دلالة الزمن في رواية "الجازية والدراويش"

"وكما نفصل الأشياء في المكان فكذلك نثبتها ونجددها في الزمان" هنري برغسون (التطور المبدع، ترجمة جميل صليبا، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1981 ص149)
"وكما نفصل الأشياء في المكان فكذلك نثبتها ونجددها في الزمان" هنري برغسون (التطور المبدع، ترجمة جميل صليبا، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1981 ص149)
بقلم الدكتور: عبد الحميد بورايو
تقديم:
لابد أن ننبه منذ البداية إلى أن رواية عبد الحميد بن هدوقة تستند في تكوينها على تداخلات زمكانية، بحيث يتعذر الفصل بين هذين المفهومين الفكر بين الزمان والمكان، وإذا ما نظرنا إلى الرواية نظرة شاملة في كليتها، وهي النظرة الأعمق والأشمل التي يمكن من خلالها إدراك العالم الروائي، غير أننا في محاولة إعادة تفكيك مفاصل الرواية نجد أنفسنا مضطرين اضطرارا لهذا الفصل المتعسف بين المكان والزمان، لنتتبع طبيعة حضور الزمان كدلالة يسعى الكاتب إلى إبرازها من خلال رؤيتين للزمن هما: (1) الديمومة (2) المدة.
تتجسد ديمومة النص الروائي من خلال الكشف المتدرج لمجرى الأحداث وتطورها عبر رؤيتين داخليتين هما:رؤية الطيب بن الأخضر الجبايلي ورؤية عايد بن المهاجر، وقد تطلب ذلك من الكاتب المراوحة بين زمنين، زمن أول وزمن ثان، وقد تم تقسيم كل زمن إلى أربعة أقسام، فجاءت الرواية في ثمانية أقسام متتالية عبرت الديمومة من خلال ذلك عن شكل الوعي الفردي لشخصيتين روائيتين مبؤرتين، تساهمان في رواية الأحداث من وجهة نظرهما الخاصة.
إن عملية القص في اعتمادها على التعاقب، خاضعة في ذلك للضرورة اللغوية وللمنطق الزمني الفردي ذي الطبيعة الكمية التي تسمح بهيمنة الزمن الماضي الذي يبتلع كل لحظة راهنة بمجرد إدراك الأحاسيس والانفعالات المثارة فيها، زاوجت الرواية بين ضميري المتكلم والغائب، وهما صيغتان تعكسان درجة بعد زمن القص من زمن وقوع الأحداث، فالصيغة الأولى تعبر عن الاقتراب النسبي من الأحداث واعتماد الأسلوب المباشر في الخطاب، والإيهام بتطابق زمني القص والقصة، بينما تعبر الصيغة الثانية عن وجود مسافة بين الراوي والوقائع التي يحكي عنها تلجأ الرواية في استخدامها للصيغة الثانية للأسلوب غير المباشر في الخطاب هذا الأسلوب الذي يسمح بتدخل الراوي المتعالي المعلق على الأحداث والموجهة لعملية التبئير.
تتخذ عملية القص موقعين مختلفين، موقع يشغله الراوي الشاهد الذي يشارك في القصة باعتباره شخصية أساسية من شخوصها (الطيب – عايد)، وموقع يتخذه الراوي المتعالي الذي ينقل إلينا وقائع حدثت لا يشترك في صنعها، وكأنه شاهد من التاريخ تمنح هذه الظاهرة بعدين للرواية، أحدهما ذاتي، فردي، والثاني موضوعي، وكأن الكاتب يريد أن يسند الرواية المعاشة للأحداث برواية أخرى تمثل شهادة موضوعية (ذات بعد تاريخي) محايدة، يقوم بها راوي هو خارج الأحداث (راوي ضمني) تسهم هذه الظاهرة التقنية في استعمال الزمن في إبراز معنى الرواية الذي يقوم على المزاوجة بين الزمن الذاتي – الفردي ذي الطبيعة النفسية (الطيب، عايد، حجيلة، صفية، هادية الخ...) الذي يعكس حركة استقبال الحس لعناصر الأشياء، الخارجية ورد فعل الذات على ما يقع فيها وحولها، والزمن الخارجي الموضوعي ذي الطبيعة التاريخية المتعلق بصيرورة الوقائع كما يراها راو خارجي يرمي ذلك كله في حقيقة الأمر إلى محاصرة وإبراز ظاهرة"الوعي الوطني" باعتباره وعيا ذاتيا فرديا يحدده مسار التاريخ يمكن القول بأن الراوي الخارجي - المتعالي- يعبر في "الجازية والدراويش" عن إيديولوجية النخبة الوطنية الثورية الإصلاحية التي عاشت تحولات المجتمع الجزائري خلال الخمسينات والستينات والسبعينات (جيل الكتاب) تجدر الإشارة إلى أن الانتقالات الزمنية في الرواية، في مسارها التطوري، جاءت موازية للانتقالات المكانية حيث تحدث وقائع الزمن الأول في السجن بينما تقع حوادث الزمن الثاني في الدشرة.
أنتجت ديمومة النص في علاقتها بديمومة الوقائع المروية تمفصلا زمنيا يمكن بيانه في الجدول التالي:
1-زمن التاريخ النضالي المرتبط بأحداث الثورة، وبمراقبة واقع ما بعد الاستقلال بمنظور رجال الثورة، بالإضافة إلى الشخصيات التاريخية التي تستند عليها إيديولوجيا الثورة.
2-زمن التاريخ الانتهازي والاستغلالي والمرتبط بالظاهرة الكولونيالية وما أفرزته من عمالة.
3-الزمن المستقبل المرتبط بمشروع المثقف الثوري الإصلاحي.
4- الزمن المستقبل المرتبط بمشروع المثقف الثوري الجذري.
5- الزمن المستقبل المرتبط بالاستعمار الجديد (أمريكا) وأعوانه.
6-زمن الوقائع الحاضرة المرتبط بالتحولات الحاصلة على ارض الواقع.
7-الزمن النفسي المتعلق بالواقع الداخلي للشخصيات وبالمعاناة الفردية ذات الطبيعة العاطفية.
المدة:
نقصد بها علمية الإدراك ذات الطبيعة الشمولية، حيث يختفي التعاقب ليحل محله الاختلاف والتداخل والتشابك بين الأحاسيس، والإدراك الكلي للظاهرة ومعالجتها دفعة واحدة، واختفاء الفواصل والتمفصلات. تفقد اللحظة الزمنية حينئذ حجمها الكمي - المتبدي في الديمومة- ولا يبقى منها سوى نوعها إن مثل هذه الزمنية تتبدى من خلال مواقف تطغى عليها الروح الجمعية وتتجه نحو المطلق والتحرر من قيد الزمان التاريخي، تتجسد في مواقف الدراويش والأحمر والجازية إنه زمن ميافيزيقي يكون إما إيمانا مطلقا بالماضي أو ينبع من إيمان مطلق بالعلم والمستقبل، وتمثله في الرواية شخصيات تحيط بها هالة أسطورية مثل الجازية وأبيها الشهيد والأولياء السبعة أو تمارس هي نفسها طقوس الأسطورة مثل الدراويش والأحمر تمثل النصوص ذات الطبيعة الشعرية المعتمدة أساسا على الاستعارات والاستيهامات خصيصة من خصائصه التعبيرية إن مثل هذه النصوص المجسدة للمدة الزمنية أو بالأحرى "المدى الزمني اللامحدود" تنبع من رؤية لا ترى في الشيء مركباته بقدر ما ترى فيه الشيء نفسه..
وهي من ثمة أقدر على مداخلة الأشياء والنفاذ إلى ما تنطوي عليه من أسرار ودقائق ثم انها بتحويلها للمتعاقبات (...) إلى متزامنات تنمي حضور الذات في نفسها فتتيح لها إمكانية الاستغلال الجيد لطاقتها الشخصية واستعمالها لفهم أعمق وأشمل للواقع"(1).
تتوسل رواية الجازية والدراويش للوصول إلى هذه التزامنية عن طريق صياغات أسلوبية ذات زمنية أسطورية تنزع عن الأشياء صبغتها التاريخية لتشكل منها موجودات طبيعية بدون تاريخ، تختزل بعدها البشري وتهدم دلالتها السياسية المباشرة، تمنح الأشياء وجودا حيا بسيطا وشفافا، تهبها صك البراءة وصفة الجوهر، تنزهها – ظاهريا عل الأقل – عن التناقض والجدل، تجردها من تعقيداتها لكي تجعلها من بديهيات اليقين وتخلق حولها إجماعا، لكونها صادرة عن سلطة عليها خولها المجتمع أن تتحدث باسمه وتحمل قيمة.
"الجازية أتدري أي شيء هي الجازية بالنسبة للدشرة؟ هي الحلم الذي يبيت كل ليلة في فراش كل راع وكل فلاح وكل درويش! هي العروق الماضية، هي الثمار التي ستولد! هي حمامة حائمة فوق رأس جبل، من يستطيع قبضها؟". (انظر الرواية ص 172).
"لكن مأساتي أنني لن أتزوج زوجا حلالا في وقت منظور...جاءت إلى البيت، وأنا صغيرة امرأة غريبة الأطوار، تقرأ اليد. أنبأتني أنني أكل عشبة، تنبت في جبلنا، لا يعرفها أحد، تبقيني صغيرة حتى اليوم الذي أتزوج فيه زواجا حلالا، وأن أزواجي الأولين لن يكونوا شرعيين، سيكونون أزواجا حراما. وأن كل واحد منهم يلاقي حتفه عندما يظن أن الحياة استوت له...ثم يمر زمان لا شمس فيه، يشبه الليل وليس ليلا، أعيش أزماته واحدة، واحدة ثم أتزوج بعدما يموت كل أبنائي المولودين من زيجات الحرام، أتزوج زواجا يشهده كل دراويش الدنيا" (الرواية ص 76-77).
"نعم، ما وراء الطبيعة، حيث ينعدم الزمن وتبقى الأحداث قارة مجسمة بأربعة أبعاد، مشاهدها لا تفوت الرائي، يستعيدها إذا شاءت ألف مرة..." (ص 131).
- عبد الصمد زايد: مفهوم الزمن ودلالته في الرواية العربية المعاصرة، الدار العربية للكتاب، تونس 1988، ص 17.