في شعرية الكتابة الروائية العربية فعل السرد ونسقية التحول

أستاذ السيميائيات وعلم الأسلوب/ لعموري زاوي
معهد اللغات وعلوم الإتصال
قسم اللغة العربية وآدابها
أستاذ السيميائيات وعلم الأسلوب/ لعموري زاوي
معهد اللغات وعلوم الإتصال
قسم اللغة العربية وآدابها
" لا يمكن للحداثة أن تصبح سوى مهاترة وادعاء فارغين من المعنى إذا ظل الروائي يضيف الكم إلى تجربته من عمل لآخر، ولا يضيف التحولات النوعية من عمل لآخر" م.ع. التازي (سؤال الحداثة في الرواية المغربية، عبد الرحيم العلام، إفريقيا الشرق، 1999، ص10).
- بسط منهجي:
تسعى هذه المداخلة إلى تتبع واقتفاء أثر الرواية العربية في مراحلها المختلفة بغية كشف التغيرات والتحولات التي أصابتها، وأسهمت في تطورها وازدهارها أشكالها، ولعل المحور الكبير الذي تصب في إطاره هذه المساهمة البسيطة في تمظهره العنواني الموحي بالتغير وتحقق النقلة في الجنس الأدبي الموسوم "بالرواية" يجعلنا نطالع القارئ بعنونه تخدمه، بل وتحاول التعمق والغوص في إستراتيجية التحول وتبين آلياته وأدواته الإجرائية المجلية لحقيقته.
من هنا كان لزاما علينا مساءلة الخطاب النقدي العربي المشتغل على الرواية في تصوره لهذا التحول من منطلق اشتغاله على بعض النصوص والتجارب الروائية العربية على اختلاف مشاربها وأهواء أصحابها، وتعدد منظوراتهم المنبعثة عن قراءاتهم لواقعهم والمراحل التاريخية التي عايشوها، فكان من جملة التفكير في هذه التجارب صوغ هذه الأسئلة التي قد تحمل أسئلة أخرى منضوية في إطارها كبنية من بنياتها
ما الذي نعينه بالتحول في الكتابة الروائية؟
ثم إذا كان الإقرار بالتحول نتيجة منطقية لتطور الرواية، فإن هذا الإقرار في حد ذاته يعني فيما يعنيه أن الرواية مرت بمرحلة أولية كان فيها تقليد الكتابة في الرواية صورة منفعلة عن كتابة أخرى فاعلة، أو لنقل صورة منفعلة عن كتابة أخرى فاعلة، أو لنقل صورة محاكية لتجارب تأصيلية للجنس الروائي
ومن ثم حق لنا التساؤل عن الأصول والمرجعيات المسهمة في إقامة الجنس الأدبي المعروف بـ "الرواية" كمرحلة أولى لابد منها ليتحقق للتحول معناه، عندها فقط يمكننا الوصول إلى استجلاء مظاهر التحول في الرواية العربية.
ويأتي المبحث الثاني من مداخلتنا لمعاينة استراتيجيات التحول من خلال رصد آلياته ومصوغاته، عبر المصطلحات التي تعبر عنه وتصفه كــ "التجريب" و"التحدث" و"التشخيص" ونحو ذلك، وهو ما يمكن تلمسه عند التصدي لقراءة المنتوج الإبداعي الروائي على وفرته وتباين أساليبه وأشكاله السردية المغربية.
وأخيرا نخلص إلى تبين الجوانب التي يطالها التحول، وأعني بذلك المستوى الشكلي والمستوى المضموني والموضوعاتي، دون إغفال الفوارق المنهجية بين الرواية كنص والرواية كخطاب ومشروع منفتح ومستمر استمرار عملية القراءة، وخصوصيات كل منهما في الاستجابة لمفهمة التحول.
المبحث الأول: الرواية العربية وتمثلات الجنس الأدبي:
يبدو جليا من خلال هذا الطرح العنواني أن الرواية العربية كانت تسعى إلى البحث عن قواعدية معينة تستدل بها عن وجود وعي كبير بأهمية الجنس الأدبي، وكان لابد من مساءلات متعددة للرواية العربية في أصولها وأولياتها حتى يصبح للتحول معنى وقيمة، فكان أن خلصت هذه المساءلات إلى طرح سؤال كبير ما يزال يثير جدلا واسعا بين النقاد والباحثيتن.
هل يوجد نظرية للرواية العربية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال الكبير يحتاج إلى موضعه الرواية العربية ضمن السياق الذي ظهرت فيه، بدء من البحث في تكوينها وجذورها، والانتهاء بمعاينة طبيعتها ومما تستمد مرجعيتها.
لكن الاصطلاح على النص السردي بــ "الرواية" يجعلنا نقر بالجنس الأدبي قبل أن نسائل بنيته، وما به تحقق الرواية استقلالها على المستوى التجنيسي، في حين أننا نسعى إلى الوقوف على التمثلات الأولى للجنس الأدبي من خلال الرواية.
- فما هي الرواية أولا حتى نصل إلى تعيين الجنس؟
إنه لسؤال قليل الأهمية في نظر القارئ العادي، فكثيرة هي النصوص السردية التي نقرأها على أنها روايات، ولكنها لا تثير إشكالا يتعلق بجنسها، وأن نقرأها نصوصا حديثة لا تخضع للمعايير السردية التقليدية لا يبرز تبريرا كافيا الحديث في طبيعة الجنس... بيد أن المتأمل في النقد العربي الحديث يدرك أنه لم ينشغل بجنس الرواية، وطبيعة نموه، وصلته بأجناس الأدبية الأخرى، فكأنه على يقين بحداثة هذا الجنس الأدبي وبانقطاع صلته بالأجناس الأدبية الموروثة، كما أن التراث النقدي وقد آمن بسلطان الشعر أهمل النصوص السردية، بل همش الأجناس الأدبية الأخرى كالخبر، والحكاية، والنادرة والمثل تنظيرا وتحليلا، ومع ذلك فإن الرواية باعتبارها جنسا أدبيا مستقلا تحتل الآن حيزا هاما من اهتمامات النقد العربي الحديث، ولكن هذا الانشغال لا يتعدى تحليل النصوص الروائية، والاستفادة من بعض المناهج النقدية الأوربية(1).
إن وصول إلى تمثل الرواية كجنس أدبي يستدعي الكشف عن أصولها ومرجعياتها التي تستمد منها حداثتها، وهنا ينبغي علينا التأكيد بأن "العلاقة بين النصوص والأنواع والمرجعيات قضية أساسية في كل بحث يروم تقديم تفسير لظهور الرواية.. وما دمنا نبحث في السياق النظري لتشكيل النوع الروائي يحسن بنا الوقوف على الخلفيات الثقافية التي بلورت فكرة الأجناس الأدبية عسى ذلك يكون مفيدا في إضاءة التكون الصعب للنوع الروائي كما فسرته الثقافة الغربية، وكما سيكون مفيدا في إعادة تفسير نشأة الرواية العربية"(2).
ومن ثم كان علينا مناقشة تلك المقولات النقدية والتصورات المختلفة بين الدارسين وما ذهبوا إليه من أمر تشكل الرواية العربية وحقيقة مرجعيتها.
1- إشكالية المرجعية:
إن المطلع على مواقف المشتغلين بالنقد الروائي سيلحظ أنها متباينة بل ومتضاربة أحيانا بشأن الرواية العربية ومرجعياتها، وهو اختلاف نابع أولا من هاجس البحث عن أصولها ونشأتها، وهذا الاختلاف "يدحض تلك الفكرة الدارجة لدى الكثير من النقاد والباحثين، والتي تؤكد بدون تعمق في البحث وممارسة جادة للنصوص الإبداعية العربية أن الرواية العربية هي الابن الشرعي للرواية الأوربية والثقافة الغربية عموما"(3)
ذلك أن ما أكدته كوثر عبد السلام البحيري جازمة وبدون أدنى احتراز قد يثير قلقا بين القراء فضلا عن الباحثين والدارسين إذ تقول "سوف يكون للتأثير الفرنسي على الأدب العربي في مصر فضل خلق لون أدبي جديد هو القصة بصورتها الحديثة... وتضيف "صحيح أن الأدب العربي عرف فن القصص من قديم العصور، وأنه خلط القصة بالأسطورة الهندية والفارسية مما ترجمة ابن المقفع في كليلة ودمنة وخلطها بالمقامة والملاحم الشعبية من أمثال أبي زيد الهلالي وعنترة وعلي الزيبق، والأميرة ذات الهمة، ك
ما خلطها الأدب الفرنسي من قبل بالملاحم الوطنية والأساطير الشعبية القادمة من الشرق والأقاصيص الشعبية، ولكن كل ذلك لا يمنع من الإقرار بأن القصة في كلا الأدبين لون حديث خلق ليشبع احتياجات حديثة، وأن هذا اللون في مصر قد انسلخ رأسا من القصة الفرنسية"(4).
إن مثل هذا الرأي يحتاج إلى إعادة نظر فلا تصح أية مقولة دون فحصها وتمحيصها والتأكد من حقيقتها، ولبلوغ هذه الغاية سنلج عالم الرواية العربية ببحث الأشكال الحديثة التي تمخضت عنها فضلا عن تلك الأشكال القديمة التي أتت الباحثة على ذكرها، والتي تدل دلالة قاطعة على امتلاك العرب لناصية السرد، وإحاطتهم بآلياته مما قد يجعل تحديث الشكل ضمن الجنس أمرا ممكنا وواردا ومفتوحا، وهو ما سنناقشه لاحقا عند تناول الشكل الروائي وسبل تحديثه اعتمادا على آلية السرد المتجذرة في التراثيات الحكائية العربية.
2- البدايات والتشكل:
يرجع بعض المهتمين بالرواية وتطورها نشأتها إلى نمط الكتابة الصحفية، وهو الشكل الحديث الذي أشرنا إليه، وأنها (الرواية) تعد صورة متقدمة على تلك الأقاصيص والمرويات التي كانت تنشر في المجلات والجرائد، فعند "العودة إلى المجلات التي استجابت للقص المحرف أو المنقول أو المختصر تشخص أمام مطالع التاريخ الأدبي بعض المجلات المعروفة في حينه كالجنان، والمقتطف، واللطائف، والهلال، والمشرق، والضياء، والجامعة، والراوي، وأخرى معينة بالروايات (كمنتخبات الروايات)، و(الروايات الجديدة)، و(الروايات الكبرى)، و(مسارات النديم)، و(حديقة الروايات)، وغيرهما عشرات ظهرت في مطلع القرن الجديد"(5).
وبهذا كان ظهور مثل هذا المجلات مرتبط بظهور الرواية نشرا ونقدا، كما قدمت تلك الدوريات الثقافية وغيرها سلسلة مترابطة ومكثفة لعدد وافر من العروض والتقريضات والتنويهات، وحتى التحليلات النقدية المفصلة لأكثر من 360 رواية قبل عام 1914 منها أكثر من 200 رواية معربة، وأكثر من 160 مؤلفة، وهذا مجرد مثل دال على الترابط بين المجلات والرواية من جهة، وعلى غزارة الإنتاج الروائي والنقدي من جهة ثانية.
وإذا أخذنا في الاعتبار سيل الدوريات المتخصصة التي اعتمدت بشكل رئيسي على فن الرواية، تبين لنا موقعها في السياق الثقافي لتلك الفترة التي كانت شهدت تحولات أدبية كبيرة، وفي مقدمتها تفكك المرويات السردية الموروثة وبداية تشكل النوع الروائي الجديد(6)
وقد تزايد الاهتمام بالرواية إلى درجة صدر في عام 1894 كتاب في لبنان ذو طبيعة نظرية خاصة بالروايات بعنوان "كليمات في علم الروايات" لحكمت شريف(7) فأثار اهتمام جورجي زيدان الذي أوضح بأنه أبان فيه" موضوع علم الروايات، والأساليب المستحسنة في تأليف الروايات، وانتقد خطة بعضهم في ترجمتها وتأليفها، وجاء أخيرا بالقواعد التي يجب مراعاتها في تأليف الروايات، وأورد أسماء بعض الذين ألفوا فيها باللغة العربية وأسماء كتبهم.
وقد أوردت مجلة الطريق في عددها السادس مقتطفات من كلام حكمت شريف في كتيبه الذي سماه رسالة، فيقول مؤكدا لأهمية هذا الفن ومقرا بأسبقية العرب إلى مثل هذا النوع "لا يخفى أن للروايات وقع عظيم في النفوس خصوصا في لغتنا العربية التي هي أوسع اللغات نطاقا وأجزلها لفظا وألطفها معنى، ولا ريب بأنها تساعد المنشئ كثيرا على سبك العبارات الرقيقة والمعاني الرشيقة، وهي أجدر من غيرها بفن الروايات المسمى عند الإفرنج رومان، وما أدرك ما هو (فن الروايات)، وهو علم قديم العهد عندنا حديث النشأة عند غيرنا"(8).
ولعله القول الذي دفع الدكتور عبد الله إبراهيم إلى الإقرار بأهمية الكتاب في التنظير العلمي للرواية كما عرفت عند العرب، إذ يرى أن هذا الكتيب "الذي اهتم بالرواية أسلوبا وتأليفا وقواعد يعتبر رائدا للدراسات السردية، فهو لا يعني بالروايات باعتبارها نصوصا أدبية مفردة، وإنما ينظر في قواعدها السردية، تلك القواعد التي تشكل ما أسماه المؤلف (علم الروايات)، وهو مصطلح ذاته الذي شاع في الأدبيات النقدية السردية بعد أكثر من نصف قرن، وعرف بـ "Narratology"(9).
وبهذا يتضح أن الرواية العربية كانت على وعي تام بالنموذج والشكل الذي تنتهجه المرويات، كما كانت مدركة لجملة من الصور والأساليب السردية التي تصب فيها تلك المرويات من المقامات، والنوادر، والأخبار، والرحلات، والمسامرات ونحو ذلك، وهي أشكال قابلة للتحديث- لا ريب- بما يضمن للرواية العربية خصوصيتها واستقلالها، ويؤكد إمكانية قيام نظرية كاملة للرواية العربية، ولكن ذلك موقوف على توجهات المنظرين لهذا الجنس الأدبي وكيفيات تعاملهم مع مدونة سردية ثرية، كما أنها على وفرة تتناسب مع أشكال نقلها وإيصالها للقارئ.
ومن ثم سنختم هذا المبحث بالحديث عن الوعي المبكر عند العربي بحضور آلية السرد، وإحاطته بقواعدها بما يجعله قادرا على تحديثها وفق ما يخدم مجتمعه وظروفه المتغيرة، وهو ما سيدفعه للبحث عن التحول داخل الجنس الأدبي كما استقر في أذهان منظري الرواية الغربية ليعيد تشكيل تصور عربي، ومن ثم نظرية عربية للرواية تكون واعية بالشكل وقادرة على توظيفه لخدمة المتن الروائي والموضوعات الروائية المستمرة بدورها في التغير والانتقال.
3- الوعي بآلية السرد:
لعل السؤال الذي يثيره فينا عنوان مصغر كهذا هو: - هل استطاعت الرواية العربية الحديثة تفعيل البنى السردية التراثية، وهل استفادت من أشكال بسط المسرود، وعملت على تحديثه وترهينه استجابة لواقعها وهمومها وآلامها بما قد يجعل من الأشكال القديمة للسرد آلية هامة تجعلنا نتحدث عن نظرية روائية عربية دون حرج أوتخف؟
ثم نسائل أنفسنا من جديد هل يمكن لنا تجميع كل أجناس الحكاية من نوادر، وخرافات، ومسامرات، وأخبار، ومناقلات، ومذكرات داخل جنس أدبي واحد يضمها هو "الرواية"، إنه السؤال الذي نلتمس جوابا له ضمن تلك المشاريع التي عكف عليها كتاب وروائيون عرب من خلال أعمالهم ورواياتهم، فإذا كنا نقر منذ البداية بوفرة الأساليب وازدهار الأشكال السردية عند العرب قديما فلما لا نبتعث هذه الأشكال في شكل موحد هو "الرواية" ما دام الجامع بينهما هو آلية السرد، وما يفسر إمكانية عودة مثل هذه الأشكال هو ما يقرأه القارئ في عصرنا من أعمال روائية تشعره بعودة الموروث، بل كثيرا ما يجد القارئ نفسه أمام نص تاريخي، أو نص خرافي، أو نص يسرد مذكرات رحالة ونحو ذلك على غرار أعمال الكاتب جمال الغيطاني (الزيني بركات، التجليات، وشطح المدينة، حكايات الغريب وغيرهما، وأعمال الكاتب البشير خريف (برق الليل، بلاّرة، حبك درباني...) التي يتقاطع فيها التاريخي بالخرافي والأسطوري، وكذا أعمال الكاتب الراحل عبد الحميد بن هدوقة في (الجازية والدراويش وغيرها من الروايات).
وفي هذه السرود جرت "الاستعانة بأجناس تعبيرية متفاوتة بعضها غير أدبية، أو غير خالصة، وأخرى محض أدبية تشتمل على الخطاب الرسمي كشطح المدينة للغيطاني والنصوص ذات المرجعية الوسيطة، والشعر والأساطير والقصص ومشاهدات الأسفار والرسائل والمذكرات، ولم تكن الحكاية العربية تخلو من مثل هذه الأجناس التعبيرية'(10)
على أن الأجناس قد شكلت الداعي الأكبر للتحول في نمط الكتابة الروائية، سواء أكان ذلك عند المشارقة من سدنه الرواية ودعاة التجديد فيها، الذين تزعهم الغيطاني في مشروعه الروائي بمنزعه التراثي المستفيد من أكبر قدر من الأشكال السردية القديمة، أو كان ذلك عند الكتاب المغاربة في مشروعهم التحديثي لجنس الرواية الذين لم يهملوا فيه الخرافة ولا الأسطورة ولا الموروث التاريخي والشعبي بعد أن تحققوا من نجاعته وقابليته للترهين كما كان ذلك عند الكتاب الجزائريين من أمثال عبد الحميد بن هدوقة، واسيني الأعرج، رشيد بوجدرة وغيرهم على اختلاف توجهاتهم وطرائق الكتابة عندهم.
هذه الاستفادة من الآلية السردية التراثية هو ما سنسعى إلى بسطه في المبحث الثاني من مداخلتنا مستعينين في ذلك بآليات التحول ومصوغاته الكاشفة عن إستراتيجيته واشتغاله ضمن المنظومة الإبداعية العربية.
المبحث الثاني: إستراتيجية التحول داخل الجنس الأدبي:
مما لا شك فيه أن تطور الرواية العربية لا يمكن أن يتصور خارج دائرة التحول، إذ كيف يستقر في الأذهان شيء إذا كانت عجلة الزمن وتقلباته لا تدع الفرد مستقر النفس، ولعمري قول الشاعر:
لا يصلح النفس إن كانت مدبرة إلا التنقل من حال إلى حال والحال في حقيقة الأمر أحوال، فنفوس الناس تتغير بتغير أوضاعهم وظروف حياتهم وما جره الزمن عليهم، والرواية على حد تعبير فيليب سولرس خطاب المجتمع لنفسه، وعليه كان يجب أن تتغير أفكار الكتاب الروائيين تبعا لتغير أفكار مجتمعاتهم، فيتحول تبعا لذلك خطابهم استجابة لقانون التغير، وذلك أدعى وأكد للتحول في نمط كتاباتهم وإبداعاتهم.
ولهذا انبرى عدد من الكتاب يبحثون عن تجارب جديدة ويتطلعون للمغامرة في عالم الرواية بما يتماشى مع أوضاعهم الدائمة التحول، فمنهم من عني بالشكل الروائي وضرورة التغيير فيه، وطائفة أخرى قد أهمها متن الرواية وموضوعاتها، فالرواية إذن "نمط أدبي دائم التحول والتبدل، يتسم بالقلق بحيث لا يستقر على حال، وكل عمل روائي يجاهد بدرجات متفاوتة في قوتها ودقتها الفنية، لكي يعكس عملية التغيير الدائبة، بل وحتى الدعوة للتغيير في بعض الأحيان"(11).
1- مظهر التحول في نمط الكتابة:
إن التحول هاهنا صنو مصطلح آخر يصنع مستقبل الرواية العربية هو "الحداثة"، وهي بتعبير الناقد المغربي محمد معتصم حداثتان، حداثة أولى شملت الموضوعات، وحداثة ثانية ارتبطت بالأشكال والطرائق الكتابية، وهو ما سنعاينه على مستويي المتن، والشكل الروائيين.
أ- على مستوى المضامين والموضوعات:
يمكن للرواية العربية أن تجزأ بالنظر إلى مضامينها والموضوعات التي تعالجها إلى مرحلتين اثنتين عند اكتمالها ونضجها، وهما مرحلتان يمثلهما جيلان، ما اصطلح عليه بجيل ما قبل النكسة، وجيل ما بعد النكسة، وكأن النكسة ستتحول إلى مفرق الرأس بجسد الإنسان، والفيصل بين تجربتين وتصورين لكل منهما مضامينه وموضوعاته والتي تصنعه لتعلن بذلك عن تحول آخر في الرواية العربية.
لقد كشفت هزيمة حزيران 1967- وهو المصطلح الذي أوثره عل مصطلح النكسة-(12) عن مفارقة مزعجة بالنسبة للوجدان العربي وثقافته، "فمن المعروف أن نجيب محفوظ يعتبر بحق قمة في الرواية العربية لفترة ما قبل النكسة التي تمتد من نهاية الثلاثينات إلى نهاية الخمسينات، حيث استطاع أن يحتضن بوعيه المرهف الحركة التاريخية لتطور المجتمع المصري وتحولاته بأطر فنية متسقة مع قوانين هذا التطور، تعامل معها بمرونة وروية وتأمل المحايد مدة ربع قرن، وأكسبها مواكبة فنية أصلية ومعاصرة، لكنه قبيل الهزيمة في ميرامار (المرايا، حب تحت المطر) واجه أزمة حقيقية لم تكن فريدة، بل هي أزمة جيل لم يستوعب اللحظة ومتغيراتها، وما ثوى فيها من مفاجآت مربكة للعقل العربي الذي نوم بلذة على أحلام التحرر وغيرها من مصطلحات الإعلام والخطابات الرنانة الواعدة بالانتصار على العدو والثورة في صالح الإنسان العربي"(13)
ومن زخم هذه المعاناة والعذابات حرج جيل جديد من الروائيين الذين يتوسلون بطرق شتى في التعبير عن أزمة الضمير وسقوط الإنسان العربي، إنه جيل المأساة في الأدب العربي الذي تنهض أكثرية إبداعاته على قانون الخيبة والسؤال، "فأعمال كل من غسان كنفاني، والطيب صالح، وصنع الله إبراهيم، وجبرا، وإدوارد الخراط، ويوسف القعيد، وعبد الرحمن منيف، وحنا منه، وغالب هلسا، وجمال الغيطاني، وإميل حبيبي هي في مجملها أعمال تراجيدية، بطلها منقوع في تربة المأساة حتى العنق، القهر وعذاب الضمير هما عصب المأساة التي يحياها هذا الجيل حتى النخاع"(14).
إن المطلع على الرواية العربية في عمومها يجد عدة تيمات أو موضوعات لا تكاد تنزاح أو تخرج عن مفهوم المأساة بكل تداعياته ومظاهره، فتيمة الاغتراب هي جزء من غربة الفرد العربي في مجتمعه أولا ثم في علاقته بالآخر، تيمة حاضرة في كتابات الروائيين العرب، حتى أنها تشكل مصدر استلهامهم ونجاح أعمالهم، وهي نقطة التمفصل بين واقع الرواية العربية وما عاشته الرواية الغربية في مهدها، فإذا كان الناقد موريس نادو يتحدث عن مرض الرواية، ويرى أنه ليس سوى تعبير عن مرض المجتمع الأوربي وانعكاس له، لدرجة يفسر فيها تدهور الحالة الفنية للرواية الأوربية بتدهور حالة مجتمعنا الصحية، فإن الأمر يختلف بالنسبة للرواية العربية القائمة على مفارقة عجيبة، إذ أنها تصنع نجاحها من تضعضع مجتمعنا وآلام واقعها، وهو ما يجعلنا نتساءل عن تصور الغربيين للرواية، فهل يعني ذلك أن المادة الاجتماعية لم تعد الركيزة لتحريك فعالية الخلق الفني في الرواية؟
لعل ذلك يرجع إلى رتابة المجتمع الغربي وافتقاره إلى ما يمكن يحرك قريحة كتابه، فيجعلهم يتجاوبون مه همومهم وواقعهم "فإذا كانت الرواية الأوربية الجديدة رواية الرواية ليس لها مادة اجتماعية أو رؤيا للعالم حسب تعبير غولدمان، فالرواية العربية الجديدة شكل الواقع بؤرتها ومادتها، رواية الفضيحة، والعري والحرائق، والهزيمة، والصدمة في الحرية، الجنس، الفكر الغيبي، فمن وجهه نظر أولى إذا كان هناك عنصر اللقاء بينهما في البعث لتطوير جنس الرواية داخليا، فهناك عنصر التفارق الخارجي الذي يتمثل في أن الرواية الأوربية تنكفئ على نفسها منغلقة، في حين أن الرواية العربية الجديدة انفتحت على فضاءات شاسعة للتعبير على المادة الاجتماعية"(15).
ب- على مستوى الشكل وطرائق الكتابة:
لعل طرحا كهذا يجعلنا نستجلي أهمية تلك الأشكال السردية القديمة المتجدرة في التراث، والتي تعد آليات هامة في تحديث جنس الرواية العربية والارتقاء بها، خاصة من حيث شكلها وأبنتها السردية، وهو ما وعته الرواية العربية في مراحلها المتأخرة من خلال التجارب العديدة التي استفادت من السرد التراثي، وعملت جاهدة على توظيفه واستثماره في رؤية الواقع والتعامل معه.
صحيح أن الرواية العربية اعتمدت في مرحلة التأسيس "التقنيات السردية التي حددتها الجمالية الروائية الأوربية (السيرة الذاتية- المذكرات- المونولوج الداخلي...)، ولكنها لم تدرك في مرحلتها هذه الإمكانيات العربية التي تتيحها الأجناس السردية في الثقافة العربية الموروثة (الحكاية الشعبية- الخبر- الرسالة..) إذ كان بإمكانها أن تحقق التقنيات السردية الحديثة التي اكتشفتها الرواية الأوربية في وقت مبكر، ومن العجيب أن الكتاب العرب لم يدركوا أهمية "ألف ليلة وليلة"، هذا النص السردي الذي اكتشفه كتاب الرواية الأوربية الحديثة، ووظفه بعضهم في أعمالهم الروائية، ونتيجة لذلك وقعت في تصور خاطئ عندما آمنت بالرواية النموذج"(16).
وما إن بدأ الوعي يتسرب لكتاب الرواية العربية الحديثة حتى انبرى عدد منهم إلى الاستلهام من أشكال السرد القديمة، والتصدي لتقنياتها وأساليبها بغية تحديثها ومحاولة ترهينها كما فعل جمال الغبطاني بحيث نجد أغلب رواياته تمتح من التراث، خاصة في أبنيتها السردية، فنجد نموذج الخطط للمقريزي، حاضرة في كتاباته فضلا عن التاريخ والأخبار، والنوادر، وأدب الرحلات، بل كثيرا ما يجعل من الرحلة قناعا سرديا ينقل من خلاله تجارب الحاضر، ويعبر عن قلق الراهن.
ب-1- عن الرواية وتقنع السارد:
هي تقنية بدأت تغزو كتابات الروائيين العرب ضمن مصطلح التجريب الروائي، فلكل قناعة الذي يتخفى من ورائه، ويشاهد عبره واقعه وظروفه، فإذا كانت الرحلة قناعا يكشف عن تيمة الاغتراب، فإن المرتحل أو الرحالة هو السارد/ المؤلف الذي يتحاشى المواجهة، لكنه يصبو إلى إقحام القارئ في دوامة الغربة التي يعيشها، لأن ذلك جزء من نجاح رواياته، فهي غربة السارد والمسرود له، عندها تتحول أداة الارتحال (القطار مثلا في دفاتر التدوين للغيطاني) إلى آلة للسرد تتيح لنا التنقل داخل العالم الحميمي للكاتب، والإبحار في كهوف الذاكرة ودهاليزها لنستطلع ذلك المغيب من حياتنا.
على أن تقنيات السرد تختلف بين الكتاب، فمنهم من يعتمد الومضة لتجسيد الحكي المفارق، وهي تقنية مستمدة من الثقافة السينمائية وأساليبها، ومنهم من يلجأ إلى قصاصات الجرائد ليفجر من خلالها الذكريات الراكدة النائمة في دهاليز الخوف والقلق والارتياب، كما فعل الروائي الجزائري واسيني الأعرج في روايته "ذاكرة الماء"، بحيث يضمن عمله السردي بتقنية صحفية، ويخرق نصه بعبارات مقتضبة مأخوذة من الجرائد ليشيد بها عوالمه السردية، فمن ذلك مثلا نجده يورد مقطعا قصيرا يصور فيه عملية اغتيال المفكر بوخبزة مع ذكر عنوان الجريدة التي نقلت الخبر "لقد تم التعرف على أحد قاتلي المفكر بوخبزة مدير الدراسات الاستراتيجية، وكان قد جاءه قاتله قبل أيام يطلب منه المساعدة للحصول على عمل، وقد وعده الأستاذ بوخبزة على بذل مجهود خاص للحصول على عمل"(17).
وهكذا نخلص من تتبع مستويي الموضوعات والأشكال إلى أن الرواية العربية سواء أكانت بإسهامات المشارقة أم المغاربة قد وضعت في حسبانها وهي تراهن على إمكانية قيام حداثة روائية عربية ضرورة إرباك تلك التصورات التي تجعل من الكتابة الروائية العربية ملازمة للرواية الغربية، وتسير دوما في ركابها، وإلى وجوب الاقتناع بوجود نزوع عربي نحو إعادة قراءة الأشكال السردية التراثية وتحديثها على مستوى التجنيس، بحيث تتداخل في الرواية العربية الأنماط السردية من (قصة قصيرة، ومسرحية، وخرافة، ومذكرات، ويوميات، وأحيانا قصاصات صحفية..)، وتتجانس فيها أجناس أدبية من مثل المقاطع الشعرية وفاتات نقدية (ميتانصية)"(18). ثم إن تحديث الشكل لا يتناقض مع التجديد والتحول في التعامل مع التيمات أو الموضوعات التي تمليها ظروف وأوضاع المجتمعات العربية بحيث تزدحم التيمات داخل الرواية، وتتوالد من خلال فعل السرد، وهواجس الشخوص من تيمة الغربة وتيمة القهر، إلى تيمة الإحباط والهجرة والبطالة، والخراب الاجتماعي والخلقي، والفراغ النفسي، والشعور بالدونية والعبث، وهي تيمات تستنفر النشاط السردي بقوة وتستنطق المسكوت
عنه وتكشفه.
خاتمة:
وهكذا ما تزال الرواية العربية تبحث عن التجديد والتغيير بما يلائم أوضاعها الدائمة التحول والتبدل، وهي في سعيها لذلك تستحضر كل أدوات التحول، خاصة ما كان ذا صلة وثيقة بالسرد عامة من أشكال الحكي القابعة في ذاكرتها، ومخيالها الشعبي، مع وعيها بخصوصيات الجنس الأدبي الذي ينبعث بـ "الرواية"، والذي لا يقتصر على السرد، رغم أنه يشكل الحظ الأوفر منها، فالوظيفة السردية هي الوظيفة المهنية عليها، ومع ذلك فإن الحضور الطاغي لآلية السرد في أشكال الحكي الأخرى التي عرفها العرب يجعل مشروع التحديث على مستوى التجنيس للرواية أمرا ممكنا يبرره ذلك النزوع التجريبي الواسع الذي يرصده القارئ في أعمال الجيل الجديد.
الهوامش:
1- في نظرية الرواية، محمد الباردي، تقديم فتحي التريكي، سراس للنشر، 1996، ص11
2- السردية العربية الحديثة، تفكيك الخطاب الاستعماري وإعادة تفسير النشأة، عبد الله إبراهيم، المركز الثقافي العربي، ط1، 2003،ص165
3- في نظرية الرواية، محمد الباردي، ص104
4- أثر الأدب الفرنسي على القصة العربية، كوثر عبد السلام البحيري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985،ص280
5- الرواية العربية، النشأة والتحول، د. محسن جاسم الموسوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988،ص79.
6- السردية العربية الحديثة، عبد الله إبراهيم، ص165
7- يعد الكتيب رسالة موجزة تستعرض أهم القواعد لعلم الروايات لمؤلفها حكمت شريف، وقد أوردت مجلة الطريق في عددها السادس الصادر في نوفمبر ديسمبر 1994، مقتطفات هامة لنص الرسالة بتحقيق وتقديم محمد كامل الخطيب، ص210
8- كليمات في علم الروايات، لقائلها حكمت شريف، مجلة الطريق، عدد السادس، تشرين 2كانون1، نوفمبر- ديسمبر1994، ص212
9- السردية العربية الحديثة، عبد الله إبراهيم، ص166.
10- ثارات شهرزاد، فن السرد العربي الحديث، د. محسن جاسم الموسوي، دار الآداب بيروت، ط1، 1993، ص16
11- الرواية العربية، مقدمة تاريخية ونقدية، ألان روجر، ترجمة حصة إبراهيم المنيف، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، 1997، ص7
12- يبدو مصطلح "هزيمة" اقرب للدقة في التعبير عن الوضع العربي وصراعه مع العدوان الصهيوني، ثم أن النكسة والانتكاسية قد لا يعقبها نصر، أو قد يستبطأ النصر عند سماع لفظها، أما الهزيمة فقد ينتظر في أعقابها الفرج والانتصار، وهو ما حققه العرب بعد ستة سنوات أي في (1973).
13- الخطاب الروائي العربي الجديد والتراث (الأسس النظرية لكتابة النص الروائي من جيل محفوظ إلى جيل الغيطاني)، د.عمر محمد الطالب، جامعة الحسن الثاني، المغرب، كتابات معاصرة، مجلة الإبداع والعلوم الانسانية، العدد6، المجلد الثاني، بيروت لبنان، ص46
14- المرجع نفسه، ص46
15- المرجع نفسه، ص49
16- في نظرية الرواية، محمد الباردي، تقديم فتحي التريكي، سراس للنشر، تونس، 1996، ص164
17- ذاكرة الماء (محنة الجنون العاري) رواية، واسيني الأعرج، دار الفضاء الحر، 2001، ص18
18- سؤال الحداثة في الرواية المغربية، عبد الرحيم العلام، "الحداثة والنزوع التجريبي، عبد الحميد عقار"، إفريقيا الشرق، 1999.