صورة المدينة في رواية عواصف جزيرة الطيور ( المطر والجراد ) جيلالي خلاص

أ : عبد الناصر مباركية جامعة سطيف
إذا كان الشعر العربي الحديث قد استوعب فضاءات المدينة وسجل الالتحام القوي بين المدينة والإنسان، هذه المدينة العربية التي تعرضت للاغتصاب والاحتلال منذ عقود من الزمن فهي تشكل في اللحظة الراهنة المعانات والانتكاسة وخيبة الأمل ... فإن الأدب الروائي قد اقتحم عالم المدينة وسجل مختلف مراحل التطور التي عرفتها المجتمعات العربية الحديثة. ومما لا شك فيه أن احتكاك المثقفين التاب بفضاء المدينة ووقوفهم على ما تزخر به من تناقضات بحيث لم تعد المدينة مجرد مكان أو حيز للأحداث بل إنما تحولت إلى موضوع .. " إن المدينة في النص الإبداعي تتحول من الشكل الهندسي الذي يخضع إلى مقاسات معينة إلى بنية دلالية أو فرضية تأويلية تشكل مجالا لنشاط قراءة منتجة . إنه فضاء أسلوبي مشكل من لغة مكثفة تسعى إلى خلق خطاب القراءة وليس كما يبدو للوهلة الأولى بأنه إطار مادي يرسم الحدود التي تقع في الأحداث ومجال التحرك الشخصيات بل هو بنية دلالية في حبك العناصر الدلالية " ويتجلى بكل وضوح وقوة صورة المقاومة والرفض والتمرد للمدينة عبر كثير من العصور والأزمنة، فهي تتمرد وتقاوم كل أشكال الاحتلال الذي تعرضت له خلال الفترات التاريخية الماضية وهي تقاوم كل أشكال الظلم والتعسف من طرف المستبدين ... أما الأهالي والناس الطيبين يمنحونها كل الحب والعطاء ويحسون أن كياناتهم الشخصية هي جزء من كيان المدينة العربية الشامخة التي تأبى الرضوخ وقد بدا تحيز الكاتب جيلالي خلاص واضحا إلى مدينته التي أحبها في هذه الرواية لاسيما في مدينة الجزائر العاصمة التي احتوت معظم الأحداث الروائية من خلال أحداث 5 أكتوبر 1988 وأحداث تاريخ دخول الممثل الفرنسي للعاصمة.
وقد أضحى الروائي الطابع الأسطوري في المقدمة الروائية على المدينة ورسمها على هيئة كبش عظيم رمزا للفداء والتضحية والبطولة... فهو يمثل جرأة الشعب الجزائري وأسطورة كفاحنا المرير تلك الشجاعة الأسطورية التي تسحق قلوب الأعداء قبل كل هجوم ( الرواية ص 14 ).
الاغتراب في المدينة :
إن اغتراب الإنسانية المدنية ناتج عن وضع آنساني معقد غير صحيح بحيث يفقد فيه المرء توازنه النفسي فينشا لديه الملل والتذمر نتيجة وجود صور متضادة في مخيلته صور المدينة الفاضلة التي يطيب فيها العيش وتسودها القيم الإنسانية السامية وصور المدنية السوداوية التي لا يرغب فيها ويأمل في تغييرها تغييرا جذريا وانتفاضته وتمرد سكان العاصمة عام 1988 هي شكل من أشكال الاغتراب في المدينة وذلك عبر الرؤية السردية للراوي : " بقايا الجراد الذي غزى هذا العالم دون سابق إنذار البلاد، مضيفا إلى القط الجاثم بكل ثقله عوائق أخرى ... بالإضافة إلى استبداد الحكام بالرعية حيث أذاقوهم ألوانا من البؤس والعوز ... رغم أننا دولة مصدرة للغاز فقد كان المطر والجراد دعما لقاهرين الغلاة المحتمين داخل قصدوهم المطوقة بالدبابات المجتررة" (ص 13 الرواية ).
ونتيجة كل هذا، اندفع أهل المدينة ثائرين، اندفعوا باتجاه الشمس الحارقة يطمعون إلى خلق مدينة مثالية ولأنه يرى هذه الأرض منذ عرفه العمران وهي تعاني من النكبات المصائب ويعود من حين لآخر لمقولة الأمير عبد القادر فيأتينا بجزء منها ليثبت لنا أن المدينة موطن الشرور والفتن. والمحنة والاغتراب والمأساة تجسدت أكثر في شخصية المثقفين في هذه الرواية من خلال عرض لوحات درامية مؤلمة بحيث تطلعنا على جثتي الكاتب " منصور " والمؤرخ "قادر" اللذين رماهما البحر على شاطئ المدينة... وعلى إثر اغتيال هذين الكاتبين يقوم كاتب صحفي بتحري الحقيقة من المسؤول عن اغتيال مثقفي المدينة ... ولكنه يتحدى ويقاوم ويذيع النتائج التي توصل المقاوم إليها و رمز للمثقف الثوري المقاوم الذي لا يرضخ للمساومة ولا يرضى بالذل والمهانة ولكن السلطة تعتقله تفرض عليه العزلة القاتلة بحيث ينفى إلى القرية مسقط رأسه... هذه هي الغربة المرة التي عاشها الكاتب الصحفي حيث اختار في البداية بين مواصلة الكفاح من أجل كشف الحقيقة وإظهارها لناس وبين الاستسلام والتخلي عن التحقيق الذي يتعلق بجثتي الكاتب والمؤرخ يقول :"فلم أجد بدا من مواجهة أمرين اثنين : المواصلة حتى النهاية ولكن ما يكن أو التخلي عن كل شيء والذوبان في حياة عادية ككل الناس" ( الرواية ص 112 ).
المدينة والثورة:
أن الضربات الموجعة التي تعرضت لها مدينة الكاتب أيام أكتوبر لم تكن هي الصور الوحيدة التي تشكلت في ذهنيته ومخيلته بل أن الأحداث السردية تعود بنا إلى مقاومة المدينة على مدى المراحل التاريخية حيث يربط بين أزمنة الحاضر وأزمنة الماضي عن طريق الذكريات حيث تطفو على سطح ذاكرة جيل الثورة أمواج من الذكريات المتشابكة المتعالقة المتزاحمة يحاول كل منها الوثوب إلى الذهن... ملايين من الصور والملامح، الوجوه والمواقف وقد عاد بنا المؤلف إلى تسجيل ملحمة الأمي عبد القادر الذي بين المدن الصناعية والقلاع الحربية وعندما هدمت من طرف الاستعمار لجا إلى فكرة التنقل السريع عبر أرجاء الوطن ومدنه وجباله... لكن بموته لم تمت الثورات الشعبية بل توالت الواحدة تلو الأخرى ممهدة للثورة الكبرى التي شملت القطر الجزائري وكان الكاتب من خلال تداخل المكان يريد لفت النظر... أي تداخل المكان التاريخي التي جرت فيه الأحداث الماضية متعلقة بالمقاومين الآمر عبد القادر وبومعزة، مع مكان الأحداث الحالية التي تترك على أرضيته الشخوص الروائية والمتمثل في مدينة الجزائر بمختلف أماكنها ومينائها وشاطئها ... ثم توظيف الأحداث بشكل متقطع أ ي حرة مكان الأحداث وحرة المكان التاريخي.
البحر :
يشكل البحر من الناحية الجغرافية أغلب مساحة الأرض، وقد مرت علاقة الإنسان بهذه الكتلة الزرقاء الواسعة في العصر الحديث بسيطرة الإنسان عليه كما سيطر على غيره من المظاهر الطبيعية المختلفة فهو مصدر رزق وحياة للإنسان من جهة ومن جهة أخرى مصدر نقمة وتعاسة لأنه طريق سهل للغزاة.
والبحر في نظر الكاتب ذو بعد أسطوري ساهم في تكوين الأسطورية هذه الأخيرة التي كانت تبدو: ( هيكلا عظيما لكبش أسطوري. قد يكون أراد أن يبلغ شاطئ البحر غير المنية وافته لسبب من الأسباب فتمدد بكل ثقله على ساحل الخليج للعاصمة.
المراجع :
1 _ جيلالي خلاص : رواية عواصف جزيرة الطيور _مارينور 1998 الجزائر
2 _ خليفة قرطي : المدينة في الرواية الجزائرية .
3_يوسف الاطرش : المدين في ثلاثية محمد ديب ( مجلة أدبية )
4_ لخضر بن زاوي : المدينة الجزائرية في الرواية العربية