطابية عبر النظائر الدلالية التي تضمن تجانسه.
إن تصدير الرواية بنص ذي طبيعة تاريخية واستناده لهيئة تلفظية ( الأمير عبد القادر ) مرجعية référentielle معناه أن الكاتب يؤسس منذ البداية القارئ فاعلا في برنامج تكون الغاية منه التحري عن المعرفة التاريخية بوصفها موضوع جهة objet modal أساسي. ينبغي أن نفهم الموضوع في هذا المساق على أنه عنصر مركزي يدخل في تشكيل كفاءة القارئ وهو إلى جانب العناصر الأخرى، يؤسس القارئ فاعلا منفذا في برنامج تكون الغاية منه التحري عن الحقيقة التاريخية والدخول في وصلة بها. فهو يضع النص في رحم الأحداث التاريخية التي عرفتها البلاد. ولهذه الاعتبارات، يحتل الكاتب موقع المرسل المحرك الذي يفعل القارئ لممارسة نشاط معارفي يهدف إلى بناء معرفة تاريخية تشكل خليفة لتأويل وفهم ما وقع في الزمن الحاضر. إن هذه الدعوة الصريحة لتحرير التاريخ تشتغل في الاتجاه المعاكس تماما لبرنامج الفاعل الضديد المجسد للسلطة والرافض للتاريخ. ولئن كان الفاعل الضديد ينظر إلى التاريخ على أنه / غير ضروري / ( لا وجوب الكينونة )، فإن الكاتب، في استشارته لهيئة مرجعية، يعتبر التاريخ / ضروريا / ( وجوب الكينونة )(1) وممرا اضطراريا وإذا كانت السلطة حريصة على سجن التاريخ فلأنها راغبة في البقاء وغير مكترثة لافتقارها إلى هذه القدرة ( ص . 135/136 ) على ولوج كينونة تجليات الفعل الإنساني. من هنا فإن التاريخ ليس فقط موضوعا لخطاب يسجل وقائع حدثت بالفعل في الماضي، بل إنه موضوع اجتماعي DISCOURS SOCIAL حامل للقيم السائدة في المجتمع والتي من خلالها يستطيع القارئ قياس مدى تنافر أو تتجانس التفاعلات الاجتماعية مع التوجهات العامة للسلطة .
نلمس هذه القضية في النص الذي قدمه الكاتب من خلال تنبيهه منذ البداية إلى الاضطرابات والتمزقات الاجتماعية الممتدة في هذا البلد إلى العمران (3). وتأكيدا لهذه المعرفة الراسخة لدى الكاتب، نلاحظ أن الفقرة الأولى تحكمها مهيمنة دلالية تحيل على عام مشحون بالحروب المتواصلة والموت. نستشف ذلك من خلال الحقل المعجمي الآتي: يقدم جون كلود جيرو دراسة رائدة في مجال البحوث السيميائية التابعة لمدرسة باريس. ويعد هذا الإسهام العلمي المتميز قراءة من القراءات الممكنة لخطاب لــ لوسيان فيبر حول الممارسة التاريخية. ترمي هذه القراءة إلى تأسيس وتوضيح الطريقة التي يبنني بها التاريخ. وقد لاحظ الباحث أن الفقرات الأولى من نص لوسيان فيبر تسعى إلى طرح موضوع التحري التاريخي. فيما تهدف الفقرات الثلاثة الموالية إلى توضيح الشروط الضرورية والعمليات اللازمة لامتلاك الموضوع المحدد سلفا. وتقدم الفقرات الثلاثة الأخيرة نموذجا لفعل المؤرخ الذي انتهى إلى امتلاك الموضوع. وقد سمحت له هذه الملاحظات من تجميع الفقرات وفق مختلف المقامات التي تشتغل عليها العلاقة فاعل / موضوع. انطلاقا من هذا الوصف الأولي، أشار إلى إمكانية تحديد مظهرين من الخطاب مناسبين للحظتي التنظيم السردي:
أ_ سياق امتلاك الموضوع " المعرفة التاريخية ": يتعلق الأمر هنا بفعل يفترض وجود كفاءة.
ب_ تبليغ الموضوع الذي امتلكه الفاعل الكفء إلى المرسلين إليهم. ويرى الباحث أنه إذا أردنا وفق طريقتين: إما بالنظر إلى الفعل المنتج، يعني باعتباره جدا لبرنامج الامتلاك، وإما بالنظر إلى علاقته بالمرسلين إليهم وفي هذه الحالة ينظر إلى التاريخ بوصفه رهانا للتبليغ.
(3) العمران: ما يعمر به البلد ويحسن حاله بواسطة الفلاحة والصناعة وكثرة الأهالي ونجح الأعمال والتمدن ( المعجم الوسيط ).
- الفتن، الأهوال، المحن، الروع، الوهن ،
الحروب والموت
الغزو، قراع الكتائب، المصائب، النوائب.
غير أن المقطع الثاني من هذا النص يفرز قيما مجسدة في فضاءين يعد الواحد منهما امتداد للآخر ويحيلان على عالم متصف بقيم السلم والتسامح . ويطرح هذا المقطع إشكالا في غاية التعقيد بالمقارنة مع المقطع الأول. كيف يمكن أن المساجد والمدارس عامرة والأذكار وأنواع العلوم زاهرة والبلد ممزق وعرضة للمصائب والنوائب والغزوات المتصلة، وأهل البلد في اضطراب وقلق كبيرين كيف نوفق بين السلم والتسامح والحياة والحروب المتواصلة والموت؟ حتى نرفع حدود التناقض الموجود على هذا المستوى، سنلاقي هذا النص بالسياقات السردية التي يحيل عليها والمضامين الدلالية التي يتفاعل معها انطلاقا من النظر الدلالي (4) . isotopie sémantique استنادا إلى الدلالات المحورية المسجلة في النص الافتتاحي للأمير عبد القادر ، نلاحظ أن القصة تحيل عليها مباشرة لإقناع القارئ بحقيقة ما يجري في اللحظة الحاضرة وأن الخطاب السردي محمل بحقيقية تاريخية . إن المقولات المسجلة في النص تشكل إطار لخطاب مرجعي ( تاريخي ) تجسده قصة تروي وقائع حدثت في الجزيرة وتظهر تجلياتها في المقطع السردي الآتي:
" خلال تلك الأيام العصيبة داهمنا تاريخ الجزيرة بأهواله ومحنه وكوارثه المتلازمة عصرا بعد عصر" ( الرواية ، ص .19).
يلتقي هذا الملفوظ بالنص الافتتاحي للأمير عبد القادر من حيث العلاقات الدلالية التي يفرزها تفاعل النصين في إطار التواصل الكلامي communication verbale. يمكن أن نلمس تجليات هذا التفاعل في الحمولة الدلالية المشتركة بين النصين على النحو الآتي :
النص الافتتاحي |
الموضعة الزمنية |
النص الروائي |
الموضعة الزمنية |
/ الفتن/، /الأهوال/، /المحن /،/ الروع/،/ الوهن/،/ المصائب/،/ النواب/. |
منذ دخل في حيز العمران |
/ الأهوال /،/المحن/،/الكوارث/. |
عصرا بعد عصر |
يمكن أن ننقل هذا الجدول على الصعيد الدلالي على النحو الآتي :
النص الافتتاحي |
الموضعة الزمنية |
النص الافتتاحي |
الموضعة الزمنية |
الحروب المتصلة |
قبل الآن / بعد |
الحروب المتصلة / الموت |
قبل / الآن /بعد |
استنادا إلى هذا الجدول، نلاحظ أن التواصل الاجتماعي الممكن تؤطره حروب متصلة وبشكل تعاقبي. فــ/ البعد / في النص الافتتاحي يجسد / الآن / في النص الروائي ذلك أن الراوي بوصفه هيئة لافظة حاضرة يقدم نصا يروي أحداثا وقعت بالفعل وينقل شهادة هي بمثابة الحجة والملاحظة لوضع اقتصر فيه المؤرخ على منظور يغطي على ما جرى لأهل " هذا الإقليم" . ولئن كان الراوي أولى أهمية خاصة لهذا المنظور، فإنه سكت، على الأقل في النص الذي بين أيدينا، عن الفاعل الحقيقي الذي يقف وراء المأساة التي لحقت بأهل الإقليم. حتى لو سلمنا بوجود الفاعل المستعمر (مطمع الكبار)، فإن الإشكال يبقى قائما بخصوص الفاعل في المراحل السابقة على الفترة الآنية للراوي (قبل 1830 ).
" خلال تلك الأيام العصيبة داهمنا تاريخ الجزيرة بأهواله ومحنه وكوارثه المتلازمة عصرا بعد عصر " ( الراية ، ص .19 ).
إن الراوي، في هذا المساق، يشمل أناه بالضمير الجمعي ( داهمنا). ويعبر هذا الملفوظ عن السلطة التي يمارسها التاريخ على الفاعل الجماعي. لم يكن يتوقع الراوي الوقع العنيف لـــ / الأهوال/ و / المحن / و / الكوارث / ولم يكن مهيئا لتلقيه. نستشف ذلك من خلال الحمولة الدلالية للوحدات المعجمية الآتية :
/ الأهوال / : الأمر الشديد. الخوف والرعب.
/ المحن / : البلاء والشدة.
/ الكوارث / : النازلة العظيمة.
ويقدم هنا التاريخ على أنه مجموعة من الأحداث المتسمة بــ / الشدة / والباعثة على / الخوف / و / الرعب /. ينبغي أن نفهم الحدث على أنه تغيير في الوضع الاستراتيجي للفاعل. يعني بوصفه فعلا يقوم به فاعل فردي أو جماعي ويؤوله فاعل عارف cognitifيحتل في هذه الحالة موقع العامل الملاحظ الذي ينقل لنا من زاوية خاصة ما وقع. وهي زاوية تغطي مجال الفاعل الضحية.
حتى نفهم حقيقة ما وقع، ينبغي أن نبحث في مواقع نصية أخرى على العناصر التي يمكنها أن تساعدنا على رفع الالتباس حول حقيقة الفاعل الذي مارس العنف على أهل هذا البلد. يمكن أن نشير هنا إلى أننا لا نحتفظ إلا بالعناصر المتوافقة مع المنظور المنهجي الذي نتبناه في سبيل فض بعض الإشكاليات التي يطرحها النص الذي بين أيدينا.
إن الأيام العصيبة التي أشار إليها الراوي بدأت تتحدد زمنيا وبشكل تدريجي في قصة وإن أنبنت على أسطورة فإن أحداثها التي وقعت بالفعل أحدثت وضعا جديدا يتسم بالاستقرار. وقد بدأت هذه الأحداث ن على نحو ما يرمي ذلك سيدي منصور لشجرة البلاطتان الضخمة، بإحداث اضطراب في الجزيرة بالغزوة التي قادها شارل كان في سنة 1541. تلقى هذه الغزوة التنبيه الوارد من المقدمة الافتتاحية التي صدر بها الكاتب الرواية. التي تشير إلى أن هذا الإقليم أضحى ".
مطمع نظر الكبار والصغار "( الرواية ، ص .7 ). إن الأيام العصيبة في هذا المساق هي محصلة للبرنامج العسكري الذي قام به الفاعل المنفذ شارل كان في سبيل الاستيلاء على الجزيرة:
" هاجم ( شارل كان ) هذه الجزيرة سنة 1541 وهو يقود بحرية ضخمة يساندها فرسان (...) غير أن فرسانه وأسطوله فشلوا في الاستيلاء على بيضائنا الناصعة " (الرواية ، ص . 7).
في هذا الملفوظ لا يحدثنا الراوي عن الفاعل المنفذ في البرنامج الضديد الذي نجح في المحافظة على "البيضاء الناصعة" وعن كفاءته في تحقيق الأداء العسكري وعن إستراتيجية حربية. ومقابل هذا ، فإنه اختار زاوية الفاعل المعتديagresseur sujet. إن العلاقة بينهما محينة actualisée في برنامج سردي يشتغل في التاريخ الذي يحمل شكلا مؤنسنا، من المنظور الزمني، اشتغالا متصلا و مستمرا تظهر تجلياته على الفاعل الجماعي في الأهوال والمحن والكوارث الباعثة على وضع متسم بالحرب والموت. يتخذ هذا البرنامج شكل القدر المحتوم الذي لا فكاك منه ذلك أن الفاعل الجماعي معطل ومشلول على جميع الأصعدة لا يملك القدرة على القيام بفعل مضاد يوجه لفعل التاريخ. من هنا، فإنه يخضع خضوعا كليا لسلطته فهو لا يستطيع أن يغير مجراه في اتجاه الحياة، ولا يستطيع أن يصنعه بما أنه لا يملك القدرة على مواجهته. تأسيسا على هذا، يرمي الخطاب إلى قلب الوضعية الأولية بإظهار الحاجة والضرورة إلى التاريخ. إن تغيير مجرى التاريخ يعني امتلاك سلطة صناعته وكتابته والدفاع عن الذاكرة التي تحمله. إذا كانت الذاكرة الجماعية مغيبة، فهذا يعني أن حقها في معرفة حاضرها المرهون بماضيها مهضوم. ومن ثم وجب علينا أن نبحث عن مالك هذه السلطة في موضع آخر بما أن التاريخ لا يمكن أن يضطلع بمهمة المرسل المحرك و الصانع للأحداث المتعاقبة.
يظهر المرسل والمحرك الحقيقي للتاريخ في السلطة الممثلة في شيخ الجزيرة وجلاوزته: " لم يعجب ذلك شيخ الجزيرة وجلاوزته، فألقوا القبض على سيدي منصور واجتثوا الشجرة الطيبة من جذورها، ولما أصر الرجل على صحة النبأ، خوزقوه وشنعوا بجسده، بعرضه سبعة أيام وسبعة ليلاي (...) ترهيبا لكل من تسول إليه نفسه نشر الأنباء المغرضة ( في نظر الشيخ الأكبر ) التي تقلق راحة أهل الجزيرة وتكدر صفوهم " ( الرواية ، ص . 24).
إن الشيخ بوصفه حاكما ومسيرا لشؤون رعية الجزيرة يستغل موقعه في السلطة لقمع كل معارضة إعلامية. يلقي القمع في هذا المقام في الظاهر تبريره وشرعيته في الراحة التي يشهر الشيخ الأكبر على توفيرها لأهل الجزيرة والتي تخول له خرق وجوب الإعلام وحرية التعبير والحق والإعلام. إذا دققنا النظر في هذه المسألة فإننا أن الخطاب السياسي الذي تعمل السلطة على تجليته يتحرك في الظاهر وفق آليات تحتكم إلى منطلق قد يجعل المتلقي يقتنع بسهولة أن السلطة تراهن على راحة أهل البلدة. بما أنها تمثل الإدارة الشعبية، فإن كل فعل تقوم بتحقيقه في سبيل تحقيق الرغبة الجماعية لأهل البلدة مستمدة من هذه الرادة. يتعدد هذا الفعل ويتنوع وفق ما يتطلبه الوضع (المطاردة، التشنيع بالجسد، الترهيب). إن الرجل (سيدي منصور ) يخرج من هذا المنطق ويسعى إلى تحريك أهل البلدة لإعداد العدة لمواجهة العدو العتي القادم من الشمال. إن إصرار الرجل على صحة هذا النبأ يعني بكل وضوح أنه تقصى الخبر في مصدره وأن هذا الخبر مطابق لحقيقة ما سيجري. تكتسي عملية التحريك أهمية بالغة لاعتبارين أساسيين. أولهما: تأتي هذه العملية في غياب قنوات الاتصال بين السلطة وأهل البلدة ، لفضح السلطة وإقناع الرأي العام بسوء تسييرها وغفلتها عن النظر في شؤونه المصيرية. ثانيهما: إن عملية التحريك تتعدى الفعل الإعلامي لتتحول إلى معارضة سياسية حقيقية تسعى في المقام الأول إلى تعبئة أهل البلدة للدفاع عن وطنهم وحقهم في الحياة وإشعارهم ضمنيا بتواطؤ السلطة مع العدو. إن تأويل الشيخ لهذه الحقيقة يرتكز أساسا على إخراج العلاقة الطبيعية: سلطة / إعلام / معارضة من منطق الحرية في التعبير الحر عن وقائع الحياة اليومية والإعلام و إدخالها في المنطق الصراع والمواجهة والقمع من خلال تأويل / الأبناء / والنظر إليها على أنها مغرضة. تأسيسا على هذا، تسعى السلطة من خلال اتهامها للرجل وقمعه إلى نسف الإطار التمثيلي الذي ينضوي تحته برنامج سيدي منصور الهادف إلى إشعار أهل البلدة باجتياز العدو ...
الخاتمة :
انطلاقا من المعطيات النصية، وتأسيسا على الملاحظات السابقة، يمكن أن نسجل، على مستوى القصة، القطيعة الموجودة بين السلطة والشعب، وغياب قنوات التواصل بينهما على جميع الأصعدة. يلجأ الراوي منذ البداية إلى تنويع زوايا النظر لهيئات تلفظية تروي من موقع تجربتها ما وقع لها من أحداث مأساوية تسببت فيها السلطة. هذه التجارب هي بمثابة الشهادات الحية تجري مجرى الحجة على الممارسات القمعية للسلطة وهي حجة تلغي علة وجودها على هرمها ما دام حضورها لا يمثل ولا يخدم إلا فئة قليلة وهي فئة " المشايخ ". على هذا الأساس ن نلاحظ أن إستراتيجية الخطاب، في هذه الرواية، ترتكز أساسا على آلية منطقية يتم فيها بناء الفعل الإقناعي من داخل النص وعلى أساس الوضعيات السردية المفرزة على الصعيد السطحي وانطلاقا من برامج سردية محكومة سلفا برهانات صراع الفاعلين في صلب النص. وهي رهانات خطيرة تمس إشكالية السلطة في تسيير شؤون الرعية وتصدع العلاقة بين السلطة والشعب من ناحية والسلطة والفئة المثقفة من ناحية ثانية.
الهوامش:
(1) Louis panier, le discours, d’interprétation dans le commentaire biblique in : Introduction à l’analyse du discours en sciences, sociales, Hachette, Paris , 1979, p.251.
(2) J.C.Giroud Apogée pour L’historien Analyse d'un article de Lucien Febvre in : Introduction à l’analyse du discours en sciences, sociales, Hachette, paris, 1979, P 132.
(3) العمران: ما يعمر به البلد ويحسن حاله بواسطة الفلاحة الصناعة وكثرة الأهالي و نجح الأعمال والتمدن ( المعجم الوسيط ).
(4) نستعمل مصطلح النظير للدلالة على " مجموعة مكررة من المقولات الدلالية التي ترد القراءة الموحدة للحكاية ممكنة ".
لمزيد من التفصيل حول هذه المسألة ، انظر:
A.J.Greimas, Sémantique structurale, P.U.F, Paris, 1986, p.87.
A.J.Greimas, J.Courtés, Dictionnaire raisonné de la théorie du lanpaqe, Hachette, Paris, 1978 .p .197 .
A.J.Greimas, Du Sens, Seuil , Paris , 1970.P 188.
- إن الموضعة الزمنيةlocalisation temporelle التي ترتكز على إجراءات الفصل والوصل الزمنيين تقطع وتنظم التتابعات الزمنية مشكلة بذلك إطارا تستقر فيه البنيات السردية . أنظر :
A.J.Greimas, J.Courtés, o.p.p 388.