رحلة الكتابة- كتابة الرحلة نحو أفق كتابة مغاربية

د. محمد تحريشي - جامعة بشار
السائح الحبيب، ذلك المشروع الطامح للاكتمال، السائح ذلك النص الذي كتب ولم يقرأ، أو قرأ ولم يكتب، وقد يكون كتب العديد من المرات، وقد يكون قرأ قراءات منتجة للاختلاف. وفي هذه الحال أو تلك يبقى السؤال معلقا عن مصير تجربة في الكتابة لمشروع قراءة منتجة لنص جديد يحمل مصداقية فنية وجمالية تكون نبراسا يدق في عالم النسيان.
إن الاقتراب من عالم الحبيب السائح اقتراب نشوة وتلذذ ومتعة وجمال، وقد يحتاج فعل القراءة المرتبطة بالنص عند السائح إلى نوع من المرجعية المرتبطة ببعد معرفي متطور، يلخص تجربة الجزائر في مجال الكتابة السردية التي استطاعت أن تبني لنفسها بنيات جمالية وفنية تعتمد على نبذ المألوف، وتجاوز المعتاد. وهي كتابة التفافية دارت على نفسها فاستفادت من تجربة الممارسة اللغوية المنتجة. إن تجربة السائح الحبيب هي تجربة تعتصر الواقع الجزائري المتمثل في ثلاثين سنة من التجريب والمعاودة والسؤال ورد السؤال. ثلاثين سنة من الحلم بالجنة الموعودة. ثلاثين سنة من الإخفاق والأزمات، ثلاثين سنة من الوهم والتخيلات، ثلاثين سنة من الحل والترحال.
وقد يتعلق السؤال بأفق الكتابة عند هذا الروائي في نصوصه الإبداعية، فهل أنها كتبت لحظة إنجازها؟ أة أنها كانت تكتب كتابة متحولة بحسب درجة التلقي والانفعال لدى هذا الكاتب؟ فمنذ صدور القرار والصعود نحو الأسفل يشعر القارئ بأن السائح الحبيب قادر على أن يتجاوز الأفق الذي يصل إليه. وقد أبان منذ الممارسة الأولى لفعل الكتابة أنه قد اتخذ قرار، ولكنه لم يتبين أنه مجبر على أخذ أكثر من قرار، ولعل أهم قرار يتخذه المرء هو أن يقرأ تجربته في الحياة التي هي تجربة في الكتابة التي لا تعني في أية حال من الأحوال الثبات والاستقرار والتحجر، على الرغم من الاعتقاد في زمن ما وفي مكان ما في مدى قدرة الأفكار على المكابدة والصبر والاستمرارية. إن الكتابة قد تعني في مستوى من المستويات مراجعة للذات في نجاحاتها وفي خيبات أملها المنكسرة على عتبات ذلك الإصرار والعناد العنود، وعدم الرغبة في الاعتراف بالفشل والهزيمة والصعود نحو الأسفل.
ويكون من المفيد لنا أن نقترب من عناوين أعمال السائح الحبيب الإبداعية لنقف على بعض من المعاناة التي يكابدها هذا الكاتب. وقد كانت هذه العناوين كالآتي: القرار، الصعود نحو الأسفل، زمن النمرود، ذاك الحنين، البهية تتزين لجلادها، الموت بالتقسيط، تماسخت دم النسيان، تلك المحبة... فكانت بنيتها اسمية في أغلبها، فدلت بذلك على إصرار وثبات ومواصلة كأنها تريد أن تستوقف التجربة في حيز زماني ومكاني وتقبض عليها، وكأن ليس هناك فعل أو حركة أو حدث بل خواء في خواء وصعود نحو الأسفل.
لقد أصر هذا المبدع على أن تكون عناوين أعماله دالة عليه، فهي قصيرة مكثفة مفعمة بالدلالة الموحية، وهي عناوين توحي بالبساطة والسهولة، وهي بذلك تخدع المتلقي وتوهمه أن العلاقة الناشئة بينه وبين النص علاقة طبيعية يسيره، ولكن ما إن يباشر هذا المتلقي النص حتى تواجهه صعوبة الربط بين السبب والنتيجة، بين الغاية والوسيلة، وتجليات اللغة في دلالاتها المعجمية ودلالاتها الفنية والجمالية المولدة للمتعة والجمال.
والملاحظ أيضا أن هذه العناوين تشكلت وفق بنية تجسد التكثيف والإيحاء والقدرة على اعتصار التجربة من منظور سردي يتفاعل مع اللغة لتوليد اللغة، وعلى الرغم من هذا الجامع بين كل هذه الأعمال، فإن كل تجربة قائمة بذاتها ترصد واقعا معيشيا بعينه للمجتمع الجزائري، وقد يكون من الأجدى أن تقرأ كل تجربة سردية على أنها وحدة قائمة بذاتها قد لا تستفيد مما قرأ به عمل آخر. ذلك أن الحبيب السائح يعيش التجريب ويمارسه في كل لحظة كتابة، فهو لا يكتب نصا فريدا ثم يردده في أعمال لاحقة، وإنما يكتب كتابة متجددة.
وتجسد تجربة هذا المبدع في الكتابة حجم المعاناة مع الكلمة إلى درجة الهوس مع اللغة، فهل كان كذلك في تجربته النضالية؟
وهل يشعر بالرضى على سنوات الشباب فيما أفناها؟ وهل عليه أن لا يأسف على زمن تولى؟ وهل العودة إلى هذا الزمن هي عودة حنين أو تشف؟ أو هدم ثم بناء؟
ويبقى السؤال مطروحا لماذا نختار نصا بعينه؟ ولماذا كتب؟ ولمن كتب؟ وهل تخير السائح الحبيب قارنا معينا؟ وهل الكتابة عنده ابتداع واختراق للمألوف؟ أو أنها تسجيل لما وقع من حال وترحال؟ وما علاقة هذا العمل بالواقع والمتخيل؟ وإلى أي حد استطاع السائح أن يتجاوز الواقع ويسمو إلى المتخيل؟ وهل سافر هذا الروائي مع نصه؟ أو سافر قلبه؟ أو حل بعده؟.
وعلى الرغم من أن السائح يشعرنا أنه لم يخطط لهذه الرحلة- رحلة الكتابة- وهو المرتبط بالمكان الجغرافي، وبمدينة سعيدة تحديدا، فإن المتتبع لفعل الكتابة عنده يشعر بأن هذا الفعل مغامرة نحو المجهول، وهو رحلة متعددة الاتجاهات، ويشعر أيضا أن السائح الحبيب كان دام السفر والتنقل، وأن هذا الهاجس كان يحكم عالمه الروائي، مع العلم أننا يمكن أن نصنف الكتابة عنده إلى مرحلتين، فالمرحلة الأولى تمثلها الأعمال: القرار، الصعود نحو الأسفل، زمن النمرود، وتتمثل المرحلة الثانية في أعمال منها: ذاك الحنين، والبهية تتزين لجلادها، وتماسخت، الموت بالتقسيط، تلك المحبة. وقد نشهد تحولا ما مع العمل الأخير تلك المحبة التي تمثل فيها مدينة أدرار بأجوائها الصحراوية حضورا قويا حيث منها وإليها كانت الرحلة شاقة ولذيذة وممتعة، رحلة مخاض وولادة جديدة التي يصعب أن تعاد مرتين.
إن أعمال السائح الحبيب الأخيرة على وجه العموم، ورواية: تماسخت دم النسيان على وجه الخصوص تعلن بصراحة سقوط الأيديولوجية، إيديولوجية المبدع أو المؤلف لتحل محلها إيديولوجية النص، لقد سقطت إيديولوجية الزعيم، وسقطت معها إيديولوجية الأمير وسقطت معها إيديولوجيات أخرى، واختار النص لنفسه إيديولوجية خاصة، وتلونت الكتابة بذلك بلون خطاب يعلن انهيار النظام والإنسان وقيمه.
والواقع أن الحبيب السائح لم يكن وحده المعلن عن إفلاس الإيديولوجيات أو سقوطها، بل يكاد يكون هاجس الكتابة السردية التي كانت في وقت ما تتمثل الواقعية الاشتراكية فنيا وجماليا، فكتبت أعمال وفق هذا المنظور الجمالي، وكانت نموذجا للكتابة، وكانت في حد ذاتها تجربة في الكتابة. "1"
1- لقد استطاع إبراهيم درغوثي أن يجمع بين مبدع والناقد في رده على سؤال مشابه: سقوط الأيديولوجيات هل يخدم الفن أم يقتله؟ هل يمكن أن يعيش الفن خارج الأيديولوجية؟ فأجاب: ((... شخصيا سحرتني الواقعية الاشتراكية في بداياتي خاصة بعد قراءاتي لأعمال مكسيم جوركي والكسي نولنسوي وقسطنطين سيمونوف وجنكيز انمانوف وغيرهم من رواد هذا الفن. ولا غرابة في ذلك، فحين تكون ماركسيا لينينيا يصبح من البداهة أن نعشق مذهب الواقعية الاشتراكية وأن نتبنى هذا الطرح دون سواه لأنك حين تتخطاه إلى طريق آخر تصبح مارقا عن طريق القويم. كافرا بنعم المعلم جدانوف عدوا للخير والمحبة والسلام. ولكن مع ذلك يمكن للإنسان أن يعيش بدون أيديولوجيا؟ هذه واحدة من المستحيلات! فالإنسان المستقل هو إنسان مستقبل.. والأدب هو نبض الحياة من خلاله نطل على الدنيا من كوى وشبابيك شرقية وغربية تصنع مشهدا بانوراميا يستحيل على الأيديولوجية أن تسجنه أو تدجنه ولكنها مع ذلك تترك أثرها عليه)) مجلة عمان، العدد: 90ص: 36.
1- تماسخت...دم النسيان بين انهيار الإنسان وانهيار القيم:
يطرح عنوان هذا العمل، تماسخت دم النسيان، أكثر من سؤال، حيث يكشف عن تحول مهم في التصور الجمالي للعمل، فقد تجاوز المبدع يأسه إلى مرحلة أقوى إلى الفاجعة والمسخ وخيبة الأمل، وانتصر على التردد وتقديم الرجل وتأخير الأخرى. إن تماسخت هي بحث في الذات المتشرذمة والمتشظية والمنهارة، وهي سؤال يقلب كفا على كف وهي خاوية على عروشها. تماسخت هي صحوة الضمير بعد سنوات النضال من أجل مستقبل زاهر أبانت عنه سنوات التسعينات. تماسخت تربط بين جزائر السبعينات والجزائر العشرية السوداء. ثم إن هذا النص يفرض عنوانا آخر كاشفا للرؤية الجمالية التي أطرت المبدع، فقد جاء العمل على عهد: الزعيم، الرفيق، الأمير، مولاي... دم النسيان.
تماسخت هذا اللفظ الشلحي "تشليحت" المؤنث العائد إلى الأصل العربي مسخ، وماسخ، الدال على الهيئة بفعل قوة جبارة على سبيل العقاب. وما اختيار المبدع لهذه الصيغة والتسمية إلا على سبيل الارتباط بالمكان الدال على الحل والتحال، الإقامة والسفر، فكأن السائح وجد الجزائر الإنسان المنهار، الفاقد لقيمه، في هذا المكان، في هذا الاسم، في هذا الاكتشاف.
تماسخت.. دم النسيان عمل سردي يعتني عناية كبيرة بالحرف والكلمة والموقف والتحول والخروج من الامتلاء إلى الخواء للعودة للامتلاء ثانية، إن فعل الكتابة هاهنا هو تفريغ وشحن، وهو قدرة على التحول من حال إلى حال، وهو يحاكي واقعا أليما لجزائر التسعينات بلغة فنية تعتمد أكثر ما تعتمد على الانزياح وتوظيف الألفاظ لغير ما وضعت له والارتقاء بالكتابة إلى أفق لم تكن لتدركه إلا بتلك الشحنات التي يشحن بها النص، وبتلك الدلالات الإيحائية التي تمد بها الألفاظ، تماسخت.. دم النسيان استطاعت أن تؤسس لنفسها بنية تركيبية خاصة بها تدل على أن المبدع قد مارس التجريب على مستوى السرد، وعلى مستوى الحوار.
إن تامسخت.. دم النسيان هي رحلة الذات المشتتة الباحثة عن ميناء سلام، وهي كتابة من وراء، وكتابة آنية، وكتابة تستشرف المستقبل وتتطلع إليه، والقارئ للعمل قد يسأل لماذا تحضر في شكلها زمن الكتابة، لماذا الربط بين السلطتين بهذه الطريقة العجمية؟ ولماذا على عهد الزعيم، وعلى عهد الإرهاب، وعلى عهد الرحلة طلبا للأمن المفقود. إنها الرحلة التي تقود إلى رحلة أخرى على شكل متتالية لا نهاية لها ولا حد. رحلة زمن السبعينات في نظام يتهاوى، ورحلة زمن الاغتيال والقتل الإنسان يتداعى، ورحلة إلى خارج الجزائر، ورحلة زمن الحمل والمخاض، ورحلة زمن الكتابة والميلاد، وما أصعب أن يشعر الإنسان أنه في سفر دائم ورحلة لا تنتهي؟
وما أتعس أن يكون الإنسان شاهدا على نهايته؟ وما أحقر أن يصبح الإنسان رقما متداولا في بورصة القتل والدم والاغتيال؟
ثم متى هذا العمل؟ ومتى قدر له أن يكتب؟ فهل كتب على عهد الزعيم؟ أو كتب على عهد الاغتيالات؟ أو كتب أثناء السفر إلى الخارج؟ أو كتب بعد العودة منه؟ أو كتب في المنفى الإرادي أو الاضطراري؟
إن الكتابة عن الذات كتابة عن سفر عن رحلة قد تعرف بدايتها دون النهاية، وتحتاج إلى أكثر من المغامرة. ويجد المبدع نفسه أمام مجموعة من الأحداث والوقائع التي عليه أن يختار منها ما يشكل حالة إبداعية تثير في المتلقي شعورا بالجمال والمتعة، وتتحول إلى واقع فني. ولكن هل أن السائح الحبيب الذي زار المغرب وخرج إلى تونس وغادر الجزائر هو المبدع الذي كتب عن هذه الرحلة؟
إن بناء النص اعتمد على حدث وقع في الجزائر ومازال مستمرا، فانتقلت الشخصية من مكان إلى آخر لتعود إلى الأول وكلها يقين أنه مهما تغير المكان أو تحول الإنسان، فإنه لا محالة شاعر بالقهر والغبن والضيق مهما رحب المكان أو اتسع، سواء كان الجزائر أو المغرب أو تونس. سواء أكان هذا المكان واقعيا أم فنيا خياليا، لأن السائح الحبيب استطاع أن يرتحل في عالم الكتابة على عهد أو عهود سياسية تنشد السلطة والقوة وتحلم بجنة وتجعل الناس يحملون معها بالفردوس المفقود. ومن ثم فقد شكل كل من الزعيم والأمير والسلطان والهو والأنا والآخر مفاتيح مهمة في الحقل الدلالي لهذا العمل السردي.
يتتبع هذا العمل السردي واقع المجتمع الجزائري خلال التسعينات من القرن الماضي، وهو يؤسس لخطاب إبداعي متميز مبني على أن ما وقع في الجزائر مترابط، فإذا كانت السبعينات شهدت نهاية نظام بكل مؤسساته، فإن جزائر هذه المرحلة تشهد نهاية الإنسان بكل آماله وطموحاته، وتكشف عن انهيار القيم وتبددها. إنها الفاجعة، وما أصعب أن تتحول الحقيقة إلى سراب، والواقع إلى وهم وخيال، والممنوع إلى مستباح، وغير المرغوب فيه إلى مبتغى وهدف وغاية، وتنقلب الأمور ويصبح العالي سافلا، والسافل عاليا.
2- الكتابة والأفق المغاربي:
تشهد الساحة الأدبية في بلدان المغرب دعوة إلى كتابة مغاربية تؤسس لخطاب بيني تلك الوحدة التي يراد لها التحقق في الواقع اليومي، فأنجزت الكثير من البحوث الأكاديمية حول تجربة الكتابة السردية في المغرب العربي، واختارت هذه البحوث لنفسها منهجية خاصة تقوم على اختيار نصوص متفرقة من بلدان المغرب الربي: ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، موريطانيا، وكأنها بذلك تريد أن توحد المتعدد. أما السائح الحبيب فقد استطاع بعمله هذا أن يجمع ما تفرق في تلك النصوص، فاشتمل نصه على بنيات سردية لغوية من الجزائر والمغرب وتونس.
لقد استطاع الناقد التونسي بوشوشة بن جمعة أن يرصد هذا الأفق من خلال مجموعة من الدراسات المختصة في تتبع الكتابة السردية المغاربية. وقد وقف عند خصائصها الجمالية حيث يقول: "إن رصدي للكتابة الروائية المغاربية منذ تشكلها وعبر مختلف ارتحالات أنماطها السردية أسئلة متن وأبنية خطاب ومستويات لغة. يسمح لي بالإقرار بتوفرها على العديد من العلامات الدالة على خصوصيتها، وذلك بمنأى عن كل نزعة تفاضلية بينها وبين نظيرتها المشرقية، بحكم اعتبار أنها تشكل رافد إغناء وتنويع للرواية العربية في المشرق، وإن كانت مثل هذه النزعة التفاضلية ممارسة ومكرسة من قبل المشارقة مبدعين ونقادا والذين يحصرون الرواية العربية في الرواية المصرية- باستثناء قلة منهم-". حوار مع الناقد بوشوشة بن جمعة، كمال الرياحي مجلة عمان: 09،ع: 94.
إن نص تماسخت يحقق هذا البعد الجمالي على مستوى لغة الوصف وعلى مستوى لغة الحوار، يقول نص تماسخت واصفا: "أمسكت يدها تقودها خلفك طفلة، وفي حوش استوقفتك تخلص أصابعها، مبهورة بالليل الملون، مسحورة بأنوار القناديل ذات التراصيع المشعة، حمرة في خضرة في صفرة، متقاطعة في الزوايا فوق رأسها، ممزوجة بدخان احتراق الجاوي وعود القماري، معروكة بعطر الياسمين، توهج النضارة، توشح السلام في وجوه رجال، صفوفا ثلاثة جلسوا فتراتبوا يتصدرهم صف الجوق بالعمائم التوتية والعبايات التبرية، وعن شمالهم نساء في أعينهن تفتق اللهفة، يجاوز استطلاعهن حدود حواشي المحارم الزاهية بانسياج الخصلات فوق حواجب شهشها المرود كما الجفون كحلا.." تماسخت:44.
هكذا يرسم هذا النص السردي خصوصية فنية من احتفالية مغاربية أنتجت لغة واصفة مميزة.
هذا وقد احتوى هذا النص على ثلاثة مستويات حوارية جزائرية ومغربية وتونسية.
يقول: "- خدمت في صفوف الطاغوت؟
- أسفل قدمي بلاطة.
- ماذا تشتغل عند الطاغوت؟
- أنا بطال.
- درست في وكر الكفر؟
- طردوني من الثانوية.
- ستصلك بطاقة الهوية الإسلامية. "تماسخت: 31.
إن هذا المقطع الحواري يعكس جانبا من محنة الجزائر المبنية على ثنائية الأنا والآخر، السلبي والإيجابي، الخير والشر، الحضور والإلغاء. ولا يختلف اثنان في أن هذه البنية اللغوية جزائرية حتى وإن جاءت بالفصحى.
وينتقل النص مستوى آخر من الحوار حيث يقول:
˃˃ - مرحبا.
- كيراك؟
- أعتذر.
- ما عليهش.
- جئتنا بلخير.
- أه، نويوة دافية.
- كيف الحال؟
- شوية شوية.
- شيئ فظيع ما يحدث عندكم..
- ديناميا الجنون.
- أعلى من الجنون.
- ما لا يرى أو يسمع عنه أشنع.
- قلوبنا معكم.
- ربي يحفظك.
- تكلمت مع الإخوة في الجمعية.. تشرب قهوة وبعد نروح للفندق.
- ولكن..
- لا تهتم.. الإخوة يتكلفون.
- الواصلي مسلم عليك.
- كيف حاله.
- كحالنا جميعا.. شبه سرية، خوف، تحايل على الموت المبرمج بخنجر أو محشوشة.
- المكاوي هنا.. جاء من مكناس.
- شيء جميل. لم نلتق منذ وجدة ونحن نقيم في مدينة واحدة.
- وجدة كانت بداية مجهضة.. المثقفون لا يملكون مجالا للتحرك إلا في حدود السياسي.
- كأنه قدر. الواصلي على الاتصال بك في حال خروجي.
- صديق. أنا وأنت لم نتعارف بما يكفي في وجدة
صحيح ولكني عرفتك من خلال كتابك الذي مرره لي الواصلي
وأنت في السجن
قرأته باهتمام.
- شكرا. خروج جذاذة.
- كذلك حدثني الواصلي.. وحالك الآن؟
- ليس أسوأ. وعدت بوظيفة في كتابة حقوق الإنسان ستكون ستكون أنت أولى حالة يحصل لي شرف التكفل بها.
- شكرا، يحصل لي أنا الشرف، ولكن أنت أولى بحالك مني.
- أمزح.
- مهما يكن، مؤسسات كثيرة، لكن ما أقل التفاتها إلى ما يعانيه إنساتنا في جسده وضميره وحقه.
- لأن تلك المؤسسات لا تستطيع التأثير في الرأي العالم ولا أن تشكل رقابة على أجهزة القمع ˂˂ تماسخت:71، 72.
قل ما نعثر على حوار مطول "ثلاث صفحات" مثل الذي سبق في هذا العمل السردي، لأن أغلب المقاطع الحوارية قصيرة خفيفة، وكأنها جاءت فقط لتكيف البنية الحكائية للنص لتكسر السرد أو تنتقل به إلى مستوى سردي جديد، يكشف عن خصوصية الحوار في الكتابة المغاربية على وجه العموم، وعند السائح الحبيب على وجه الخصوص، وهو حوار اشتغل عليه المبدع، أنتجه وولده، فهو يشبه لغة الشارع المتداولة يوميا بين الناس، ولكنه مختلف عنها، إنه شفاف نقي سلس. وهو متباين عن الحوار في الرواية المشرقية حيث يكون الحوار في الكثير من المدونات السردية مشابها للغة الحوار في الرواية المشرقية حيث يكون الحوار في الكثير من المجونات السردية مشابها للغة الحوار اليومي في الشارع، فكأن الروائي يأخذ من هذه اللغة ما يناسبه دون أن يشتغل عليه إلا بالدرجة التي تقربه من الواقعية واقعية الأحداث والمواقف. إن اختيار السائح نابع من تلك القدرة على التقاط ما هو مميز، فالحوار بدأ بسيطا عاديا ثم تحول إلى بنية تعتمد على إيجاد علاقات إسنادية جديدة يبدأ "مرحبا _ كيراك _ أعتذر _ ما عليش" ثم يتحول مع "شيء فظيع ما يحدث عندكم _ ديناميا _ أعلى من درجة الجنون - ما لا يرى أو يسمع عنه أشنع" وتحول الحوار مرة ثانية فارتبط بالمكان المكاوي هنا.. جاء من مكناس - شيء جميل لم نلتقي منذ وجدة.
ونحن نقيم في مدينة واحدة - وجدة كانت بداية مجهضة.. المثقفون لا يملكون مجالا للتحرك إلى في حدود السياسي "لقد أضفى المكان على الحوار خصوصية مميزة شغلت مركز الاهتمام والعناية: جاء من مكناس، وجدة، المدينة المكان التي شكلت حقلا دلاليا فيه الكثير من الرمز والإيحاء إلى علاقة المثقف بالسياسي وبالسلطة والجهاز والنظام.
نقتضي المنظومة الحوارية وجود طرفين أو أكثر لبيني حوار ويتأسس بالإضافة إلى عناصر أخرى كالموضوع أو الرسالة وعلم المتحاورين بحال الخطاب. وقد استجاب المقطع الحواري لهذه الخاصية الإبلاغية التواصلية، وقد بدأ الحوار بسيطا وابتدائيا معلنا بداية الاتصال بالتحية مرحبا كيراك وكأن المتحاورين لا يعلمان موضوع التحاور، وكان يمكن أن يبقى الحديث في هذا المستوى لا يتعدى الترحيب والتحية، لكنه تحول ليكون فيما بعد إخباريا مع قول أحد طرفي الحوار ردا على السؤال: كيف الحال؟_ شوية شوية.
وكان هذا الرد كافيا للإثارة والاستغراب فيتحول الحوار بعد ذلك إلى الصيغة الإنكارية مع قوله: شيء فضيع ما يحدث عندكم، وهذا الرد غير برئ ومواجه غير متقبل، ويطالب بما هو أكبر مما قيل وأكثر إقناعا وإرضاء للنفس وحب الفضول، لذلك يتطور الحوار ويصبح أكثر فعالية ومواجهة ليعلن معرفة بالأشياء وبما يحدث ويصدرها عليها حكما وقيمة: كحالنا جميعا، شبه سردية، خوف، على الموت المبرمج بخنجر أو محشوشة.
ثم ينتقل الحوار إلى مستوى آخر مع قوله: مهما يكن مؤسسات كثيرة، لكن ما أقل التفاتاتها إلى ما يعانيه إنسانيا في جسده وضميره وحقه. هكذا يعلن هذا المقطع بصراحة أن المصير مشترك، والهدف واحد وما يبقى إلا إعلان الموقف مما يحدث الانهيار الإنسان وقيمه. فعقب الطرف الآخر بقوله: لأن تلك المؤسسات لا تستطيع التأثير في الرأي العام ولا أن تشكل رقابة على أجهزة القمع.
- عندما تجاوزت ظاهرة القمع المؤسسات إلى الشارع وهي تتجاوز إلى أن تصير شبه مؤسسات موازية في الشكل جمعيات ذات جناحين مدني وشبه عسكري سري، في انتظار أن تحل محل القائم.
ما كان للحوار أن يصل إلى هذا المستوى الإشراقي من دون هذه البنية اللغوية التي اقتربت من المعاينة للواقع اليومي لانهيار النظام والمؤسسات والإنسان، وبذلك استطاع النص أن يتقبل هذه الشحن الدلالي.
لقد حصل هذا الحوار للبطل لما انتقل إلى المغرب، وعندما تحول إلى تونس استطاع النص أن يرصد لنا مستوى آخر من الحوار يشترك فيه الجزائري والتونسي من ذلك ما استقبل به كريم عند نزوله إلى مطار قرطاج:
˃˃ - أهلا. مرحبا بيك.
- كريز.
- كمال.
- يويق، عسلامة.
- صبحتو ... شكرا على الاستقبال.
- بسيطة واجب نخرج؟ أعطيني الحقيبة.
...
إن شاء الله تعجبك تونس.
...
-كيف خيلت الجزائر؟ حالكم تحزننا، مرحبا بيك في تونس بلدك الثاني... ربي يستر للي باق.˂˂ تماسخت: 174، 175.
هكذا يبدو جليا أن السائح الحبيب يشتغل على حواره ولا يخرجه إلا بحسب الصيغة المرغوب فيها والبنية التي يريد. إنه يمارس التجريب في كل جزء من النص، ونشعر أن الحوار حاصل بين المتحاورين، وفي الوقت ذاته هو تلفيقات المبدع.
لقد وشح السائح الحبيب حواراته ببعض الخصوصية اللهجية، فلما كان البطل في الجزائر استعمل خصوصية لهجية جزائرية ˃˃ - أنت كما، صاحبك.. هيا، الدوزيام. -في غرضك.. أطلقني. - تربحوا. - بعد يدك. - حاسب روحه حكومة.˂˂ تماسخت: 18. ولما رحل إلى المغرب نجد خصوصية لهجية مغربية ˃˃- أيوه دبة، آش هذا الشي للي كتعمل؟...
آش بيك... - آ مولاي.˂˂ تماسخت: 101، ولما انتقل إلى تونس فعل الأمر نفسه ˃˃ - نحبك تجي بحذاي ˂˂ تماسخت: 192.
إن السائح الحبيب بهذا العمل يؤسس لكتابة تجمع بين المتفرق والمتعدد فشخصية كريم في تماسخت عاشت في الجزائر ثم انتقلت إلى المغرب، ثم إلى تونس فالعودة إلى الجزائر.
وبذلك كان النص نصا للجزائر وعنها وفيها، وكذا عن المغرب وتونس، كتب، نص سردي اعتمد على الوصف ونقل الأحاسيس والمشاعر بلغة عربية فصيحة مشتركة بين البلدان الثلاث، وفي حواراته اعتمد على العامية واللهجة المحلية حتى يطبع العمل بخصوصية محلية تقربه من الواقع باختياره بنيات لغوية قصيرة جدا مكثفة تكثيفا فنيا ممارسا فعل التجريب. ولعل هذا ما جعل الناقد بوشوشة يستنتج قائلا عن الكتابة الروائية المغاربية: ˃˃ إن أسلوب التعامل مع اللغة يختلف على الرغم من تشابه الأجواء الروائية لهؤلاء الكتاب، فاللغة أكثر رصانة ومتانة عند المشارقة، بينما نجد الكتاب المغاربيين يمارسون نوعا من الصعلكة اللغوية مما يجعل كتاباتهم تحمل الكثير من الشراسة والاستفزاز اللغوية. فالأديب المغاربي له أسلوبه الخاص في التعامل مع اللغة واختيار الألفاظ وبنية الجملة.˂˂ مجلة عمان:9، ع:94.
إن نص تماسخت نص محنة وعذاب، نص يسائل الوطن والضمير، اتخذ لنفسه مستوى من الكتابة من قبل وقوع الحدث أثنائه وبعده، كتابة تبحث عن الذات المخربة والمتشظية ˃˃.. ولكن ما الذي بقي غير الكلام في هذا الخراب، ولو أن امتهانه الوظيفة صار من أشد ما يشقي الضمير ويوحل الموقف ويعفر الكرامة ويسبب الموت الرخيص ويثير المناحات والمآتم. لكني لست متأسفا على تفريطي في احتراف التجارة، وقد نصحني الوالد مرة واحدة: التاجر فاجر. المسكين أبي، عاش وليا من غير كرامات، وكانت أرضه شحت وحيلته كمت فقضى غما ˂˂ تامسخت 13.
أي واقع هذا الذي نحياه أو نحلم به وسط هذه المفارقة العظيمة تختلط الأشياء وتتداخل، ولا سبيل لخلاص الجزائري من منحته سوى هذا الخراب الجاثم فوق الأجسام والأرواح.
لقد انطلق العمل من رؤيا تحدد المصير المشترك للأقطار المغاربية في قالب فني، وهي رؤيا لم تأت اعتباطا أو عفوا، أو من باب الحشو الفني، بل تكاد تشكل مع العنوان والمتن نصوصا داخل نص. إن هذه الرؤيا تعتصر محنة الجزائر، والتي يمكن أن تصبح محنة كل بلد، تقول الرؤيا: ˃˃ وجدتني أسير مع شخص لا أعرفه داخل غابة لما وقفنا على بغل يحتضر، فطلبت إلى مرافقي أن يجهز عليه، فتردد قليلا ثم أخرج مسدسه، وإذا بالبغل ينهض برأس رجل مع معارفي يقول لي: أنت كريم بن محمد ابن عمي وتريد أن تقتلني بهذا الطاغوت الذي يحميك. أنا سأبيدكما يا طواغيت. وأخرج مدفعا، فهربنا فرمانا بقذيفة وقعت دون أن تنفجر وتدحرجت أمامنا، فانحرفنا ننزل شعبة حتى إذا كنا نصعد منها واجهنا البغل برأسه الآدمي منهكا وبيده محشوشة يصوبها لنا، ولكنه سرعان ما ارتعش وقال: أنا تعبت.
ومد لي السلاح فلم أمسكه فسقطت المحشوشة وتهاوى. التفت إلى مرافقي فلم أجده فصرخت فسمعت صياح ديك يشبه عويل الريح في تماسخت يوم عدت من رقان مرعبا بهول التفجير˂˂. وهكذا يسردها الراوي بكثير من الألم والحسرة والفجيعة، هكذا تمارس اللغة التجريب على نفسها كأنها تداعيات أو إسراف لغوي واقع في اللاوعي بما يشبه الحلم والرؤيا. تماسخت أسطورة في عالم القتل والاغتيال في جزائر المحنة، شخصياتها كائنات ورقية كأن لا وجود لها في الواقع. وتتحرك هذه الشخصيات في المكان والزمان وتتوالى الأحداث والوقائع، ويكبر الجرح والألم مع المسدس والمحشوشة والنفق والرحلة.
ويختم النص بجزئية بعنوان يقظة:
˃˃ كم أنا محبط يا وجه جميلة،
كم هي فادحة في قلبي الخيبة يا بسمة شهلة،
مقهى سعيدة وحده الغاص، ومسجد الغفران ينتظر أذانه الخير، وقد نامت الرباط بفرح ليلها على غربتي،
واقتاتت تونس من حزني وتشربت من وحدتي،
وإذا عدت لموتي فزعت وهران.
أمي لا تجد من الملأ من تتلو عليه من زمن رعبها ما تعسر من سفر الدم، وفي ذاكرتي صوت يزرعني بين رقان وتماسخت، نوح النشيج، دم النسيان. دم النسيان.˂˂ تماسخت 254.
إن نص تماسخت يقع بين رؤيا ويقظة فهو كالحلم، نص يحكي مصير إنسان ارتبط بمكان وعاش في زمن ووقعت له أحداث، ويبحث له عن هوية أو عنوان، ومن ثم ركزت الرؤيا على الشخصية والحدث، أما المكان والزمان فهما غير محددين، وارتبط الحدث بالاحتضار، الإجهاز، القتل، المدفع، المحشوشة، التفجير، البغل برأس رجل، وبهذا كانت الرؤيا حدثا وكانت يقظة إحباطا وخيبة أمل فادحة، وكانت يقظة في مكان هو: سعيدة، وهران، والرباط وتونس، وكل مكان من هذه الأمكنة اختص بصفة دون غيرها، فسعيدة بين المقهى أذان الصلاة والرباط التي نامت بفرح على غربة كريم، وتونس التي اقتاتت من حزنه وتشربت من وحدته، أما وهران فهي تفزع لموته. وهكذا يتسع أفق الكتابة وكبر ليصبح هو السؤال وهو الرد وهو الصدى.
إن نص تامسخت يبحث عن هوية، وهو في الوقت ذاته نص هوية وانتماء، ونص يشعرنا بالضياع والتشظي التشتت، وكأن الهوية أصبحت هويات والذات ذوات. وهو نص يتجاوز مرحلة النهجين والتلفيق، وهو نص يبحث عن الذات العاكسة للأحلام والآمال، لتتحاور الذوات أو تتصادم وتتصارع، وهو نص يبحث عن الهوية المرتبطة بالمكان، حيث خلص النص إلى أن الموت في الوطن أهون من العيش في مكان بلا كرامة، فساوى النص بين الهوية والمكان والكرامة.
إن نص تماسخت يأخذ بالمتغيرات الحضارية، ويعاين موقف الكاتب من تراثه العرفي، المكتوب والشفوي، وكأن النص يقدم قراءة لكل ما يمثل مرجعية فكرية وجمالية قاد إلى جزائر المحنة والجرح والمأساة. يقول النص: ".. من طفولة المطاردة والملاحقة خلال الحرب إلى شقاوة الفتوة إلى ركوب حصان ثورة الجماهير المجنح بحلم سرعان ما تحول تعاسة على الرقابة على الضمير إلى أدنى درجات العبودية حين يصير الحلم نفسه جريمة تعاقب بحز الرقبة. هل يبلغ الستين؟ لم يعد همه منذ أن أيقن أن ارتخاص الدم عبر تاريخه ثابت يخصب الحماقة، وعلى آخر درجة السلم نفسه قيد إضافي لإرذال الضمير: إيمان أو الحاد والأجر في الانتظار حديد، معدن رخيص وتربة من سبخة في أرض بلا نسغ، ووجود حول فيه الوحش ظل الله خنجرا يعانق محشوشة، فلا مفر إلا إلى صحراء، بلا لون، لا يزال الله فيها بلا غضب" تماسخت:89. وقد اعتمد في هذا النص على التحليق بالمعنى من خلال تلك المقدرة على الانزياح بالألفاظ عن دلالاتها الوضعية إلى سياقات تركيبية كقوله هاهنا: من طفولة الملاحقة، شقاوة ركوب حصان ثورة الجماهير- تحول تعاسة الرقابة على الضمير إلى أدنى درجات العبودية..الخ.
وتامسخت نص يقرأ التراث من خلال محطات تضمينية".. حتى إذا أعاد رنوه إلى الأرض ملأت عينيه الكنيسة ذات القبة اللجينية حارسة سفارة أحفاد الغولين. أحس المقدمات جميعها تغيب عنه فتقوض في لغته سر أسرار البلاغة وانطفأ عنه الكشاف. ليت يا طبري وصفت حجم حجارة الهجمية ترجمك بها الغوغاء! وليت الغم لم ينسك أن تعلن لحظة موتك تأريخا للحمق واللعنة، ولكن بالصبر الذي كتبت به تاريخ عورتهم حفرت به قبرك بالأظافر في بيتك المحاصر بالدهماء ونمت إلى الأبد". تامسخت: 190. هكذا يحدد النص موقفه من تراث مكتوب يحكي عن علاقة الدهماء بالخاصة، وهو الذي يسعى إلى تحديد هوية من بين مجموع هويات، وقد استعمل بنية تركيبية توحي أن أسرار البلاغة والكشاف مستعملين بدلالتهما المعجمية، لا على أنهما عنواني كتابين إلا بعد أن يذكر الطبري، وكأنه بذلك يسأل التراث عن دور المثقف في المجتمع المتخلف.
ويبدو أن المبدع بوقفته هذه قد تجاوز الزمن وقفز فوقه باستحضاره لهذه العينات من التراث: أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني والكشاف للزمخشري وذكر الطبري باسمه. ولكن لماذا اختار هذه النماذج دون غيرها، قد يكون لتلك العلاقة التي تربط بين كريم الصحافي، هذه الشمعة وسط الدجى التي تحترق لتضئ على الآخرين وهم غير منتبهين لذلك أو غير آبهين، وما يعيشه من أحداث وأهوال عاصفة بمصيره.
هكذا يستحضر المبدع التراث استحضارا فنيا وجماليا بطريقة تجعله يختار قارئه النموذجي الذي يجب أن يتوفر فيه قدر من المعرفة والعلم يقدر بواسطته أن يصل إلى جمالية هذا التوظيف، وكأن تماسخت هي قراءة أخرى محتملة للتراث انطلاقا من ترسبات الماضي وواقعية حديثة معاشة. فهي تستحضر أيضا المرجع شهرزاد- شهريار بما يحمله من دلالات، هذه العلاقة القهرية القائمة على فعل الاغتصاب ويظهر هذا المرجع في العمل كأنه إحدى الشخصيات أو أحد الأدوار الذي يساهم في بنائية الحدث "فشهرزاد أنستها لذة التمتع باغتصاب رجولة شهريار أن تصف تلك الجزيرة في آخر ليلة لها في ذلك القصر" تماسخت: 190. وهكذا تقلب الأمور بين الغالب والمغلوب، أو هكذا يمكن أن يقرأ التراث، أو هكذا تسند الأدوار إلى الشخصيات، فـشهرازاد المغلوب على أمرها في النص التراثي تنتصر هاهنا فهي الآمر الناهي بلذتها في التمتع باغتصاب رجولة شهريار.
إن الاقتراب من النص السائح الحبيب هو رحلة في عالم الكتابة التي تمارس التجريب لإنتاج نص جديد ينزاح باللغة عن المألوف والمعتاد، ولكن ما الخصوصية عند الكاتب إن نحن زعمنا أنه قد يشترك مع غيره في فعل التجريب؟ ولا ننكر هذا، إنما نرمي إلى درجة التفاوت بين المبدعين الذين يؤسسون لفلسفة التجريب في الكتابة السردية. إن السائح الحبيب من أولئك الذين وفقوا في اشتغال على النص عبر ممارسة التجريب، وهم حين يكتبون يرحلون إلى آفاق لم تدرك حيث تكون اللغة أداة طيعة مما يولد بنيات اسنمادية تقوم على الانزياح، ويصبح للشخصية دورا لم تعده من قبل، ويصبح للمكان قيمة جمالية تعتمد على الإيحاء والرمز والدلالة، ويتحول الزمن إلى مجموعة من الأزمنة المتداخلة والمتقاطعة زالمدمجة. وأما الحدث فهو انهيار الإنسان بعد انهيار القيم والمبادئ والمؤسسات التي من المفترض أن تحافظ على إنسانية الإنسان وعلى كلامته.