علاقة المنطق السردي بالمكونات الداخلية لرواية "بان الصبح" لعبد الحميد بن هدوقة - قراءة في تقنية الزمن –

الأستاذ ياسين سرايعية قسم اللغة العربية وآدابها
توطئة:
تتطلع الرواية الجزائرية في نهاية القرن الماضي لإيجاد حركية لها ضمن إطار تطور الرواية المعاصرة، حيث تتميز هاته الروايات بالحضور الدائم في كل الأزمنة والأمكنة وفي كل كافة مناحي الحياة، وبالتالي فهي كالخلية تتجدد وتتكاثر في كل مرة، ولعل هذا ما جعل الكتابة الروائية عند ابن هدوقة في "بان الصبح" تتميز بالمرونة التي تجعلها في كل مرة تبحث عن طرائق جديدة لمواكبة التغيرات التي يتعرض لها الواقع باستمرار، فهي بحث دائم وأفق مفتوحة لهذه التنويعات الأمر الذي جعلها تنزع نحو التميز والتفرد واستقلالها باليات تبنينها التقني الفني (1) إنها التجربة التي تؤسس لمرحلية الإنسان الجزائري الحامل للتناقضات الفكرية والاجتماعية والإيديولوجية التي تغذيها النزعة التمردية والصراعات والثورة عن المقومات التقليدية، وهي خاصية جسدتها شخصيات "بان الصبح" المتجلية وفق جملة من التناقضات والممثلة لرموز الصراعات السياسية والفكرية... ، حيث تأخذ كل شخصية قيمتها من الشخصية المقابلة (عمر، رضا)، (علاوة، عبد الجليل)، (دليلة، نصيرة الصوناكوم)، (نعيمة، زبيدة) ... محاولة بذلك رواية ابن هدوقة مواكبة ما يستجد في الساحة الأدبية والنقدية العالمية والعربية بخاصة فيما يتعلق بتنظيم تقنيات الأساليب والرؤى، ومنفتحة على التطورات التي شهدتها الرواية العالمية التي تعالت على مورثات الرواية التقليدية التي أضحت عاجزة على استيعاب تطلعات القارئ العربي المعاصر الذي أضحى يروم الشكل الحكائي الجديد، أو ما تسميه الشعرية البنويةpoétique structurale البنية الكلية للنص الأدبي، التي هي قوام الشكل الأدبي عامة وسنركز في دراستنا للبحث في تتبع العلاقة التي تربط المنطق السردي في رواية "بان الصبح" بمكوناتها الداخلية من خلال قراءة في تقنية الزمن وفق مقولات جيرار جينات وتودوروف.
الزمن في الخطاب الروائي "بان الصبح" لابن هدوقة:
إذا كانت القصة هي مجموعة الأحداث المروية والمحكي هو الخطاب الشعري أو الكتابي الذي يرويها، والسرد هو الفعل الحقيقي أو الخيالي الذي ينتج هذا الخطاب، فغنه يمكن تصنيف المسائل المتعلقة بالرواية في ثلاث مقولات: مقولة الزمن (زمن الفعل)، وهي تعبر عن الزمن في القصة وفي الخطاب الروائي، ومقولة الصوت (الوجه)، وهي تعبر عن الزمن في القصة وفي الخطاب الروائي، ومقولة الصيغة، وتعبر عن نمط الخطاب الذي يستعمله الراوي (2) فتفاعل المكونات الداخلية يسمح للقارئ بالقبض على الدلالات التي لا تتحد فقط بمضمونها ولكن بالشكل والطريقة التي يقدم بها المضمون (3).
لقد تأثرت الرواية الجزائرية المتجلية في "بان الصبح" لابن هدوقة في تعاملها مع الزمن بالرواية العالمية باعتمادها تقنية المقطوعات وتجاوزها نمط السرد الخطي، وتعقيد تركيب المقاطع السردية، حيث تتكاثف فيها الأزمنة بتداخلها في الزمن الماضي وانبثاقها في الزمن الحاضر عبر الاسترجاع، ذلك أن الأحداث لا تنتظم داخل عمل قصصي بصفة اعتباطية بل تستجيب لمنطق معين (4)، فالاختلاف بين زمنية الخبر وزمنية الخطاب من حيث طبيعة كل منهما يجر حتما في الخطاب إلى ضروب من التصرف في الزمن فينشأ عن ذلك ارتداد في الزمن واستباق ويمكن أن تنشأ بينهما أنواع من العلاقات (5).
ورواية "بان الصبح" لابن هدوقة زمنيا تعود إلى غضون السبعينيات زمن الاشتراكية هذا تاريخا أما الإطار الزمني الذي حددت فيه عوالمها هو بداية من الساعة الثامنة والربع صباحا ويتبين هذا في قول دليلة:
-لي درس على الحادية عشر والساعة الآن الثامنة والربع (6).
رغم خروج هالة أختها على الساعة السابعة والنصف، لكن التركيز على زمن دليلة كونها تمثل الشخصية التي يتحرك معها زمن كل الأحداث والشخصيات الأخرى.
-أما الزمن الثاني يجسد زمن الأب الشيخ علاوة بعد خروجه من اجتماع حضره حول مشروع الميثاق الوطني، وزمن نعيمة بنت الأخ التي جاءت للدراسة في العاصمة الذي تداخل زمنها مع زمن الرسالة التي عثر عليها علاوة والتي تحمل عار الزنا وعار السجن (7) أين يبلغ الزمن الروائي بؤرته، لتعود نعيمة إلى بيت أبيها بعد تهمة منى واعتداء عمر عليها، وانتقال دليلة الذكورية إلى العيش رفقة نصيرة الصوناكوم وهي حبلى من كريمو حيث أعجبت بها هالة:
-أنت الأولى التي تخرج من هذه الثكنة بإرادتها،"برافو!(8).
تنحصر الأزمنة المتعددة للرواية من الشهر الثاني من حبل دليلة وتنتهي قبل وضعها لحبلها. من خلال زمن الرواية نلاحظ خضوعها ل تسلسل الأحداث وتناوبها وتضمينها من خلال تتبع المراحل الأحداثية، فكلما انتهى ابن هدوقة من مشهد بدأ في المشهد الموالي مما جعل المشاهد يحكمها مبدأ التجاور، أما التضمين فيتبين من خلال إدخال خبر في خبر آخر، ومواقعه كثيرة في الرواية كوصف الراوي لعودة نعيمة رفقة أبيها بعد إجراء الفحوصات الطبية وعدم إيجابيتها (ليست حامل) ثم الانتقال مباشرة إلى اجتماع أفراد أسرة الشيخ علاوة بالصالون والحديث حول الفرع النقابي بين عمر والبقية (9) والتناوب كرواية خبرين في ان واحد، وذلك بقطع هذا مرة وذاك أخرى.
وقد تحدث تودوروف عن مسألة الزمن في كتابه الانشائية مستعينا بتحليل جرار جينات الذي أورده في كتابه "وجوه III" حيث ميز بين ثلاثة أنماط من العلاقات الزمنية بين المحكي والقصة وهي:
الترتيب l’ordre، والديمومة la durée، والتواتر la fréquence.
أولا: الترتيب
إن الوقائع التي تحدث في زمن واحد لابد أن تُرتّب في البناء الروائي تتابعيا لأن طبيعة الكتابة تفرض ذلك مادام الروائي لا يستطيع أن يروي عددا من الوقائع في آن واحد. فالتطابق بين زمن السرد وزمن القصة لا نجد له مثالا إلا في بعض الحكايات العجيبة القصيرة (10)، وهكذا يمكن أن نميز بين زمنين في كل زواية: زمن السر – زمن القصة.
ومنه يستطيع القارئ أن يمارس نوعا من الخلط الزمني للتشويش على ذهن القارئ وبهذا العب الفني توهم القصة بأن الكلام يتجه إلى الوراء في حين أن الكتابة على الورق تتجه متقدمة إلى الأمام.
ويقر جينات بوجود نمطين على الأقل من التحريف الزمني داخل المحكي وهما:
- الاسترجاع l’analepse: إيقاف مجرد للأحداث واستذكار أحداث ماضية.
- الاستباق: le prolepse: يقص الراوي قصة حياته والإشارة للحوادث اللاحقة دوت الإخلال بمنطقية السرد.
- الاسترجاع l’analepse:
تنقلنا القراءة إلى مرحلة نفسية جد صعبة عاشتها نعيمة وهي في ثكنة عمها الشيخ علاوة أين ازدادت المؤامرة عليها لطردها من البيت لتجد دليلة تنفس عليها، حينها تذكرت نعيمة صورة أمها المتوفية فانتابها إحساسا بالفراغ، ويسترجع الراوي زمن حياتها الأول حيث كفلتها عمتها في حوالي الثالثة من العمر، ولو لم تعرف أن لها أبا حقيقيا إلا ذات يوم من أيام مايو، مثل مايو الذي هي فيه الآن، كان ذلك عندما دخل رجل على عمتها، يلبس لباس جندي من جيش التحرير فنظرت إليه عمتها وهي مدهوشة لا تصدق عينيها، ثم ولولت ثلاث مرات واحتضنته وهي تبكي بلا دموع وتقول: أخي العزيز ابن أمي...عدت حيا! عدت إلي أنا ونعيمة! عدت... كم أنا سعيدة! كم هو سعيد هذا اليوم (12).
فالقارئ يفاجأ ويتيه ويوخز ويتولد لديه خيبة أفق الانتظار وهذه تقنية مبررة يعتمدها السارد دون إشارة مسبقة، فهي استرجاعات تكميلية أو متممة les analepses comlétives، ترد لملأ ثغرات المحكي، أو ما يعرف بالحذف المؤجل paralipse، الذي يأتي لملأ ثغرات سبق القفز عليها زمنيا (13)، فمن خلال المقطع السردي السالف يفتح السارد فضول القارئ بالكشف عن بعض ماضي نعيمة.
فالاسترجاعات وظفت بطريقة فنية خلقت التوازن داخل العالم الروائي لابن هدوقة ومن بينها نذكر:
بعد ما فتح الشيخ علاوة الرسالة الثانية الموجهة إلى الطبيب وجد معها صور لبعض الأجهزة المتوفرة لدى الشركة تمتم "هذا هو العلم، لا اشتراكية فيه ولا ثرثرة (...) ثم خطر بباله خاطرا أعاده إلى صباه حيث كان تلميذا في المدرية الفرنسية الابتدائية وكان المعلم الجزائري يقول له ولرفاقه الصغار بالقبائلية: "تعلموا الفرنسية، سيأتي اليوم الذي تحتاجونها فيه... "فقال الشيخ علاوة في نفسه: رحم الله (المعلم) لو لم أتعلمها في صغري لما استطعت أن أطلع على هذه الرسائل (14)، إن مثل هذه الاسترجاعات كثيرة في المتن الروائي، حيث ترتبط في كل مرة بشخصية (علاوة، دليلة، نصيرة الصوناكوم، نعيمة ابنة الأخ، باية سيدة الحمام، ويمكن الإشارة إلى ذلك في الصفحات 20، 33، 39، 57، 82، 101، 147، 193، 222، 229، 231، منوعا في الأفعال الدالة على الاسترجاع (كانت، تذكري)، أو مستحضرا زمنا داخل زمن القصة بطريقة فنية مشوقة محركا فيها الذاكرة أو "ما يمكن أن نسميه بالحيز النفسي الذي يتم فيه استحضار عالم الطفولة، وهو حيز متخيل لا يحمل صفات المكان لكنه يمثله بديلا له، ويتصف بالاتساع اللامتناهي" (15)، فالمسار الزمني في رواية "بان الصبح" يرتد إلى الماضي فيديره من الحاضر وقد ينتقل إلى المستقبل مديرا إياه من الماضي.
-
الاستباق: le prolepse:
شكلت الاستباقات في رواية "بان الصبح" عمق الإستراتيجية البنائية التي تخلق تشويشا في نفسية المتلقي، ولعل الشكل الروائي الأكثر ملائمة لتوظيف هذه التقنية هو المحكي بضمير المتكلم "حيث الراوي يحكي قصة حياته حينما تقترب من الانتهاء، ويعلم ما وقع قبل لحظة بداية القص (الحكي) وبعدها، دون إخلال بمنطقية النص ولا بمنطقية التسلسل الزمني" (16).
نقرأ الاستباق في مهد تسلسل زمن المحكي "تنهدت وهي تنظر الى خصرها وسخرت منه تقول: ستصير برميلا ذات يوم بفضل كريمو" (17)، يذكرنا هذا الاستباق الذي جاء في بداية المحكي ببدايات الروايات البوليسية، التي تبدأ بالكشف عن الجريمة ثم البحث عن أسبابها ودواعيها، وهو ما يسميه المنظرون بحالة القلب l’inversion، إن هذا النسق الزمني الهابط تعرض فيه الأحداث المروية علينا من نهايتها في رجوع تدريجي هابط إلى أن تصل للبداية، لتخلق شيئا من التشويق، يتمظهر في ذلك التلهف لدى القارئ لمعرفة المراحل التي كان السر نتيجتها (18)، فالاستباق وضع الرواية قربانا على مذبح القيم والعادات، فالتمرد والتحرر تجلى في دليلة الحبلى والحاملة للسيجارة، والمتعاطية للويسكي "ابتسمت ساخرة من أبيها ومن نفسها وأسرت: على ماذا تخاف أيها الجنرال؟ انتهى الأمر... إنه هنا في بطني منذ شهرين! ثم أفصحت:
-أنا اركب معي أي كان إلا...، أبدا!...
فقال لها الشيخ علاوة معتمد بنفسه:
-نحن اليوم لنا اجتماع حول "الميثاق" على الساعة التاسعة.
وأضاف وهو يغادرها:
-اليوم هو يوم أعداء الله! (19).
نلمس منذ البداية استباق يحيل على التشظي بين البنت دليلة (المتحررة، العاهرة...) والأب (المحافظ، الرجعي) هذا التناقض انبنى عليه نظام تسلسلي في المقاطع السردية الموالية في شكل من المتتاليات السردية حاملة لصراع يخلق تشابك الأحداث وانفتاح القارئ وانعطافه في منحنيات "بان الصبح" حيث يحيل عنوان المحكي على استباق جذاب.
ليتعرف القارئ على وقائع قبل أوان حدوثها الطبيعي في زمن القصة وهذه التقنية تسمى بالمفارقة السردية anachromie narrative، أما استباق المتن الحكائي نعثر عليه في محطات مختلفة منه حوار "دليلة مع السائق حول إيجاره سكن" سوف تعرفيني في الوقت المناسب، أعرض أولا مشروعك على الكتابة فإذا رضيت به فسأقدم لك كل الضمانات الضرورية للثقة بي.
-اتفقنا، أعطيك رقم الهاتف، كلمني بعد ظهر غد، أخبرك بما تم في الموضوع اتفقنا؟
-اتفقنا.
فالاستباق يظهر في أحاديث كثيرة ضمن المقدمات الاستهلالية للنصوص، وكذلك العنوانات التي يشعر فيها الراوي أو المؤلف بالطابع الذي تتسم به الحكاية ويكثر ورود هذا الفعل الزمني في روايات الذاكرة والرؤى والأحلام والوصايا والنبوءة.
ولقد اقترن الاستباق باللازمتين (س) و (سوف) في ارتباطها بالأفعال.
ويمكن تمثيل كلا من الاسترجاع والاستباق وفق المخطط الآتي:
اتساع المفارق (د)= اتساع المفارقة (ب)
استباق = استرجاع التوازن البنائي
مصير دليلة = طفولة نعيمة
الخطيئة = الطهارة = تضاد توازن
ثانيا: الديمومة:
تتراوح سرعة النص الروائي من مقطع لآخر بين لحظات قد يغطي استعراضها عددا كبيرا من الصفحات وبين عدة أيام قد تذكر في بضعة أسطر (20)، ويمكن رصد ديمومة الرواية من خلال:
1- الخلاصة:sommaire
تعتمد الخلاصة في الحكي على سرد أحداث ووقائع يفترض أنها جرت في سنوات أو أشهر أو ساعات، واختزالها في صفحات أو أسطر أو كلمات قليلة دون التعرض للتفاصيل يعني يكون فيها زمن المحكي أصغر من زمن القصة (21).
وتحضر الخلاصة في "بان الصبح" في كثير من المواضع منها ما ورد في الفصل السادس: "ليسمح لي الأستاذ أن أذكره ببعض الحقائق، لقد كانت لغة الجزائر قبل 1830 هي العربية، وكنا أحرارا مستقلين، ولكن متأخرين، فاحتلت أرضنا...إن الصراع الحقيقي في الجزائر اليوم ليس بين أنصار العربية وغيرهم، إن الصراع الحقيقي هو بين الرجعية والتقدمية (22).
اعتمد ابن هدوقة بذكاء توظيف تقنية الخلاصة (التلخيص) بطريقة ذكية حيث اختصر فترة زمنية طويلة من قبل 1830 إلى السبعينيات في خمسة عشر 15 سطرا من دون تفصيل لتلك الفترة.
2- الاستراحة (pause):
يكون فيها زمن المحكي أكبر من زمن القصة فتكون في مسار السرد الروائي توقفات معينة يحدثها الراوي بسبب لجوئه إلى الوصف، فالوصف يقتضي عادة انقطاع السيرورة الزمنية ويعطل حركتها (23).
اقترنت الاستراحة في الرواية عند تقديم شخصية أو مكان أو أشكال لديها علاقة بشخصية من الشخصيات وحضر بشكل كبير لافت للنظر حيث نقرأ منه "ولباس الشيخ علاوة الرسمي يتمثل في بدلة عربية مطروزة من النوع الرفيع الثمن لما يقتضيه التطريز من وقت وخبرة، وله عدت بدلات للشتاء وللصيف، وعمامة صفراء حريرية يشدها على طربوش على طريقة لباس علماء الدين الجزائريين، وعباءة حريرية أو "قمراوية" أو من قماش جيد على كل حال والعباءة التي يلبسها الليلة هي قمراوية تونس من النوع الجيد" (24)، في هذا المقطع وغيره يتوقف زمن القصة مقاربا الدرجة الصفر، ويتوصل زمن الحكي، وابن هدوقة في عمله هذا يتبوأ منزلة الراوي المحايد ولم يكن مشاركا في الأحداث بصفة دائمة وفي هذه الحالة يصعب القول بأن الوصف يوقف سيرورة الحدث لأن الوقف ليس من فعل الراوي وحده بل من فعل طبيعة سيرورة القصة وحالات أبطالها، وهذه التقنية وظفها ابن هدوقة بمنطقية واعية غرضها منح القارئ فرصة التوقف للربط بين الأحداث المحكية، وتكون القراءة عندئذ أكثر فاعلية وهذا ما يولد لدى القارئ احتمالات لما سيقع من أحداث لم يقرأها بعد.
3-القطع/الثغرة ellipse:
يرى جيرار جينات أن الثغرات في المحكي الروائي يمكن أن تكون محدودة أو غير محدودة ظاهرة أو باطنية، يعني زمن المحكي يساوي صفر وزمن القصة ممتد إذا كان القطع عادة في الروايات التقليدية مصرحا به، غير أن الروائيين الجدد استخدموا القطع الضمني الذي لا يصرح به الراوي، وإنما يدركه القارئ فقط، بمقارنة الأحداث بقرائن الحكي نفسه (25).
ويتجلى القطع في المقطع السردي التالي: "أن المناقشات حول الأسابيع الأولى من شهر ماي بشمولها وعمقها وديمقراطيتها ظننت الكثير بأن الجزائر مقبلة على تحول جذري وخوض ثورة ثقافية حقيقية..." (26)، هذا المقطع قالته نعيمة في مشاركتها في اجتماع حول الميثاق الوطني، تبرز هنا حركية وسرعة السرد لضمان تقدمه إلى الأمام وإلغاء خيبة الانتظار بالاستعانة بالعديد من الإشارات الزمنية الدالة على الحذف: "أن المناقشات حول الأسابيع الأولى "والملاحظ في "بان الصبح" أن التفاوت النسبي بين زمن القصة وزمن السرد يصعب قياسه نظرا للمجال الزمني الضيق الذي استغرقته الرواية ولذلك لم يعتمد ابن هدوقة للتركيز على زمن القصة وهذا ما يبرز تقلص القطع في الرواية.
4-المشهد :
يتساوى فيه زمن القصة بزمن السرد، ويقصد به المقطع الحواري الذي يأتي في كثير من الروايات في تضاعيف السرد، كما لا يجب إغفال الحوار الواقعي الذي يمكن أن يدور بين أشخاص معنيين، قد يكون بطيئا أو سريعا، حسب طبيعة الظروف المحيطة، وكما ينبغي مراعاة لحظات الصمت والتكرار مما يجعل الاحتفاظ بزمن حوار السرد وزمن القصة قائما على الدوام (27)، ورواية "بان الصبح" ثقيلة كثيرا بهذه الخاصية ونوضح ذلك من خلال المقطع السردي في خاتمة الرواية في حوار بين دليلة ونصيرة الصوناكوم حول مشكلة سكن (دليلة): بحثت في محفظتها –دليلة- عن المذكرة الهاتفية وركبت رقم الهاتف، أجابتها نصيرة بعدما تبادلا التحية:
-كنت خارجة، لو طلبتني دقيقة من بعد لما وجدتني! كيف أحوالك.
-مزفتة، والحمد لله!
-ماذا جرى.
-لا أقول لك شيئا الآن، إنني أكلمك من البيت، قولي نصيرة، هل تقبليني لاجئة عندك بضعة أيام؟
-بكل سرور!
-هل أستطيع أن آت الليلة؟
-تستطيعين أن تأتي الآن!
-أنا آتية إذن، باي، باي!(28)
ثم انتقل الحديث مع دليلة إلى هالة بعدما رأتها أخذت حقيبتها لمغادرة المنزل فقالت لها:
-سمعتك وأنت تتكلمين في الهاتف...
-وماذا يترتب عن ذلك؟
-أنت ذاهبة نهائيا؟
-نهائيا؟
-أنت الأولى التي تخرج من هذه الثكنة بإرادتها "برافو!" (29).
إن اعتماد ابن هدوقة وتركيزه كثيرا على تقنية المشهد ينحو منحى العرض الدرامي في سرد الحديث من خلال استعمال الحوار والحركة... فيبرز عنه تضخم نص يبرز الحدث في لحظات وقوعه المحددة، الكثيفة، المشحونة، ويعطي للقارئ إحساسا بالمشاركة الحادة فيه، وعلى العموم فإن المشهد في السرد هو أقرب المقاطع الروائية إلى التطابق مع الحوار في القصة بحيث يصعب علينا دائما أن نصفه بأنه بطيء أو سريع أو متوقف (30).
يمكن أن يبين عناصر الديمومة في رواية "بان الصبح" وفق هذا المخطط:
النتيجة:
الديمومة تحكمها تقنية التوازن في توظيف عناصرها حيث نجد نسبة 1 و 2 تقارب 100% ونسبة 3 و 4 تقارب 100%.
ثالثا: التواتر (fréquence)
يتوفر على ثلاث إمكانيات نظرية (31)
- القص الافرادي: تروي حادثة واحدة مرة واحدة/التحديد détermination
- القص الاعادي: تروي حادثة واحدة بطرق شتى/التمظهر/aspécispcation
- لتكراري: تروي حوادث متعددة مرة واحدة/التوسعextension
فالتواتر "يمثل علاقات التواتر والتكرار بين الحكاية والقصة، بين سعة تكرار الأحداث المروية للقصة، والملفوظات السردية للحكاية" (32).
عمد ابن هدوقة في "بان الصبح" إلى توظيف مجموعة من الصيغ الاستخدامية تلحظ منها هذا المقطع السردي:
شكرا. لا أستطيع، ينبغي أن أعود للبيت قبل منتصف النهار.
لبست نصيرة سروالا أزرق من "الجين" على قميص أبيض بأكمام...(33).
يروي هذا المقطع مرة واحدة ما وقع مرة واحدة حيث يتوافق المنطوق السردي مع تفرد الحدث المسرود.
وإذا انتقلنا إلى المقطع التالي:
-إنك مخطئة/ مادام فرد واحد أمي في الجزائر فسنحتاج دائما إلى عيسى ابن هشام لتبليغ فكرة الاشتراكية!...
-كنتم جادين لا شك في ذلك، عندما يكون الإنسان جادا لا يكون حزينا لأن الحياة الجادة لا تتلاقى مع الحزن والعبوس، إن الاشتراكية أمل وسرور ليست بكاء ولا حزنا (...).
-فالاشتراكية عملية والعلم لا يبنيه الجهل (34) تروي نعيمة الحديث عن الاشتراكية (تمجيدها) بطرق شتى، وهذا التكرار ليس لفظي فحسب بل هو تكرار دلالي وهي تقنية يعتمدها الحاكي عامدا لجعل قضية الاشتراكية تمثل القوة المركزية المهيمنة التي تتحول حولها الأحداث.
أما هذا المقطع السردي: "كانت نعيمة وهي بفراش دليلة تستعيد في نفسها يومها الحافل بالاكتشافات الجديدة عن مجتمع المدينة، عرفت الحمام...حضرت اجتماعا عموميا حول الميثاق...عمر لا ينفك يضايقها وهو كبير من حيث السن..." (35).
تروي في هذا المقطع حوادث كثيرة مرة واحدة لأن المجال الزمني الذي وضعه الراوي لعوالم روائية لا يتسع للتفصيل لكل الأحداث، ولذلك تحضر هاته الأحداث كملخصات، حيث تنتمي هاته التقنية إلى زمن "التلفظ" زمن "الكتابة" وزمن "الإدراك" وزمن "القراءة" الذي يصير عنصرا أدبيا إذا أنزله المؤلف منزلة مخصوصة في الخبر وأشار إليه علانية (36)، فكل الأنماط السالفة تعوض عادة بالصياغة الاستخدامية مثل كل يوم، الأسبوع كله (37).
جامعة القول:
في رواية "بان الصبح" لعبد الحميد بن هدوقة وظف الكاتب التحريف الزمني الذي كسر الخطية الزمنية (ماضي، ح اضر، مستقبل) وفق توظيف تقنية جمالية تجلت في الاستباقات والاسترجاعات، أما الديمومة فأحكمت قوانين التوازن الروائي من خلال وحدات (الخلاصة والاستراحة والقطع والمشهد)، والتنويع في التوتر جعل الرواية تتدفق بشحنة مليئة بالأحداث تنبثق من ميثولوجيا شخصيات تشكل صراعات متواصلة خالصة لمبدأ التوازن والتكامل الروائي.
المراجع:
- يمنى العيد، فن الرواية العربية، دار الآداب، ط1، 1998، ص26.
- G.Genette, nouveau discours du récit, seuil, paris, 1983, p10.
- حميد لحميداني، بنية النص السردي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2000، ص46.
- Todorov, les catégories du récit littéraire, p131
- محمد القاضي، تحليل النص السردي، دار الجنوب للنشر، تونس، 1997،ص46.
- عبد الحميد بن هدوقة، بان الصبح، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1984.
- الرواية، ص 152
- الرواية، ص 330.
- الرواية، ص 322
- G.Genette, figures III, seuil, 1972, p 77.
- جان ريكاردو، قضايا الرواية الحديثة، ترجمة صياح الجهيم، دمشق 1977، ص 250.
- الرواية، ص 252.
- سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، ص 78.
- الرواية، ص 39.
- عبد الحميد بورايو، منطق السرد، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائرية، الجزائر، 1994، ص 11.
- عبد العالي بوطيب، إشكالية الزمن في النص السردي، ص 134.
- الرواية، ص 05.
- عبد العالي بوطيب، إشكالية الزمن في النص السردي، ص 134.
- الرواية، ص06.
- عبد العالي بوطيب، إشكالية الزمن في النص السردي، ص 137.
- G.Genette, figures III, p130.
- الرواية، ص 140.141.
- G.Genette, figures III, p94.
- الرواية، ص 151
- حميد لحميداني، بنية النص السردي، ص 77.
- الرواية، ص 122.
- G.Genette, figures III, p123.
28-29 الرواية، ص 330
30- حميد لحميداني، بنية النص السردي، ص 78.
31- محمد القاضي، تحليل النص السردي، ص 47.
32- رشيد بن مالك، قاموس مصطلحات التحليل السيميائي، دار الحكمة، 2000.
33 - الرواية، ص 196.
34-35 الرواية، ص 174-175.
36- محمد القاضي، تحليل النص السردي، ص 147.
37- جيرار جينات، خطاب الحكاية، ترجمة لمجلد III، محمد معتصم عمر حلي، عبد الجليل الازدي، الدار البيضاء، ط1، 1996.