صراع الثنائيات في "الجازية و الدراويش" لعبد الحميد بن هدوقة

احمد السماوي
- صراع الإرادات:
إن قيام الرواية على ازدواج طرفاه الجازية من ناحية، والدراويش من ناحية أخرى، ينبه القارئ منذ عتبة النص الأولى لضرورة الاستعداد لتلقي علم روائي متفرع ثنائيا. وهو ما يعني أن هذا العنوان المنتمي إلى ما يسميه جيرار جوانات النص المحيط يفتح أفق انتظار للقارئ قد تلبيه له الرواية وقد لا يفعل. وتنبيه القارئ لوجود تفرع ثنائي بعينه يحفزه إلى تبيين العلاقة الممكن قيانها بين الجازية والدراويش، أعلاقة صراع أم علاقة وئام؟ ومتى انتفى بينهما الصراع، فما عسى أن تكون عليه صلتهما بغيرهما من شخصيات الرواية؟ وإذا انعدم الازدواج بين الشخصيات فأين عساه يمكن وتظل الأسئلة تلح على القارئ فلا يبرح النص أو يجد لها جوابا.
ويفاجأ هذا القارئ بسرعة تلبية توقعاته. فمنذ الصفحة الحادية عشرة تفيده الأنا الرواية بصورة للدراويش سلبية. فهم، حتى من دون دراية، يساعدون على الظلم ولا يختلفون في ذلك من الشامبيط الذي لا ينفك المتلفظون في الرواية يكيلون له التهمة تلو التهمة.
والحديث عن الدراويش والشامبيط سلبيا يقتضي البحث عمن يقوم نقيضا لهم. انه الجازية تحديدا فهي عنوان المرغوب فيه، في حين يعتبرون هم عنوان المنبوذ .
وبذلك يتأكد التفرع الثنائي المعلن عنه في العنوان ليكون الدراويش والجازية بمثابة المحور الذي يستقطب أشياهه و نظائره. فإذا للجازية من الشخصيات الحاضرة في الحكاية أو في القصة فقط، كل من كان الجمال الخلقي أو الخلقي صفته، وإذا للدراويش والشامبيط كل من ساء خلقه، حتى ولو كان شابا طري العود كابن الشامبيط مثلا. فعند الكلام على السايح بن بو المحاين، ورد الكلام على تسعة الرجال الذين قتلهم لأنهم "عاثوا فسادوا شطوا في الظلام"
(الجازية و الدراويش ص 44).
غير أن هذا التقسيم الثنائي المانوي قد يكون تبسيطيا، ومن ثم، اعتباطيا، لذلك عمل الراوي على أن يخفف من حدته بأن جعله نسبيا. فالطلبة عنوان الجمال والإيجاب في نظر الأولياء غير الراضين عنهم(ص80).
وهذا التفرع الثنائي الحاد جعل واحدا كالطيب بن الأخضر بن الجبايلي يقف من الصراع بين الماضي والمستقبل، ومن ثم، بين التقدم والتخلف، موقف المتشكك: "لماذا لا أكون الماضي الذي يزعزع أحلام الغاوين والفاجرين؟"(ص 123). انه إذا يعمل على كسر الحلقة المفرغة، يعزز حتما صفوف المقدسين للماضي غير أن التوزع بين أنصار مستقبل وأنصار ماض، لئن لم تعبر عنه الرواية بمثل هذا الوضوح، فإنها توحي به إيحاء. وما تقسيم الرواية إلى زمنين، "ما قبل ميلاد الزمن" و "مع ميلاد الزمن"(ص 5) إلا وجه من وجوه التقسيم الذي يحفز إليه النص المحيط القارئ في مستهل الرواية حتى ينتبه لمثل هذا التوزع. فمثلما دعا العنوان هذا القارئ إلى التفكير في العلاقة القائمة بين الجازية والدراويش، ها هو التقسيم إلى زمنين يدعوه، بدوره إلى الانتباه. وهو ما لا يبخل متن الرواية بإفادته به. فقد أشار الراوي إلى أن الراعي قد "اخذ يعزف في (هكذا) لحن قديم جاء من أقصى الزمان..."(ص 36).
إن العراقة المستفادة من اللحن وعازفه، تناقض المستقبل الذي يؤمن به صاحب الحلم (الأحمر) (ص22)، فدعي لذلك حالما، وظل أهل الدشرة، بشيبها وشبابها محافظين. أتعني المحافظة، إذا،سلبا؟ ألا يمكن أن تكون تصديقا لقول الأخضر بن الجبايلي: "هل يمكن لشجرة أن تحيا بلا جذور؟" (ص14)، أو قول هادية زوجته: "الشجرة لا تهرب من عروقها "(ص15)؟
وقد يلذ للقارئ أن يساير التفرع الثنائي التبسيطي، لكنه سرعان ما يصدم بواقع مركب ينسف كل محاولة لديه في الإخلاد إلى الراحة. ولعل نسبة الأحمر حصريا إلى المستقبل، ومن ثم، إلى الحلم، لا تستقيم تماما. فهو قد ضاق بتسمية صافية صاحبته الطالبة الجازية درويشة،لأنه والجازية معا يعتبران الدراويش والأولياء أنصار الماضي والظلم، في حين أن الجازية عنوان على الحلم مثله هو تماما (ص113). وهل الحلم بالمستقبل واحد في كل الأحوال؟ كلا، إن القرية التي يريدها الأحمر لا علاقة لها البتة بالقرية التي ينوي الشامبيط بناءها على الأرض التي تبرع بها (ص121). وإذا كان التفرع الثنائي بين ماض ومستقبل غير مريح، والماضي والمحافظة ليسا سلبا محضا، والمستقبل ليس إيجابا صرفا، فهل من سبيل إلى تخطي الحاضر الذي هو عنوان على الماضي؟ أيكون بتحدي الإرادة الأبوية كما فعلت حجيلة تقنع أخاها بعدم الزواج من الجازية (ص133) أم يكون بانتقال الجازية متى تزوجت بعايد بن السايح بن بو المحاين، إلى المدينة (ص 159)؟
إن الراوي، إذا يستدعي المروي له إلى طرح مثل هذه الأسئلة طردا مع تقديمه في تلقي الرواية، لا يجيبه حتما عنها، و لكنه يحل الإشكال بطريقته الخاصة كان يمنع تحقق أي من التصورين فلا الطيب يتزوج الجازية، ولا الجازية تتزوج عاديا، ورغم ذلك، يظل السؤال يلح على القارئ لا يعفيه. والحق انه ليس من واجب الرواية أن تجيب عن الأسئلة، وإنما يكفيها أن تلفت الانتباه إلى فكرة مركزية كأن تنبه، بهذا التفرع الثنائي في مستوى العنوان، وفي مستوى الزمان، للصراع المتحكم في العلاقة بين الشخصيات عموما، وبين رؤى العالم خصوصا.
2- بين راويين:
مما يعمق فكرة التفرع الثنائي هنا، قيام الرواية على راويين اثنين مختلفين، احدهما مضمن في الحكاية، والأخر غير متضمن فيها. وإذا كانت علاقة هذين الراويين بأحداث يسيرا كشفهما، احدهما وهو الطيب مشارك في الأحداث، والثاني مجهول الهوية غير مشارك، موقعهما من المستويات السردية غير ممكن، إذا ليس بالإمكان إحالة الراوي الأول الطيب على السرد من الدرجة الأولى، والراوي الثاني على السرد من الدرجة الثانية، حتى لو سبق ظهور الثاني، لأن الثاني غير مدين للأول بإعطائه الكلمة، وهو ما يعني انه والأول في مستوى سردي واحد أو هكذا يبدو؟ وفي هذا الصنيع تكريس في مستوى السرد لما في العنوان و في المقدمة من صراع بين طرفين، في مستوى الفعل. صحيح أن الأول يستعمل ضمير المتكلم. فهو شخصية راوية، وأن الثاني الذي يستعمل ضمير الغائب ليس كذلك. لكن هذا لا يكسب الأول امتيازا على حساب الثاني، خصوصا أن الفصول التي تقسم إليها الرواية حسب زمنين أول وثان يتناوب عليها الراويان، وتظل محافظة على ترتيبها المتسلسل من دون أن تخص هذا الراوي أو ذاك. ووجود تعادل بين الراويين في الفصول التي يرويان يعزز جانب التنافس المشار إليه، من دون أن يكون لأحدهما ترجيح على حساب أخر. وهو ما ينسجم مع مفهوم كسر النسق التبسيطي الذي اتضحت معالمه في رؤية الشخصيات المختلفة للعالم. وأقصى ما يختلف به الراويان احدهما عن الأخر نمط التبئير الذي يقوده في إدراكه.
فإذا كان التبئير الداخلي مهيمنا في الفصول الفردية، فالتبئير الصفر يطغى في الفصول الزوجية.
لكن بناء تغوير يربك بدوره هذه القسمة بين نمطي التبئير المشار إليهما.
فبناء التغوير (Abyme mise en ) هذا، يجعل الراويين على قدر واحد من المعرفة بالأحداث، إذا سبق لهذه الأحداث أن عرضت، وما تلا ذكره إن هو إلا توسعه ومزيد من تفصيل. ويتأكد الأمر عندما يلاحظ المروي له هيمنة القص التكراري.
فالحدث يروي مرارا رغم كونه لم يقع إلا مرة واحدة.(Récit répétitif ) ومثال ذلك الكلام على مجيء الطلبة إلى القرية. فقد تعدد ذكره في الرواية عموما وفي الصفحة الواحدة منها خصوصا، تنبيها للقيمة التي يكتسيها مجيء هؤلاء الطلبة إلى القرية واثر ذلك في مستقبلها.
ومثلما لم يعسف انقسام الرواية إلى زمن أول وثان المروري له بتفسير لطبيعة العلاقة بين الراويين يتناوبان على اخذ الكلمة، فكذلك يفعل زمن التلفظ، فهو، في الزمنين ومع الراويين، واحد، هو حاضر القول، وهو زمن السجن بالنسبة إلى الطيب، داخله، بالنسبة إلى الراوي الثاني المجهول الهوية، خارجه. وزمن السجن وهو زمن السجن هذا أو "الآن" (ص96) يرتد منه الراويان كلاهما ليحكيا ما حدث بين قدوم الطلبة، وعودة عايد، الجازية والدراويش،(ص54): "ثم جاء الطلبة"، "لكن الطلبة لم يكن يهمهم انتقال السكان من قرية إلى أخرى بقدر ما كان يهمهم انتقالهم من الماضي إلى المستقبل"، "في نظر الطلبة انتقال السكان إلى قرية يسهل اتصالهم بغيرهم"، "ومع ذلك نظر السكان إلى الطلبة... بعطف".
ورجوع ابن الشامبيط، وقد استغرق ذلك كله سنوات كما تؤكد ذلك حجيلة لعائد: "كانت عندنا فتاة طالبة متطوعة في السنوات الماضية اسمها صافية تدخن" (102). وإذا أرخت القصة لبدايتها. بمقدم الطلبة من العاصمة، وعايد من المهجر وابن الشامبيط من أمريكا، فقد أرخت لنهايتها بالسجن وكان القرية التي جاء هؤلاء جميعا لتحويلها من مكانها سواء ببناء قرية في ارض الشامبيط، أو ببناء قرية حديثة في السهل كما يحلم الحمر والطلبة أصحابه، أو بقبول عايد تعاضده حجيلة بنت القرية إلى حيث تركه أهله، أبت كل الإيباء أن تتزحزح عن مكانها. فليس ثمة ما يشير إلى سفر عايد، وليس ثمة ما ينمي عن استمرار ابن الشامبيط في مشروعه بعد موت أبيه، وليس ثمة أخيرا ما يفيد أن الطلبة قد اقنعوا الأهالي بالتحول من الجبل الصاعد إلى السهل المريح. أفا يعني ذلك انتصارا للماضي أم إيمانا بضرورة الانغراص عميق في البيئة وهل في ذلك من رسالة تبغي الرواية إيصالها لعل الجواب عن ذلك أن يساعد عن كشفه طابع الرواية المزدوج الرمزي.
3- الأسطوري في الرواية:
نعني بالأسطورية مطولة النص الأسطورة ونسجه على منوالها باعتبارها قصة تروي (خلق العالم و ظهور البشر وأصول علاقاتهم الخاصة ببعض الألوان الحيوانية والطبيعة بوجه عام، كما تروي نشوء العناصر التي تكون المجموعة وأصول الاختلاف والتفاوت بينها، وأصل الموت والأمراض والعلاقة بالعالم الغيبي). ومادام المبحوث عنه من قبيل المطاولة، فالواجب يقتضي إعطاء النص/ الرواية الأولية في ضبط التعريف الذي يقع التعامل معه. وهو ما يسعفنا به مالينوفسكي( Malinowski) عندما يتعامل مع الأسطورة كما هي في الاستعمال اليومي، لا كما هي في النصوص الميتة.
وقد أعانته على ذلك إقامته المطولة في جزر تروب وريان في ميلانيزيا بين القبائل البدائية.
وعندها لاحظ أن الأسطورة "ليست تفسر أو تجيب عن دهشة ذات طابع علمي أو فلسفي أو أدبي، بقدر ما هي تقوي المعتقدات والممارسات التي تمثل أسس التنظيم الاجتماعي وتشفرها".
يوضح بول ريكور Paul Ricoeur ذلك بإشارته إلى إقامة المدارس الأنثروبولوجية صلة متينة بين الأسطورة و الطقس.
فالأسطورة كما يقال، والكلام كله "هي التي تأسس للطقس بإعدادها مناويل عمل".
وفي الجازية والدراويش حضور للأبعاد التفسيرية العقدية للأسطورة من ناحية، وللأبعاد العملية من ناحية أخرى. وما "الزردة" أو "الزرنة" أو "الحضرة" إلاّ تجسيد للطقس الذي تمارسه القرية لإضفاء بركة ما على المشاريع التي يزمع إنشاءها تكريما أو بناءا أو إيفاء بنذر.
وعندما ندخل على الرواية مقودين بنص محيط يدعون إلى انتباه لعالم روائي تشقه الثنائيات من كل جانب نكون متحسسين لأي ظاهرة يطغى حضورها في النص ولعل سعي الرواية إلى إعادة إنتاج الأسطورة أن يكون الظاهرة الأكثر لفتتا للانتباه. وأبرز ما عنده تلتقي الرواية والأسطورة الإيغال في الزمن القديم. فهي قد تكلمت على "ما قبل ميلاد الزمن" و"مع ميلاد الزمن" (ص 05). وهذا الزمن المغرق في القدم الغائم التحديد شبيه كل الشبه بزمن الأسطورة فمعظم الأساطير كما يقول بيار سميث Pierre Smith "تحيل على الزمن أولي إليه نعود باستمرار كما لو كان رحما للأزمنة الحاضرة (09).
Paul Smith, Art. Myth. A. Approche Ethnosociologique, in, Encyclopaedia Universalis, France, S.A, 1985 corpus12, p 880
Ibidem Paul Ricoeur, Art. Myth. C.L, interprétation philosophique, Op. Cit. p. 887.
والشخصيات التي أعلن عنها التقديم، والتي ولدت مع الزمن، ومع بداية القصة هي الجازية والدراويش، والسبعة، والرعاة، والشامبيط، (ص05). فأين ذكر الشباب الكثر جميعهم، أين ذكر الأخضر بن الجبايلي، والسايح بن بو المحاين من الشيب ؟ إن الرواية- في التقديم- بقصرها ذكر الشخصيات على هذه الخمسة، قد انتقت وأصرت على خلق عالم سحري يعاشر فيه الشامبيط الجازية، وهي في سن ابنه .
كما يستفاد لاحقا من متن الرواية. وعندما يمزح الأحمر بنسبه الجازية إلى جدتها الأولى الكاهنة، وجدها القريب صاحب الحمار (ص 59) هو في الحقيقة لا يمزح، وإنما يضفي بعدا أسطوريا على الجازية بإلحاقها بزمن بعيد مغرق في القدم، هو زمن الجازية الهلالية كما رسمت صورتها السيرة فجعلتها عنوان الجمال. وهذا هو شان الجازية في الرواية. فالقول" كم هي جميلة الجازية" (ص 70). رجع صدا لما يصر عليه التراث الشعبي وسيرة بني هلال في افريقية وبلاد المغرب من تقديس لجمال الجازية الهلالية.
وإذا جاءت الجازية الهلالية أسطرتها مما أضاف الخيال الشعبي من صفات لم تكن في الجازية التاريخية وجوبا، فكذا شان جازية القرية، فغيابها عن الأنظار(10)، وبلوغ ذكرها كل بيت في القرى، وفي المهاجر القريبة والبعيدة، يضفي عليها من الصور مالا تقدر المرأة العادية على أن تحظى به. فهي تعشق من أول لقاء (ص 19)، ويقدم الناس من أجلها (ص28-31) ، بل وتصرح الأنا الراوية في الفصل الأول، بأنها أسطورة (ص23).
مما يزيد أمر الأسطورة وضوح ضبابية الفضاء. فهو بأمكنتها المتعددة عاطل عن أي تسمية وثمة القرية الجبلية، والقرية السهلية المركزية، وثمة الدشرة، ومسجد السبعة، والصفصاف، وعين المذيق والجدول الرقراق (10-28-29). ومتى قبلنا جدلا بأن التسمية قد تكون غير ذات الأهمية، فان تأطير الحكاية في بيئة لم تغير فيها الثقافة الطبيعية يرسخ الاعتقاد في زمن البدايات باعتباره الزمن الأثير للأسطورة. وزمن البدايات هذا هو زمن الخلق أو إعادته. ولعل أسطورة الطوفان أن تكون أفضل التصوير كما يقول بول ريكور للأسطورة التجديد هذه. "فهي ترتبط من ناحية بالتداعي والهدم وترتبط من ناحية أخرى بتجدد الخلق" (11)، ويستدعي هذا التجديد إخصابا لتحقق الطبيعة دورتها العادية، وهو ما يعني حضور الإيروس بقوة، في مقابل التاناتوس قوة الجذب والموت والغضب، والطرفان حامل لبذرة الإبادة من ناحية و الخلق المتجدد من ناحية أخرى، ويتمثل الإخصاب المشار إليه في البعد الجنسي للجازية، فجمالها الفتان وإخراءها و أغوائها.
Pierre Smith, Art, Mythe, Op. Cit.p880 .9
10. لم تحضر الجازية إلى حد الصفحة الخامسة والخمسين من الرواية في الحكاية رغم حضورها في القصة من أول وهلة، فهي يتكلم عليها ولا تظهر.
Paul Ricoeur, Art Mythe, Op.Cit,p.p887-888 .11
بتخفيها وتجليها، وتهافت الشبان الممتلئين طاقة ليبيدية قوية عليها يعمق دلالتها الجنسية (ص 90). ولهذه الطاقة الجنسية، في المقوم الجمالي ما يعضدها. فعندما يصف الطيب وجه الجازية بقوله: "صار جليدا بلوريا ترى من خلاله كل الجزئيات والدقائق الداخلية" (ص 71) يتضح أنه يخرج بها من مقام الإنسان إلى مقام أخر سام. وألا تلاحظ حجيلة أخته ما يراه هو قد يرسخ جانب البطولة فيها جمالا مرئيا، وطاقة ليبيدية كامنة.
ولعل هده الطاقة التي تتوفر فيها هي التي شجعت خيال الراعي على أن ينسج "حكاية جنسية مجنحة عن علاقتها بالطالب الغريب" يرويها لعايد: "قالت: فضني، وارتحل إن شئت. بذرتك سوف أخصبها مهما كانت الزوابع" (ص90). ولما فارقته تركته فاقد الوعي، ولما أفاق فقد عقله إذ بحث" عن سيارة أجرة في جبل لا تتسلقه الأقدام" (ص 90).
إن الجازية، بهذا المعنى، هي الحياة (ص 117). فهي، إذ تأخذ من الأحمر عقله -كما يزعم الراعي- لتحافظ على بذرته، ومن ثم، على أحلامه تبقيها حية، تعيد الخلق من جديد. والإخصاب والتجدد هما سمتا الحياة في مقابل الموت الذي يتربص بالأحياء وأسباب العيش يقضي عليها. وما العاصفة الهوجاء التي تلت "الزردة"، فأتت على الدور والنبات والصفصاف وكل حي في الدشرة، إلاّ قوة إبادة رآها كثيرون مؤشر غضب من الأولياء. وجاءت العاصفة تتويجها لعمل الإثارة الجنسية القوي إذ راقص الأحمر الجازية، وشطح الدراويش، وقبلوا السيوف الحادة الحارقة، فنزل المطر مدرارا. ولا يخفي ما للمطر من رمز جنسي واضح، فهو عنوان الإخصاب. وبهذا المطر الذي رافقه تهديم وتداع، ستنبعث الحياة من جديد، تكمل الطبيعة دورتها.
وهذا كله ينخرط بجلاء في الأسطورة كما نسجها الأولون، والنص /الرواية، إذ يحافظ على اتساقه الداخلي، فيحمل القارئ على أن يرى فيه إعادة إنتاج للأسطورة، يتحمل، بدوره، مسؤوليته في تحقيق ذلك فيصرح بأن الجازية أسطورة (ص 23). وبذلك، هو يضع ميثاق روائيا همه توجيه القراءة وجهة معلومة، وتنبيه المروي له لكون الراوي قد أضفى على الحبكة سيرورة خاصة ما كانت لتكون لو كانت شخصية الجازية طبيعية لا خارقة. ومن مظاهر هذا الخرق للطبيعة أن أبا الجازية قتل بألف بندقية، لأنه كان، وحده، جيشا، ولا أحد يعرف أصله، أمن الشرق جاء أم من الغرب، وحتى دفنه تم في حناجر الطيور (ص 34). وفتاة بمثل هذا الأصل الاثيل، لا يمكن أن تنسج من حولها القصص، فتخرج بها من المألوف والطبيعي إلى ما يتجاوزهما، ناهيك أن أي وافد على القرية يعرفها من بين عديد النسوة المجرد ووقوع عينه عليها، شأن عايد الذي ميزها، وهي ترد الماء مع النسوة. فقد "أحس بسعادة ممتعة، تسري في خطاب غير مباشر حر ينقل به فكرة لعايد: "إنه سعيد بهذا اللقاء. إن لم تكن هي الجازية نفسها، فإنها جازية أخرى تغزو القلوب الأشد تعنتا" (ص 46).
ويذهب الطيب في مناجاته الأحمر إلى أنه "قد يأتي مغامرون جدد يخاطبون الجازية المجددة في كل القرويات" (ص 114). فهل للجازية بعد هذا الكيان مستقل؟ هل هي فعلا شخصية واحدة موحدة أم هل هي هوام تتناهشه الأطراف جميعا؟ فقول عايد في نفسه: " إنها الجازية، أو كالجازية إنها...يا إلهي، كم جميلة" (ص 46) دال بما فيها الكفاية على ان الجازية معيار تقاس إليه الفتيات الأخريات. وهذا المعيار هلامي لأنه قائم على تخييل أكثر من قيامه على الحقيقة. وليس أدل على التخييل من تبرير الجازية رفضها الزواج. فهي تزعم بان أزواجها الأوائل حرام، ولن يقع زواج حلال إلا بعد زيجات حرام متعددة (ص 71). والقصة التي ترويها الجازية مبرر لعقدتها شبيهة بأسطورة أديب. ومثله هو تماما تكون العرافة سببا في اطلاعها على مستقبلها بتفاصيله. وكل ما يبغي الفوز بها، عليه أن يبذل في سبيل ذلك، الغالي والنفيس، لذلك أغضب الأحمر الإنس والجن وحتى السماء عندنا جازف بمراقصته إياها في "الزردة" كما رأى الراعي المرح (ص 153) وأغضب الأولياء كما رأى الأخضر بن الجبايلي. وقد علق الراعي المرح على سلوك الأحمر قائلا: "الجازية لا تنال بضمة. الناس تعذبوا وسجنوا، حلم السنين الطويلة ليحصلوا على نظرة واحدة من الجازية ولم يستطيعوا" (ص 153). أتكون الجازية، بمثل هذا التقويم من قبيل النساء العاديات أم إن لها هذه الشخصية الكاليزمية التي تفوق بها سائر النساء؟ وهي الشخصية التي لها صلة متينة بالمرأة الهوام، تلك التي يحلم كل راعي وكل فلاح، وكل درويش، بان تشاركه الفراشة (ص 153). ومجرد القناعة بالحلم وهو ما انتهى إليه عايد في أخر المطاف عندما عرض عليه الأخضر بن الجبايلي الزواج منها ولقد "جزم أن الجازية لم تخلق له" (ص 196).
4- الجازية بين الخارق والطبيعي:
إن بعد الجازية الخارق الذي أضفى عليها مسحة أسطورية لم يكن محكم السد، بحيث يمنع تهديده أو التشكيك فيه. فبمجرد عرض الأخضر بن الجبايلي على عايد الزواج منها دليل على أن لها بعد إنساني لا يمكن أن تنسلخ عنه. وهذا البعد الإنساني الذي ينازع البعد الأسطوري فيها يتماشى والتفرع الثنائي الذي أعلنت عنه الرواية منذ عتبتها الأولى. وهو ما يعني أن الأسطورة التي تحققت للجازية لم تغيب أصلها التاريخي من ثم الطبيعي فعندما حضرت الجازية لأول مرة، حضرت تمثالا ضخما (ص 09). وهو ما يعني أنها تجمع في ذهن الأنا الرواية صورتين مختلفتين: صورة الجمود والبرود والدوام من ناحية، وصورة الفن السامي من ناحية أخرى. فهي بما هي فن سها استدعاؤها هواما وهي بما هي ضخامة يمتنع استحضارها وان استدعيت، فلا يتم ذلك إلا هواما أيضا وأن تكون هواما مطلقا لا ينفي عنها البعد الإنساني بل يرسخه. وجاءت المقاطع التالية لحظة ظهورها الأول لتأكيد الطابع استفهام في علاقة المناجي بها. وأسرار المناجي/المخاطب على تحديد ازدواج شخصيتها فهي بقدر ما تتخفى تلغز على المناجي وبقدر ما تنكشف تقترب من المرأة العشيقة التي يتنافس عليها (ص 12-13-17). ومما يعزز هذا البعد الإنساني في الجازية ميل الراوي إلى استعماله التشبيه تخفيفا من البعد الأسطوري الطاغي عليها: "لقد جاءت الجازية إلى الحضرة الجازية التي تشبه الحلم" (ص 80). والتشبيه هو في الدرجة الدنيا من درجات البيان لأن المشبه والمشبه به وأداة التشبيه متوفرة، وقد يتوفر أحيانا وجه الشبه. ومن شأن هذا أن يحد من ذهاب النفس مع الخيال مذاهب شتى، كما هو شأنها في التشبيه التمثيلي أو الاستعارة على سبيل المثال.
ولهذا الانسنة مظهر آخر تلجأ إليه الرواية عندما تمنح الجازية قدرة فنية عالية، كسائر الناس، تحكي، ولكنها "إذا حكت تحسن التحليق في السدم البعيدة" (ص 82). فصورة الجازية المتماهية مع التمثال يبدعه غيرها شبيهة بصورتها في فنانة تحسن الرقص، وترعب الآخرين في الإنصات إليه.
واضطرار الروائيين أحيانا إلى التغافل عن أسطورة الجازية لإحلال الانسنة محلها لم يكن ليطمس أحد البعيدين لفائدة الآخر بل كان يعمد إلى نوع من التقريب بين المتباعدين، فمجيء الجازية إلى "الحضرة" مثلا قد حصل، ولكنه، إذا تم، لم يكن عاديا. فقد قدمت الجازية ملثمة ولثامها صفيق (ص 23). فالمجيء غير منتظر مادامت صاحبته إلى الوهم أقرب وما دامت قد جاءت فهي امرأة عادية وقد تكون ملثمة كسائر النسوة الحييات لكن اللثام الصفيق مدعات إلى العجب أليس فيه لعبة خفاء وتجل تعمل الجازية أن تبرع فيها؟ أو ليس القصد من هذه اللعبة خدمة بعدها الاثنيني؟ وهذا الازدواج في الشخصية هو الذي حد بعايد إلى الإقرار بأن الجازية "كانت تحيا في نفسه بشكل مكثف لكنها بقيت في مستوى الفكرة أو الحلم أما كالحقيقة (هكذا؟) فقد اتخذت شكلا لها في شخصية حجيلة) (ص 149) ونقاط اللقاء بين الجازية وحجيلة كثيرة في الرواية ولعلا منها دلالة الاسم. فحجيلة هي المتبخترة، البيضاء الساقين واشتراك الفتاتين في الجمال يسمح للروائيين بنسبة الإنسان حصرا إلى حجيلة والأسطوري أساسا إلى الجازية ولعل حضور الجازية امتناع أخيها الطيب عن التقدم لخطبة الجازية، وحضورها رفض عايد الزواج من الجازية أيضا ليخطب ودها هي بذات دليل على أن نفي البعد الأسطوري عن الجازية عسير إن لم يكن مستحيل وما سلبية الجازية إزاء منافستها حجيلة أو القرويات الأخريات دليل على ترفع عن الغيرة بقدر ما هو دليل انتماء مختلف حجيلة والقرويات ينتمين إلى ناس في حين تنتمي الجازية إلى البطلات ولعل قص الأساطير حكايات البطال من غير آلهة اليونان القديم أن يكون مؤيدا لطبيعة هذه الرواية التي تطاول الأساطير الأولين.
5- الرمزي ند للأسطوري:
إن الراوية وهي تقدم نفسها للقارئ تلح على طابع ثنائي يميزها لذلك لا تني الثنائيات تتوالد، ومنها ثنائية الأسطوري/الرمزي. فهل اختيار معارضة الأسطورة سواء في بنيتها أو في محتواها كافي لتفسير الرواية أم هل لهذه المعارضة غاية تسعى إلى تحقيقها؟
لقد سبقت الإشارة إلى يُتم الجازية، فهي قد فقدت الأم عند الوضع والأب إبان المقاومة ألا يكفي هذا المؤشر لتنزيل الرواية في التأريخ لنتائج الثورة وبذات لعد بناء الدولة بعد الثورة؟ فتجد آنذاك الجازية مجالها للتفسير باعتبارها ناتج الثورة يتهافت كل أطرافها على تحقيق كسب منه مناسب وما يُتم الجازية إلى من يُتم الثورة فقد مات ساستها الأوائل وظل الأبناء من غير سند ومادام هؤلاء الأبناء قصر فالأوصياء عليهم كل من جانبه يسعون إلى كسب ودهم وأخذ نصيب مما يملكون ولعل استعصاء الجازية على جميع الأطراف رمز للاستحالة النيل من الثورة فهي وإن راودها كثير من الأطراف ظلت محافظة على كرامتها غير مخلة بشرفها ولعل الشامبيط أن يكون المجسد الأفضل لمن يلتف على الثورة فيصيب منها ثراء بعد أن راوغ أثناءها المناضلين جميعهم، فكسب بذلك رضا المستعمر وغض المقاومة عنه الطرف. وما قصر الرواية عليه دون سواه التسمية الأعجمية إلا دليل تفص منه ورفض. لكنه يعرف، أهل القرية يعرفون أنه متى "تزوج ابنة الجازية غسلت ماضيه بماء عطر" (ص 188). لذلك سعى جاهدا إلى تزويج ابنه منها، بل إلى التبرع بأرض يقيم عليها القرية الجديدة، على أن تتكفل إحدى الوكالات التي يعرفها ابنه في أمريكا ببناء السد (ص 35-36). وهذه المعطيات جميعها تكذب أن تكون الجازية مجرد فتات تزوج. فوضعها الاعتباري يتجاوز البعد الحقيقي فبما إلى البعد الرمزي. فهي مفتاح الدخول إلى قلوب أهل القرية، أولئك الذين يتنازعون طوعا للشامبيط على أن يكون هو وابنه سيدي اللحظة مثلما كان الشامبيط إبان الثورة.
وليس الدراويش بأقل نهما إلى الفوز بنتائج الثورة، فقد استماتوا في الوصول إلى قلب الجازية بنية استبعاد الشامبيط ممثل الاستعماريين القديم والجديد، والطلبة ممثلي المستقبل "الأحمر" غير المشهود. ومتى تم استبعاد هذين الطرفين، فلا يبقى للدراويش إلا أن يمثلوا الماضي الطرقي المحافظ. وقد عبرت عن هذا البعد الثنائي في الدراويش "واو العطف" في عنوان الرواية. فهي واو الفصل والوصول في آن معا. هي وصل أي تعزيز للجازية، وهي فصل أي استئثار بها. وإذا رأى في الدراويش رمز للماضوي ذي الأثرة، فما عسى أن نرى في كل أهل القرية الذين رفضوا الانتقال من الجبل الصلد إلى السهل المريح؟ أيكونون هم أيضا عنوانا على الماضي؟ فقد رفضوا الشامبيط وابنه، ورفضوا الأحمر وصحبه، فهل بينهم وبين الدراويش اتفاق؟ يبدو أن لا اتفاق البتة رغم كون الظاهر يشي بعكس ذلك. فامتناع الطيب وعايد عن الزواج من الجازية، وانتهاء أحدهما إلى السجن، والآخر إلى الزواج من حجيلة لتبقى الجازية على بكارتها وطهرها الأصليين، دليل على احترام للثورة وخشية عليها من منبعث العابثين. فالشابان، تصنيعهما ذاك، وبتأييد من الأخضر وحجيلة، وبرضا من المرحوم السايح بن بو المحاين، بل وبإقرار من صافية الطالبة تؤكد خطر بناء السد على البيئة، يعتبران أن مستقبل القرية يبنيه أبناءها الخلص، بإرادة ذاتية، ومن دون وصاية من أحد، وبلا هدف ربحي مشبوه.
6- خاتمة:
هكذا نرى بجلاء مطاوعة الرواية للتحليل المتعدد الأبعاد. فإذا جئتها من جانب المحتوى السردي وجدت أن الصراع بين جمال وقبح، ومستقبل وماضي يشقها من البداية إلى النهاية ومتى قاربتها من جانب الخطاب السردي ألفية تنافس الروائيين المضمن في الحكاية وغير المضمن فيها ينتهي إلى نوع من الوفاق ومتى رأيت فيها معارضة للأسطورة بنية ومحتوى انتبهت لكون الأثر قصة تأريخ للبطولة للزمن المغرق في القدم وتثير قضية العود الأبدي لتجديد الطبيعة خلقها. ومتى اكتفيت بالنظر إلى الشخصيات على أنها طبيعة لا خارقة وجدت أن للرواية بعدا إنسانيا بينا أما إذا نظرت إليها على أن الأسطوري والإنساني فيها لا يخلوان من بعد رمزي يأتي البناء الثنائي ليعضده، فهمت أن الرواية تطرح رأيا فيما بعد الثورة.
أفإن قبلت الرواية هذه المقاربات جميعها، واستوت قيمتها لديها، لا يستطيع المرء من هذا الاستواء فكاكا؟ ألا يمكنه أن يغلب إحدى القراءات على أخرى فكرة الصراع التي تشق النص هي التي تحكم العلاقة بين هذه المقاربات. فلا أماكن للكلام على الأسطوري في الجازية إلا في مقابل الإنساني فيها. ولا إمكان لتأويل أسطوري إلا باستدعاء الرمزي. فهذه المقاربات، شأنها شأن الخطاب يتناوب عليه راويان مآلها التعاضد قصد تفسير الرواية، لا التضاد. ففكرة الصراع هي التي سهلت استخراج الأبعاد المتعددة، ومتى استخرجت، تبين أنها تتضامن ولا تتنافر.