جدلية التاريخ المعيش والذاكرة التاريخية عند الطاهر وطار

الدكتور إبراهيم عباس
تبدأ الإشكالية في أعمال وطار كالتالي بالنسبة للمعاش والذي ينطلق به من الواقع اليومي بتلك الطبقة الكادحة والمتمثلة في الطبقة العمالية والبورجوازية الصغيرة، هذا الواقع الذي يجسد خيبتها الكبرى في ذلك الحلم الرائع الذي عاشت به ومن اجله أيام الثورة، ليصدمها الواقع بفضاعة تلك الخيبة (( إيه ايه يرمك الله يالسبع، سيد الرجال عشر رصاصات ومات واقف يوم حضر أجله . كان المرحوم يهجم ويعيط، زغردي أمي حليمة زغردي )) (1) وتركز هذه الأعمال على الطبقة الكادحة في المراحل الأولى من الاستقلال وما تلي تلك المرحلة من إنجازات ضخمة، ودور هذه الطبقة إبان الثورة ونصيبها من الاستقلال كما يصفهم الشيخ الربيعي (( إنهم كعادتهم كلما تجمعوا في الصف الأول الطويل أمام مكتب المنح، لا يتحدثون إلا عن شهدائهم، والحق أنه ليست هناك، غير هذه الفرصة لتذكرهم والترحم على أرواحهم، والتغني بمفاخرهم ... فهم ككل، ماضي يسيرون إلى التخلف، ونحن ككل، حاضر نسير إلى الأمام ... ولعل هذا اليأس المطبق من التقاء الزمانين ما يجعلنا لا نهتم إلا بأنفسنا، أنانيين نرض أن يتحول شهداؤنا الأعزاء إلى مجرد بطاقات في جيوبنا، نستظهرها أمام مكتب المنح ..)) (2). هكذا تبتدئ صور الحسرة في جعل هؤلاء تابعين وهي التبعية التي تعودوا على قبولها أيام الثورة (( إننا كما عرفنا أنفسنا ، منذ خلقنا ن الشيشان على رؤوسنا تكاد تمطر وسخا، البرانس مهلهلة، رثة متداعية، الأحذية مجرد قطع من الجلد أو المطاط تشدها أسلاك صدئة والأوجة زرقاء جافة.. ليس لنا من الماضي إلا المآسي.. وليس من الحاضر الانتظار، وليس لنا من المستقبل إلا الموت... نتآكل كالجراثيم وليس غير )) (3)، هذه العبارات والأنات الحزينة مرجعها ذلك الحزن العميق من أعماق الذات المتألمة من جراء خيبة الأمل ، ما هكذا كان يرجى من الاستقلال (( فقر وحزن يصوغان ذاكرة تجول الازمنة كلها ولا تلتقي بيد تقذف بالقميص الرث إلى النار ))(4).
لكن في خضم هذا الحزن ومرارة هذه الخيبة ينبعث صوت من الأعماق، صوت يهز الكيان المتآكل من الداخل (( صوت هادر، يحتضر صوت الحقيقة التي لا ترى ولا تسمع صوت اللاز الذي مسه شيء من الجنون )) (5) هذا الصوت الذي أراد له الكاتب أن يكون الصوت المعبر عن الضمير الجمعي عن الشعب الذي ناضل أيام الثورة وقدم كل ما يملك من أجل أن يرى النور يوما ما، ويرفع عن كاهله ثقل الاستبداد والتسلط، (( ما يبقى في الوادي غير حجارو )) (6). يهز هذا الصوت الهادر أركان القاعة ومعها الخيوط المتشابكة الأفكار " الربعي " ويفتح الباب على مصراعيه ليلج الكروان إلى مصدر هذه الحقيقة المبثوثة أمام العيون في القاعة المتواصلة بهذه الجثث المنهكة القوى، وكأننا بالأديب يقدم لنا شاهدا على خيبة الأمل ليعبر من خلالها إلى حقيقة ومرارة الخيبة، بتشريحه لحجم التضحيات المقدمة أثناء الثورة، وذلك من خلال اتكائه على الذاكرة الشعبية لتقول قولها، فإن هذا القول يخضع إلى منطق قائله، فهو يضيف إلى الواقع عناصر ليست منها، يذهب إلى المبالغة والإغراب، ليستعيد الوقائع منفعلا، ويخلق صورة جديدة لها، ترضى ذاكرة يجهدها الحرمان وتعوزها قواعد المنطق السليم (7)، الشيء الذي حول هذه الأعمال الإبداعية من شكلها ووظيفتها الجمالية إلى خطابات إيديولوجية موجهة ( مؤطرة ) وينسحب على أعمال وطار بل على أعمال المطوي لعروسي، وعبد لله العروي، وهذا الإنصياغ الإداري، بل عن وعي سابق. وهذا ما نستنتجه من قراءتنا لمضامين هذه النصوص.
يتبدي الواقع الجزائري قبيل الاستقلال وبعده مباشرة ( اللاز الجزء الأول والثاني ) في مرآة هذه النصوص معقدا علاقة مشتركة، مراوغة متأبية على تسليم نفسها إلى عبر جهد تشكيلي، " أنه التجريب الطامح إلى محاصرة الأمية الجمالية، والارتفاع بذوق المتلقي "، ولعل ما يؤكد هذا الكلام، هو ما أحاط هذه النصوص من التفاسير والتأويلات التي حاولت الوقوف على جوهرها، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى حد التناقض، ومرد ذلك ليس التجديد في الشكل الروائي فقط، بل هو تلك المضامين الشائكة التي هزت حقيقة الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، وما كان يعج به هذا الواقع من تراكمات يعود أصلها إلى أعماق الثورة التحريرية. وعلى الرغم من لجوء هذه النصوص غلى تقنيات واستراتيجيات بنائية تغرف من معين واحد هو الذاكرة الاجتماعية إلا أن كل من تلك التفاصيل هويته التاريخية الواضحة وتمايزه الاجتماعي، ففي النص الأول ( اللاز) نلمس كيف استطاع الكاتب أن يعبر عن موقفه من الواقع المعيش - الذي هو نتاج تلك التجاوزات والمتناقضات التي عاشتها مراحل الثورة - وذلك من خلال أبطاله الذين تسبح شخوصهم في رحم المجتمع بكل تناقضاته . فاللاز من ذلك الطراز الروائي الذي يتداخل فيه الأدب بالتاريخ إلى حد الاندماج بوعي فنان عارف بماهية الموضوع ومتعمق لأغواره وموضوعيا وفنيا، فروايته في جزئيها كتابة لفترة تاريخية من وجهة نظر وعي المبدع، بكل خفايا ذلك التاريخ المفتوح، فهي تحكي عن النضال الوطني ضد الاستعمار الدخيل، ويتخلل هذا الحكي تعامل الثورة مع الحزب الشيوعي، وهي بذلك ترفع الستار عن تصادم إيديولوجي بي فئتين بارزتين من خلال أحداث الرواية، التي تبدأ من لحظة استيقاظ الوعي الحاضر لتغوص بنا في أعماق ذلك الصراع الدائر في واقعه بين مستعمر دخيل يناضل من أجل استرداد حقوقه المغتصبة لكنه في داخله يكشف عن عدم تجانس الرؤية ولا الموقف من هذا الدخيل، وبالتالي من التركيبة الثورية نفسها، يكشف عن ذلك وعي الأديب كما سبق القول من خلال الحاضر الذي هو حاصل عدم التجانس والوافق الذي ساد الثورة. يتجلى ذلك من هذا المقطع الذي تبدأ به الرواية سرد أحداثها: (( منذ خلقنا، الشيشان على رؤوسنا تكاد تقطر وسخا، البرانيس مهلهلة، رثة متداعية... والأوجه زرقاء جافة لنا من الماضي إلا المآسي، وليس لنا من الحاضر إلا الانتظار، وليس لنا من المستقبل إلا الموت، نتآكل كل الجراثيم وليس غير )) (8). هكذا تبدأ الرواية بلحظة وعي الحاضر الذي يعتصره الماضي، وينفس الحس تنتهي عندما يوقض الشيخ الربيعي من غفلته (( هات بطاقتك يا عمي الربيعي )) (9) هذه الصيحة التي اعتاد عليها أولئك الذين قدموا كل ما لديهم لاستعادة الشرف المسلوب، ولم يحصلوا مقابل ذلك إلا على تلك البطاقات التي: (( تلسع الأيادي المعروقة، والعيون تدمن رؤية الوجوه القدرة التي تسللت إلى السلطة احتفظت بجوهرها الأول، الفقراء الذين قاتلوا في الجبال يستأنفوا فقرهم الأول )) (10).
تبدأ الرواية بالاستناد إلى وعي تاريخي مكث يستجلي الحاضر من رحم الماضي، دون أن ينفصل عنه، ورغم اختلاف الواقع، وتشابكه، إلا أن الماضي يسكن أعماق هذا الحاضر ويشكله: (( فإذا كان الوعي التاريخي الزائف ينفصل الماضي عن الحاضر وينغلق في زمن وهمي، فإن " اللاز " في وعيها الكثيف تشد الماضي إلى الحاضر، لتجعل من هذا الحاضر المرئي والمتحرك مقياس للأزمنة كلها، فهي تكشف صفحات الاستبداد وتنفذ إلى زمن القمع الجوهري الذي يضل ثابتا حتى وإن تشكل في نماذج شتى )) (11).
فالأديب بهذه النصوص ينمدج السلطة التي تتوسم القمع نظرية وممارسة وترفعه إلى مستوى الوعي الفلسفي (( الموت في الثورة حل صالح لجميع المشاكل ، يموت الخائن ، ويموت المسبل ، يموت الاثنان ميتة واحدة ، وعلى يد وحدة ... يموت الأول لتستريح منه الثورة ، لكن الثاني لماذا يموت؟ ألتستريح منه الثورة أيضا؟ ياللقساوة... إذن قد يكون الكثير من الذين ماتوا على يد الثورة غير خونة )) (12). هكذا يسعى الأديب إلى قول لا التباس فيه، يوزع على مقولات ثلاث: السلطة، الحرية ، الاستبداد، ويصوغ من هذه العناصر خطابا إيديولوجيا، تبدو المسافة بين الراوي وبطله " زيدان " محدودة لكنها في تواصل ضمني يجسد حقيقة البعد الإيديولوجي للأديب، والمغزى من النص المبدع أساسا على اختلاف ما ذهب غليه د/ فيصل دراج (13). لأن الوعي الإيديولوجي الذي تكشف عنه شخصية الشيوعي " زيدان " وشخصية داعي الدين " الشيخ سي مسعود " يكشف منذ البداية في شكل الخطاب الإيديولوجي للنص عن النزعة التصادمية بين هاتين الكتلتين، فإذا كانت الكتلة الأولى إيديولوجيا تتخندق في الوسط الشعبي، فإن الكتلة الثانية تفضل المواجهة في الشكل السلطوي المستبد، ويفصح النص عن تصادم التوجهات الإيديولوجية لشخوص هذه الرواية، والشخوص هنا ليست أحادية البعد، بل هي مركزية تحمل أبعاد جماعية، فالتصادم يقع بين السلطة الثورية المستبدة - كما تشكلها الرواية - وهي في حد ذاتها ليست سليمة التركيبة، ففي الوقت الذي تخوض فيه المعركة مع " زيدان " ( النموذج ) تحمل في أحشائها تناقضات شتى: الدينية، الوطنية، الثورية ...إلخ، وبين من تقدمهم الرواية كمنقذ للثورة والشعب ( الحزب الشيوعي ) الذي يمثل المعبر الحقيقي والمثالي الصارم لكل دول العالم الثالث التي تبحث عن الاستقلال: (( في الحياة نوعان من الناس ك نوع يعرق مثلك ومثل كل العمال العاطلين، ونوع يستفيد من هذا العرق، وما لم يتحطم النوع الثاني ، فإن عرق الإنسانية بظل يسير هدرا، ومصلحة كل نوع يتعارض مع مصلحة النوع الآخر ولهذا فهما عدوان لدودان )) (14).
هكذا يكشف الوعي الإيديولوجي عن هويته في شخصية زيدان الشيوعي (( آلامنا لن تمحى بسرعة... حتى المحيطات لن تغسل قلوبنا، حتى السماوات أن تحوي نفسنا... إذا ما استقامت انطلاقتنا هذه فسنكون عمالقة العمالقة، كالسوفياتيين، كالصينيين... سنبقى وحدنا لأننا الكثرة، وسنعمل حتى النهاية على محو آلامنا، ولن تمحوها أبدا، لن يكفينا برلمان، ولن تكفينا جمهورية، ولن تكفينا الاشتراكية، حتى الشيوعية ستكون قليلة علينا )) (15). وفي الوقت نفسه يفسر حدود الوعي الأديب (( وعيه التاريخي الذي يتحرك في حقل معين من الصراع والنضال، وهو بهذا يشير من خلال وعيه الروائي إلى حدود وعيه العام، والوعي الروائي هنا، لا يفارق الوعي العام، ولا ينعزل عنه أبدا بل إنه قائم فيه، أو لنقل إن هذا الوعي يتجدد عندما يعالج موضوعا بأدوات معينة فالكاتب لا ينتج الواقع روائيا أ انطلاقا من وعي مستقل متعالي اسمه الوعي الروائي، بل ينطلق من وعيه العام )) (16) والذي يحدد موقفه من نصه وبالتالي من الواقع المصور في الرواية وفق موقف ورؤية محددين إيديولوجيا
(( يقصد وعي الكاتب مكتبة التاريخ الحديث، يأخذ ببعض الوثائق، يسترجعها في وعيه ويستولد منها شخصية زيدان، مثقف تحمله الأحلام والتزام أخلاقيا يرقى إلى مقام الأمثولة ))(17) وهو بذلك نموذج واضح لمثقف البورجوازية الصغيرة (( الثورة تحول الإنسان، وما دامت عميقة فإن التحول يحدث بسرعة ))(18).
لكن كل شيء حقيقي ولامع ومؤثر إلا في البعد، البعد، البعد هكذا كالحلم، كالنجوم، حتى الحزن الحقيقي اللامع المؤثر لا تسلمه الأيدي القصيرة)) (19).
يضعه بفكره وأحلامه وطموحاته أمام وعي آخر يناقضه إلى درجة المواجهة " شخصية الشيخ سي مسعود " داعي الدين ورمز السلطة الثورية في الرواية، شخصيتان تقعان في الواجهة الأيديولوجية تعلنان الثورة منذ البداية (( لو لم يزاحمني في انتخابات: 1947 على أية حال هذه أمور قديمة لا يمكن أن تتدخل الآن في شؤون الثورة ...))(20). في شكل تصادمي تسبق في كل منهما الهوية الإيديولوجية الفعل اليومي (( أتخذ القرار في شأنكم، بالنسبة لزيدان لا بد من تبرؤه من العقيدة وانسلاخه من الحزب وإعلان انضمامه إلى الجبهة ، وبالنسبة إليكم أنتم، التبرؤ أيضا والدخول في الإسلام )) (21) (( وإذا لم تتم الاستجابة للطلبات فهل هناك حل آخر )) (22) (( آه نعم الذبح )) (23) هكذا رد الشيخ.
هذا من الجانب الموقف ورد فعل الموقف، ومن جانب آخر يأبى الأديب المبدع إلا أن يجعل هذا التصادم الإيديولوجي يقع بين مثقفين على غرار الأدباء المغاربة، مثقفان متغايران: تقليدي وحديث، ويأبى الأديب إلا أن يقف إلى جانب المثقف الحديث، ينبني النص على هذه الشاكلة التصادمية، فيضعنا أمام موقف تصادمي مع المستعمر الدخيل وما حمله من وسائل تدميرية للتركيبة البشرية للمجتمع الجزائري نفسيا واجتماعيا وأخيرا اقتصاديا من جهة، ومن جهة أخرى الكتلة الثورية ( المجاهدون ) القائمة على مناهضة الاستعمار بكل أشكاله التدميرية، إلا أن هذه الكتلة تشكلت من عناصر غير متجانسة، بل المتنافرة إيديولوجيا، الشيء الذي دفعها إلى التصادم صراع تنافري تدميري بين عناصرها
من جهة نجد ألئك الذين يعيشون حالة انفصام ، فهم يقاومون الاستعمار في الظاهر ، ويعيشون في عالمه البورجوازي، مضمونيا فهؤلاء البورجوازين، أو ذوي الفكر البورجوازي (( الذين يعتبرون التاريخ مفرغ من الصراع تحركه قوى مجهولة، وهم يعملون في ظل شعور بالاستيلاب والخوف، وأحيانا في ظل رعب صوفي، والحركة التاريخية لديهم، هي حركة قوى غريبة معادية للناس، وعملية محتومة يعجزون عن التأثير فيها )) (24)، يحرك هذا الوعي أعضاء المجموعة الأولى: الشيخ، وقائد الفرقة الثانية كما يقدمهم النص، يقول الشيخ " سي مسعود " محاولا وضع حد نهائي لذلك الهاجس الذي ضل يزعجه، ويقلقه كثيرا، هاجس الشيوعيون (( كلكم شيوعيون، كلكم على سواء، وقد جئتم إلى ثورتنا لتخربوها )) (24)، يريد أن يضع حدا نهائيا لتواجد هذه الإيديولوجية الدخيلة على الثورة، وذلك باقتلاع جذورها من الأساس، إما بالتراجع عن هذا الانتماء الأيديولوجي وإعلان التوبة (( تكتبون بيانا تدينون فيه مواقف أحزابكم ، نتولى إرساله إلى الصحافة العالمية )) (26) وإلا فإنها التصفية الجسدية التي ستريح لشيخ ومن معه، وتفسح المجال لقيادة الثورة، ويصفى له الجو بعد الاستقلال ولا يشاركه أحد. تقف الكتلة الثانية من هذا التصادم موقفا مغايرا تماما، فالتقدميون الشيوعيون يتعاملون مع الواقع كحركة لا ككتلة من الغيبيات فهم يؤمنون أن العالم محكوم بقوانين تاريخية محددة، وأنها قوانين يمكن للإنسان أن يتوصل لها وأكثر من هذا يستطيع أن يؤثر في مجرى التاريخ لصالحه، وهذا طبعا أكسب الطبقات المسحوقة اجتماعيا حاسة تفاؤل تاريخي )) (27) (( هذا الوليد، آه يا لجزائر، هذا الوليد لايزال في المهد، بل لا يزال جنينا، نطفة في أحشاء التاريخ، يكتمل نموه، ويولد ويرضع، ويحبو، ويسقط مرات ومرات، ثم ينهض على قدميه، يمشي على الجدران، يقف معتدلا، يسقط وينهض ن ويجرح من جبهته، ويسيل الدم من أنفه، وتتورم شفتاه، حتى تشتد عضلاته...إذ يثب ويجري، وسيظل طيلة سنوات طفلا صغيرا، سيظل بلا منطق زمنا طويلا... من يدري أي عذاب يلحقه أثناء مرحلة المراهقة، آه هذه المرحلة يجب أن نكون نحن )) (28). ولهذا السبب فقط كان عليهم تغيير مجرى الأحداث وتغيير الواقع حتى يتسنى لهم الحفاظ على هذا الجنين، حتى ينمو ويكبر ويجتاز مرحلة المراهقة بسلام، ولكي يتسنى له ذلك لا بد من إعادة تصميم الواقع وإحداث انقلاب جذري في صفوفهم، واتخذ موقف واضح من خصومهم، وعلى هذا الأساس تم اللقاء بين اللاز ووالده " زيدان " لتستقيم حياته الشاذة أي بالمقابل ستستقيم المسيرة الثورية، وبعد هذا اللقاء الذي عرف فيه حقيقته، وعرفت الثورة مجراها الحقيقي كان لا بد أن يتغير الواقع (( يجب أن تغير الحياة ياللاز يابني، عليك الآن أن تعمل على خط واضح، ومن أجل هدف واضح... سأتركك بعد قليل لألتحق بالجبل، سلم على أمك، واتصل بعمك " حمو " لتعمل معه.. اعرف كيف تتصل، كلمة السر ليثق بك هي هذه (( مايبقى فالواد غير حجاره )) (29). هكذا يتحول اللاز من ذلك السكير العربيد اللقيط إلى ثوري ومجاهد فاعل في الثورة، فيشترك في عمليات فدائية جزئية يبلو فيها بلاء حسنا، حتى يشهد في نهاية المطاف مقتل والده زيدان على يد الشيخ سي مسعود وتحت ضغط رغبة التغيير الجذري يتحول قدور ممثل البورجوازية الصغيرة من حياته الآمنة الوادعة إلى الانخراط في صفوف المجاهدين بعد مشاهدته اللاز وهو يعذب في طرقات القرية بعد أن تم اكتشاف سر انخراطه في سلك المجاهدين، اللاز الذي رفض الوشاية برفاقه بل وهو في حالة ذلك، استطاع أن يحذرهم مما ينتظرهم (( كان الموكب قد اقترب من المتجر، جنديان يجران اللاز من ذراعيه، وثمانية يستحثونه السير باللكمات، والضرب بمؤخرة البنادق، بينما الدماء تتطاير من أنفه ووجنتيه و جبهته وشفتيه، وهو يترنح تارة ويقاوم أخرى، صابا سيلا من الألفاظ الدعرة شاتما لاعنا الرب وعباده...المنظر عاد بالنسبة لجميع المشاهدين عدا قدور الذي ظل لحظة يراقب كل حركات اللاز، ويقلد كل كلمة يتفوه بها، إلى أن بلغ الموكب باب متجره... بذل اللاز آخر جهده، حتى تمكن من التوقف، ثم نظر إليه، وبصق في وجهه مزمجرا:
- راقكم المنظر، يا خنازير حانت ساعتكم كلكم )) (30).
كان لهذه الجملة الأخيرة مفعولها في نفس قدور الذي فهم الرسالة فورا وسارع إلى تطبيقها، تاركا وراءه ملذاته وأمواله، وتحول إلى مجاهد يطلب التضحية من أجل الوطن (( أريد أن ألتحق بالجبل معكم، أريد أن أكون جنديا ... ببندقيتي أقتل العسكر وأقوم بعمليات وأدافع عن نفسي، لقد انتهى كل أمل في القرية، ويجب ألا أعود إليها (31). لم يكن الأمر سهلا بالنسبة إليه، لكن البطولة التي أبداها اللاز استنهضت في نفسه جزائريته وأعادت إلى ذهنه آراء وأحلام " حمو " ذلك الفقير المعدم الذي (( يعول عشرة أفواه مقابل أربعين دورو ))، والذي فضل التضحية بكل شيء مقابل الثورة ضد الاستعمار والإقطاعية والأغنياء، يستعيد دوره في هذه اللحظات ذلك الجهد الذي يبذله صديقه حمو من أجل إفهامه وإقناعه بما أقنعه به أخوه زيدان (( ويبذل حمو كل ما يملك من جهد فكري لإقناع قدور بما أقنعه به أخوه زيدان، ويستعرض كل أفكاره، الصح والحق، وهذه البلاد ليس فيها حق، لكن سيأتي يوم، ولا يبقى في الواد غير الحجارة، إلا الصح إلا الحق. يخرج الفرنسيون يفقر الأغنياء ويتعدمون، ينام جميع الناس على الشبع، نقرأ كلنا، نتعلم العربية، بما فيها الإنقليزية والألمانية والروسية، يصبح الحاكم من عندنا، الشامبيط، والخوجة والقايد والشرطي منا، نصير فاهمين، نظيفين، جميلين محترمين كالفرنسيس ))(32).
ومن أجل أن يتغير الواقع لا بد أن يتغير أيضا بعطوش الذي يخون وطنه، وكل الأعراض والقيم، قتل وفسق بأر القبطان، جامع خالته، وقبلها قتل مريم أم اللاز، لكن من أتجل أن يوضع حدا لـــ(( ريمون شيخ البلدية، وجان جون، وموريس في ضيعتهما وخمارتهما، والحاج الطاهر وكل الحجاج في قصورهم )) (33) لا بد أن يتغر بطوش ويلتحم باللاز وقدور وزيدان وحمو... وغيرهم لأن (( يابن عمي الضيم يهيج كل الناس )) (34).
هكذا انبنت الرواية عند وطار على التصادمية الإيديولوجية بين ثنائية كبرى: الاستعمار الغاشم ضد الوطنيين المستعمرين، وثنائية صغرى داخلية ضمنية البورجوازية الوطنية في مقابل التقدمية الشيوعية، هذه الثنائية جاءت بمثابة العمود الفقري لأحداث الرواية بقسميها أيام الثورة، وبعد الاستقلال (1*) الصراع بين البورجوازية بشقيها الاستعماري الوطني على حدة والطبقة العالة الكادحة بكل شقاوتها وعدميتها من جهة ثانية، ولعل هذا ما جعل النص يتحول إلى صقل صراع طبقي أيديولوجي أكثر من صراع بين شعب محتل ضد الاستعمار الغاشم، لما مارسته من قمع جماعي ضد الثوار لاختلافها معهم أيديولوجيا (( إننا نتعارف منذ سنة: 1954 ورغم اختلاف وجهة نظر حزبينا في كثير من الأمور، ولم تكن بيننا سوى المودة... فكيف نختلف اليوم بهذه الصفة بعد أن جمعت بيننا مثل هذه الظروف؟ تعرف بأنني أكذب عنك وعن الجميع إذا أعلنت ما طلب مني، فكيف يعقل أن أضطر للكذب... بينما راح زيدان يواصل كلامه في كل هدوء مفتعل.. لعله كان يرجع بذاكرته إلى انتخابات 1947 ولعله كان يفكر في مسالة الخلافات التي حدثت وأدت إلى الاصطدامات المسلحة بين المجاهدين.. ولعله كان يفكر في غير ذلك.. إلا أنه في الأخير نهض وطلب سي مسعود، مسؤول المنطقة الخامسة ومساعديه، وبد اتشارات خفيفة عاد بهم...)) (35). هكذا يتداخل الكفاح مع الصراع الأيديولوجي (( الشيء الذي جعل من السهل جدا تسلل الكثير من ذوي النزعات الاستعمارية وذوي الأحلام البورجوازية الكوميرادورية يلتحق بهذا الحزب أو ذاك لا بغية في تحرير الشعب من نير الاستعمار -فقط- ولكن من أجل الحفاظ على المصالح الاقتصادية التي كونت وستتكون مستقبلا.. حتى وإن كان هذا لا ينفي النزوع الوطني لهذه البورجوازية ))(36).
ولعل ما يؤكد ليتمان في تحديده للسماة التقدمية التي تتصف بها البورجوازية، وكذلك جوانبها الرجعية الملازمة لها والمنبثقة عن جوهرها الاستقلالي، تظل محتفظة بقوتها وأهميتها، لا في فترة النضال من أجل التحرر الوطني فحسب، بل وبعد أن ترفرف أعلام الاستقلال السياسي في سماء البلدان التي استولت البورجوازية الوطنية على الحكم (2*) وأصبحت هي المسيطرة )) (37). تلك هي الصورة التي قدمتها رواية اللاز الأولى والثانية وكذلك الزلزال عن الشيخ " النموذج " من خلال طرح الدين كشكل إيديولوجي للتدجين الجماهيري، حيث أصبحت هذه الكتلة الأيديولوجية - ودفاعا عن مصالحها ضد الكتلة التقدمية الشيوعية - تستغل كل شيء للوصول إلى غايتها المنشودة، حتى وإن كان الأمر يتعلق بمعتقد الشعب وأصبح الدين في يدها كشكل من أشكال رد الفعل القومي على الاستعباد الجماهير ولهذا فإن إمكانية استغلاله طبقيا واردة ))(38). (( فيوم كنت تعمل بدافع العروبة والدين وبضمير العربي الحر إلى جانب إبن باديس وأهل الفضل والعلم من صحابته وتلاميذه، كنا نعمر ولا نخرب، نعمر الألسنة بلغة الضاد لغة القرآن الكريم، نعمر الأفئدة بالدين والحديث والسنة وما كان عليه السلف، وقبل أن نحقق أمنيتنا أضرموا النار في الحياة ))(39). والذي دفع أمثال " سي مسعود " و" سي بولرواح "، و" مصطفى "... إلخ أن يقف ضد الاستعمار، هو أنه في كل قومية بورجوازية لأمة مضطهدة ، يوجد محتوى ديمقراطي عام ضد الاضطهاد، وهذا المحتوى بالذات هو ما تؤيده هذه البورجوازية بدون أي تحفظ، ولعل هذا ما جعلها - وفق نظر خصومهم - مستعدة لأن تخون شعارات تقرير المصير التي رفعتها هي بنفسها في زمن ما، وأن تركز على سياسة ( الحل الوسط ) مع خصومها كلها شعرت بأن خصومها في الحركة الثورية - سابقا ولاحقا - داخل البلاد تحاصرها وتهدد مصالحها الطبقية.
ينبغي العمل الروائي عند وطار على هذه الفلسفة التصادمية بين أيديولوجيتين على شكل ثنائيات متوازية تنطلق من نقطة واحدة لكنها لا تسير في اتجاه واحد، تسعى جاهدة لسيطرة والسبق والهيمنة على القيادة كما أيام الثورة في بداية الاستقلال، ولا أثناء ثورة البناء والتشييد. ففي الوقت الذي يشكل موت زيدان في نظر الشيخ على أيام الثورة ضرورة ملحة يجب أن تتم قبل نهاية الثورة الوطنية ليتسنى له بعد ذلك توجيهها كيفما شاء فيما بعد، يكون الهاجس الذي يشغل بال خصمه زيدان فالتصفية الطبقية بالنسبة إليه ليست الهم الآني، هناك إمكانية الالتقاء إلى حد ما على الأقل في الفترة التحريرية، لأن الشيخ " سي مسعود " بكل سلبياته يحمل في ذهنه هاجس الاستقلال وهذا هو الهم. ويمكن التحالف معه في هذه النقطة على الأقل ولو مؤقتا وتاكتيكيا.
فالأمر تعلق مع مجيء الاستقلال وأصبح أقل خطورة مما كان عليه وأصبحت الأهداف غيرها على أيام الثورة، لكن تتكرر نفس الأحداث، ففي الوقت الذي كان مصطفى يستعد لتنفيذ حكمه على جميلة بتشويهها بالحامض، كان بعطوش - بقايا أحلام زيدان - يفكر في كيفية تغيير الواقع لصالح الثورة الاشتراكية وتمكين أحفاد زيدان من الواقع ليتجنبوا الخطأ التاريخي الذي وقع فيه هو وزيدان وكل من ساهم ويساهم في بناء المجتمع وإخراج المحرومين المعووزين من دائرة الاضطهاد. هكذا يتجلى بوضوح الصراع الأيديولوجي من خلال مضمون النص الروائي عند وطار، أين وضعنا منذ البداية أمام موقفين أساسيين، صراع طبقي واضح المعالم، يكشف منذ البداية على انحياز الأديب إلى اليسار من خلال تلك التحديات التي يرسمها بدقة بين القطبين الأيديولوجي، ليصل إلى النتيجة الحتمية التالية: وهي أن الذي يحدد وجهة الثورة الشعبية ليست القوى المرتبطة بالماضي ( الشيخ ) الإقطاعي وليست القوى المرتبطة بالاستعمار، والرجعية، ( البورجوازية الوطنية ) بل على العكس من ذلك، فالذين يبثون المستقبل هم الفقراء الذين يناضلون من أجل تجسيد هذا المستقبل الذي تحاول الرجعية تشويهه، لكن العمل الفعال لهؤلاء الفقراء أمثال زيدان، حمو قدور، اللاز ... أيام الثورة وكل القوى الحية، أمثال هؤلاء هم الذين يقفون سدا منيعا في وجه أمثال الشيخ سي مسعود، هم البؤساء الذين لا يربطهم بالماضي شيء، لأنهم في رحلتهم الدائبة، ومن خلال صراعاتهم فقدوا كل شيء حتى أبسط الشروط الإنسانية لممارسة عيش مقبول، ومن هنا فهم لا يخافون فقدان أي شيء (40)، هذا ما يجسده الحوار التالي: (( حدث قدور نفسه ثم سال:
- باحمو من منا تغير.
- لا أنا ولا أنت الظروف تغيرت، أنا فقير جدا، أقل من فقير، وأنت متوسط الحال، بل غني دكانكم يعمر شيئا فشيئا، وأرضكم، صرتم تفلحونها وحدكم بعد مدة تشترون شاحنة، وبعد مدة أخرى تشترون جرارا وتكبون وتكبرون، حتى لا يبقى في إمكانكم تمييز من تحتكم.. نحن لا شيء يربطنا بالماضي، وأنتم لا شيء يدفعكم إلى المستقبل، ولم يبقى بيننا إلا رابط، هو الحاضر، هذا الحاضر الذي أتعاون وزيدان أخي، وكل الفقراء على صنعه والذين تريدون أنتم أن تبقوا متفرجين عليه، بعضكم يتفرج وبعضكم الآخر يعمل على عرقلته وهدمه )) (41).
وعندما يشتد الصراع الطبقي وتتضح الفوارق (( ما في الجبل يبقى في الجبل..كل واحد في حاله )) (42) ويتأكد ذلك عند الطبقة الكادحة وينهي حد الرجعية ((وراس بن عمي ، فات الحال، إما .. وإما.. الشامي شامي والبغدادي بغدادي، الذبح من جهة.. والرصاص من جهة )) (43).
وتتجلى الصورة واضحة عندما تتجلى الحقيقة لقدور وغيره من المستضعفين والمستغلين ويفرقون بين الحبل الأبيض والحبل الأسود ويعرفون التمييز بينهما (( ويتخيل لقدور أنه غائص في الأعماق.. أعماق الأعماق، في بئر عميقة القرار.. ينادي بالإنقاذ ، ويمتد منه حبلان واحد بيض يمثل يد ريمون أوجان جون أو الحاج الطاهر.. وآخر أسود يمثل يد اللاز، أو يد حمو أو يد زيدان، أو يده هو بالذات )) (44) وعندما يحسن بأيهما يتعلق ينبلج الفجر وتسطع الشمس.
حينئذ يصبح القطب الثالث ( المستعمر ) - في هذا السياق - عاملا مساعدا على إذابة القطب الثاني، الحاج الطاهر، والشيخ سي مسعود، لأن النص ومنذ بدايته لا يبرز المستعمر كعنصر أساسي في الصراع الأيديولوجي في الرواية بقدر ما يظهره كعنصر إدانة للقطب الأيديولوجي الديني الإقطاعي الرجعي. وفي الوقت نفسه عنصر محفز للبورجوازية الصغيرة للانضمام إلى اليسار الشيوعي، هذا ما يؤكده الحوار السابق لـ" حمو " مع صديقه قدور، مؤكدا فيه اختيار أخيه " زيدان " هذه الشخصية " الرمز " للفكر الشيوعي (( لا فرق نقاتل جنبا إلى جنب ونتحمل نفس المشاق ننظر إلى العدو نظرة واحدة.. فقط زيدان يفكر أحسن منا جميعا آراؤه دائما صائبة وأحكامه سليمة ، وتنبؤاته صادقة.. ربما السبب في ذلك أنه متعلم بينما أنا أمي، بعنا بعض المتعلمين مثله، لكنه يفكر أحسن منهم، إذا كان هذا لأنه أحمر، فيجب أن نحمر كلنا يجب أن تحمر الثورة كلها لنفكر تفكيرا سليما، ونصدر أحكاما صحيحة )) (45). فكما أن شخصية قدور في الرواية تتجاوز حدودها الفردية لترمز لطبقة بأكملها، فهو ابن البورجوازية الصغيرة حيث كان يعمل تاجرا في حانوت أبيه ليتركها وينضم للثورة مقتنعا بآراء زيدان.
فإن حمو وأخيه زيدان شخصيتان ترمزان للطبقة العاملة الكادحة ( البروليتاريا ) إلا أن زيدان يتجاوز رمزه الطبقي ليصبح رمزا للفكر الشيوعي والمنظر للثورة التحريرية، يعتنق مبدأ الأمية بدلا عن الوطنية ، ولذلك يؤمن بالصراع الطبقي داخل وطنه ويرى أن الصدام بين الأغنياء والفقراء ينبغي أن يكون دمويا، وأن المجاهدين من الفقراء والمساكين، عليهم أن يذبحوا الأغنياء لأنهم أعداء الثورة )).
فالشيوعية هي المخرج الوحيد لهؤلاء الفقراء والمساكين من تفق البورجوازية والإقطاع (( إنها لائقة بالفقراء المساكين، وضد الأغنياء وكبار الملاك، والمجاهدين كلهم من الفقراء والمساكين، وكل ليلة نذبح عددا كبيرا من الأغنياء لأنهم ضدنا ضد الثورة، لا يكتفون بمنع الإعانة عنا، بل يوشون بنا للعدو )) (46)، هكذا وبهذا المفهوم استطاع زيدان أن يؤثر بفكره على المجاهدين والمحيطين به رفاقه وإخوانه وأولهم شقيقه حمو الذي أصبح يؤمن بكل ما يقوله أخوه زيدان بل أصبح الداعية المخلص لهذا الفكر (( زيدان يفرق بين الناس وينظر إليهم نظرة مختلفة ويعاملهم معاملات خاصة، لا كنه لا يؤذي ولا يسيء لأحد بل هو أكثر الناس اتقاء لجرح العواطف )) (47). لكن بالرغم من هذه القناعات يبقى الشيء ما يؤرقه ويحز في نفسه وبخاصة على مستوى الوعي التاريخي والانتماء الحضاري، فيدفعه إلى التساؤل الذي حاول النص إخفاءه منذ البداية (( ترى هل الشيوعية شيء محرم، مثل الخمر والزنى والسرقة والخيانة؟ حسبما أكده المسؤول الكبير فإنها أكثر من كل هذه المحرمات.. وما هي يا ترى. وعندما يعجز الأديب في الرد على هذا التساؤل الجوهري يلجأ إلى التهويمات الخرافية والتقريرية المباشرة (3* ) (( إنهم يتحدثون عنها كما لو أنها جنية تسكن الإنسان .. حتى الجنيات فيها الكافرات والمسلمات )) (48) وهنا يبدو عجز الراوي على تقديم هذه الحقيقة بالنسبة إليه في إطارها الفني - في شكل حدث - وقد حاول الأستاذ واسيني الأعرج إيجاد مبررا لهذا المنزلق وذلك بردها إلى الصعوبة الفنية بقوله : (( وهنا كذلك تكمن صعوبة الفن ، والفنان معرض في مثل هذه الحالات لارتكاب أخطاء تقتل العمل الروائي أو الفني بشكل عام ، فتدفعه قناعته إلى إسقاط فكره على إبطاله بشكل آلي حتى ولو كان يتناقض مع واقعهم وطبيعة ممارستهم )) (49) والحقيقة أن وطار ونظرا لشدة إيمانه بتوجيه الإيديولوجي وبفكره وبقناعته الأيديولوجية كثيرا ما توقعه في مثل هذه المزالق، وهذا ما يأتي من كون الأديب يحرص على إيصال الخطابة إلى القارئ قبل حرصه فنية العمل الأدبي، ودليلنا على ذلك تحميل حمو رغم بساطته وأميته مثل هذه القضايا النظرية الخطيرة بكل بساطة (( لا أعرف فرقا بيننا وبين زيدان، غير أنه لا يستعمل لفظة الأخ، وإذا اضطر لنعت أحد، استعمل لفظة الرفيق.. حتى هذه لا يستعمله إلا مع أحب الناس إليه.. لم يقلها لتاجر أو لثري صغير.. أنا نفسي يكثر معي استعمال عبارة يا ابن أمي بل يا أخي )) (50). ويبرر الأستاذ واسيني لعرج ذلك بعفوية الشخصيات (( لأن هذه العفوية ذاتها هي شكل من أشكال الوعي التاريخي الذي يعمل على تفاصيل الحياة الدقيقة وعلى الملاحظات الصغيرة داخل واقع يتغير بسرعة كبيرة )) (51) إلا أن هذا لا يمكن أن يكون جوهر الشيء لأن شخصية حمو التي قدمها النص بكل تلك السذاجة والارتماء في كل الموبقات، حتى الثورة لم يعرف طريقها إلا عن طريق الصدفة، لا يمكنها أن ترقى إلى ذلك المستوى الفكري، والتفريق بين (( متعلم تهمه الثورة كقضية وطنية، ومثقف عضوي )) تصبح الثورة جزء من كيانه لا يمكن أبدا التفريط فيها، فهي ليست مجرد أحداث تؤدي إلى الاستقلال كما ينظر إليها غيره ( الشيخ ) بل هي: (( صراع ضد الاستعمار وصراع طبقي يؤدي إلى قهر الاستعمار ورموزه البورجوازية الجزائرية التي خلقها لخدمة مصالحه )) (52)، اللهم كون هذا ينبع من جاهزية موقف الأديب نتيجة لحتمية الخطاب الأيديولوجي الموجه.
إذن يشكل زيدان جذع المعادلة وقطرها المحوري الذي تدور حوله الأحداث كلها بل ينتجها بحيث تشكل النبع الفياض للتوجه الأيديولوجي للنص الذي اجتهد الأديب في نسج قماشه خيطا خيطا، ولكونه كذلك القناة الحقيقية التي يعبر من خلالها الخطاب الأيديولوجي المؤطر لأحداث الرواية، فمركزيتها لا تنبع من قدرتها الفنية بل من تموقعها في الخطاب الأيديولوجي فــ " حمو " " قدور " حتى " اللاز " عنوان الرواية أفلاك تدور حول الكوكب " زيدان " وآليات تجسد وعيه ، فهو الشخصية المحورية المتكاملة والمثالية.
حتى بعطوش الذي بدأ خائنا للثورة ( ضابط صف في الجيش الفرنسي ) Sergent صورة غارقة في الموبقات والفحشاء، يضاجع خالته أمام زوجها، ثم يقتلها إرضاء لنزوات الضابط الفرنسي، وقتل الأبرياء، أم اللاز، ويعمل ( قواد ) للضابط الفرنسي الشاذ جنسيا، تستيقظ فيه الروح الوطنية، يقدره قادر، يقتنع فجأة بأفكار زيدان، ويلتحق بالثورة، ويصبح وطنيا من الدرجة الأولى. والتبرير الوحيد الذي يوحي به النص هو أن أفعال بعطوش كانت خارجة عن نطاقه، فهو العبد المأمور، لكنه عندما يستيقظ فيه الوعي الثوري يحرق كل ما يحيط به، ويلحق بالجبل، ويلحق بالدائرة المحورية ويصبح واحدا من أبرز أفرادها، بل خليفته مستقبلا. هكذا تقوم أيديولوجيا الأديب بهذا الفعل، وهي بذلك تحول افرد البيولوجي إلى فرد اجتماعي، وهي بذلك ( الأيديولوجيا ) تقوم بفعل ما يسميه آلتو سير ( حركية المجتمع ) حيث أن المجمع لا يتضمن بنية ساكنة وإنما هو عملية في حال من التكون للممارسات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية ، ولما كان وطارا عارفا على المستوى النظري لما هو قائم به، وهو يعلم جيدا أنه مجبر على تقديم التبريرات الموضوعية لدعوته، من هنا سعى إلى إبراز هذه الحركية عند هذه الطبقة الاجتماعية وهي في حالة إعادة إنتاج نفسها وعلاقاته، وذلك عن طريق إعادة إنتاج الناس على المستوى البيولوجي من خلال منحهم ما يسدون به رمقهم، والاجتماعي من خلال إعادة إنتاج منطلقات السلوك، وكل المبررات المساعدة على ذلك، وبهذه الكيفية استطاع وطار أن يقدم الوجه الإنساني لزيدان ومن خلاله ممثل الأبعاد الرمزية للاز بكل هذه القوة كما يقول الأستاذ واسيني لعرج (( فاللاز في النهاية هو الشعب الذي سيرث آلام أبيه ورفاقه ضحوا بأنفسهم بدل أن يضحوا بقناعاتهم )) (53) (( لم نأت بأسماء أحزاننا لكن لا نستطيع التخلي عنها، وبالتالي عن عقيدتنا )) (54).
لقد اهتم الكاتب في هذه الرواية ببناء أسس خطابه الأيديولوجي، فحول الشخصية المحورية " زيدان " إلى رمز للفكر الشيوعي بكل تضاريسه ونظراته الطبقية، وبذلك تحول إلى ناطق رسمي بأفكار الأديب ، وذلك لإلحاحه الدائم في الحديث عن الشيوعية كحل أمثل لتطلعات الشعب وإبراز معالم الحقد الطبقي والدعوة التقريرية المباشرة إلى اعتناق مبادئ الحزب الشيوعي بل إنه اقتحم في الأحداث ما يدعم أفكاره لإيجاد مشهد الانتخاب الديمقراطي الحر الذي قام به مع زملائه في الكهف، وإدخال شخصيات ثانوية ليست لها قيمة في تطور الأحداث سوى التضامن الشيوعيين الفرنسيين والإسبان، رفاق زيدان الذين أعدموا من طرف الشيخ سي مسعود مسؤول الجبهة، وإقحام مقاطع من النشيد الأممي. كل ذلك كان محاولة من الكاتب إثبات دور الحزب الشيوعي في الثورة التحريرية وقيامه بتجنيد الطاقات الوطنية الحية في ميكانيزمات الثورة رغم القمع الذي قوبلت به من طرف اليمين المتطرف في الجبهة، من ثم ينسب الكفاح له دون غيره، ويرى أن النهاية المأساوية التي انتهى إليها زيدان بذبحه ورفاقه من أعضاء الحزب الشيوعي أنهم ذهبوا وقودا للثورة التي أشعلوها وراحوا ضحية للصراع الأيديولوجي، ولكن هذه التضحية تعتبر الثمن الذي يدفعه الرفاق من اجل الآخرين (( الشيوعي والشمعة لا دور لهما سوى الذوبان والانتهاء والذوبان هكذا )) (55). وكما بدأ زيدان شخصية محورية بالنسبة لأبناء جلدته إنها شخصية محورية بالنسبة لرفقاء الدرب الأيديولوجي ورفض قبول الفرصة التي أتاحها له الشيخ مسعود وأبى إلا أن ينتهي مع رفاقه (( حدق فيه زيدان جيدا، وقد غير موقف الموت الدموي المرعب لونه، وبسرعة فكر في قائد الوحدة الثانية، الفنان السفاح الذي ذبح في ليلة واحدة سبعة أنفس، وفكر في سوزان، وفي موسكو، وفي الحرب العالمية الثانية، وفي انقلاب مصر، وما أتى به، وفي اللاز، ومريانة، وحمو، وبعطوش، الذي ظل طيلة الفجر يفكر فيه ويتسائل عما إذا كان ممكنا أن تكون هناك خيانة مطلقة، أو ترد نهائي...ليس لي أن أتخذ أي موقف شخصي في مسائل تعود إلى الحزب يجب أن تعلم هذا عن الشيوعي يالشيخ ...))(56) وهو يمتلك بذلك كل مبررات وجوده، كما تتضح قيمة شخوصه المكملة له، فالأيديولوجيا تعمل على ضم الفاعلين من أفراد أو تحويلهم إلى أفراد فاعلين، ولأن بنيتها انعكاسية ومزدوجة، فهي تستدعيهم باسم ذات وحيدة ومطلقة في مرآة مزدوجة بحكم كونها مركزا يضم الذات المطلقة المهيمنة على الأفراد. وهي إذ تستدعي هؤلاء الأفراد عبر علاقات انعكاس تمكنهم من تأمل صورتهم (( حظنا سيء باللاز حتى أنت لم تفهم نفسك ، التحقت بها عفويا، بل هي التي التحقت بك، أدركت الثورة وأدركتك، أدركتها عملا وأدركتها روحا، ولما حان أوان اقتحامها لرأسك، لفكرك، هاهو الجسر يقطع بينك وبينها تحل، الموت )) (57).
فحتى في هذه العملية وهذه المرآة العاكسة أمام حركات أربعة كما عددها آلتوسير (4*)
1-استدعاه الأفراد الفاعلين.
2-إخضاعهم للذات.
3-تبادل الاعترافات بين الفرد والذات، فيتم تعرف الفاعل على نفسه.
4-الضمانة المطلقة بأن ما يحدث هو أمر بديهي في هذه الخطوات، يتم تحويل أفراد إلى فاعلين
( حمو، بعطوش، اللاز، قدور، سوزان ...) أ يحتويهم " هم " الحرية المطلقة في الحياة، واتخاذ القرارات وإعلان وجهات النظر ومن ثم يتحولون إلى جزء طيع يخضع من تلقاء نفسه لما تمليه الذات المطلقة، ويقبل - دون قسر - باستبعاده ومن ثم يمارس الاستبعاد دون تدخل من ا حد (58).هكذا (( ينوس المناضل الشيوعي بين زمن ذاتي مهده الرغبة، وزمن موضوعي مرجعه التاريخ، تقول الرغبة إن الثورة قائمة، وعليها أن تغير (( التاجر الحقير )) و (( الفلاح الأعمى )) ن ويقول الوعي، أن تحرر من ضباب الرغبة، إن الثورة طي الغيب وواجبه التأجيل، وفي الحالتين فإن الشيوعي يحاصر ذاته، ويوزع أوصاله على أزمنة متباعدة، فهو إما أن يتفكك في زمنه، أو أن يهجره باتجاه زمن لم يصل بعد، وهو في هذا الحصار سلم عنقه إلى سكين نقيضه حيث تذهب السكين عميقا دافنة وإنسانا معا (59).
يضع الشيوعي لأن زمنه ضائع بين الأزمنة، حاضر وغائب في آن، ينتمي للمستقبل والحاضر منه ملامح، أما " سي مسعود " فيعرف زمنه تماما، لا ينتمي إلى ماضي أو حاضر بل إلى كل زمن يجعل من القول الواحد والموقف الوحيد سيدا فيقول " سي مسعود (( اتخذوا القرار في شأنكم، بالنسبة لزيدان لا بد تبرئته من العقيدة وانسلاخه من الحزب وإعلان انضمامه إلى الجبهة، بالنسبة لكم أنتم، التبرؤ أيضا والدخول في الإسلام ..)) (60) يموت زيدان إن ألغى وجهه الفكري وسحقه الموت إن ظل وجهه سليما ))(61). وهذا ما يجعل (( مفهوم الحقيقة الصادر عن مفهوم الثورة يشرح تناظر المواقع بين الشخصيات إلى حد التناقض في بعض المواقف وهذا ما يوضح بشكل جوهري ، إشكالية، إشكالية التناقض التي سادت مراحل الثورة حسب مضمون الرواية )) وهذا يجعلنا (( نخرج في النهاية بخلاصة جوهرية وهي: أن الذين قادوا الثورة لم يكونوا كتلة متجانسة ، تحكمها منظورات تاريخية موحدة تقود على أساسها الجماهير صاحبة المصلحة في التغيير الاجتماعي )) (62) ولهذا كان لا بد من إعادة النظر في كل الميكانيزمات التي سبقت الاستقلال، حتى يتسنى لأولئك المهزومين أيديولوجيا أيام الثورة من إعادة الكرة بإيقاظ الضمير الجمعي الجماعي على إحدى مناطق التعاسة البشرية )) (63) فكان من الطبيعي جدا أن يكون مصطفى ورضوان وغيرهم في اللاز الثانية (5*) الأبناء الشرعيين للشيخ الذي أمر بذبح زيدان، أوليس مستبعدا أن يتحول دم زيدان في الرواية الأولى، إلى دم يجري في عروق الطلبة المتطوعين المنحدرين بشكل عام ، من طبقات جد فقيرة، كالشريف وجميلة وشباح المكي المناضل من خلال مذكراته واليامنة إضافة إلى أن اللاز ظل يمثل الضمير الشعبي الشاهد على كل ما يقع منذ الثورة الوطنية حتى الآن )) (64) ويستمر الصراع والتصادم الأيديولوجي بين الكتلتين ( يسار تقدمي والسلفية الرجعية ) بين أحفاد الجيل السابق، جيل الثورة، لكن في هذه الزاوية تنعدم الحركية ويطغى القول النظري، أي يتحول الصراع من تصادم فعلي إلى جدل فكري بين الطلبة المتطوعين، جميلة الطالبة اليسارية ومصطفى زميلها في الكلية والامتداد الطبيعي للشيخ لكنه يفشل أين نجح سي مسعود أيام الثورة.
والملحمة في هذه المرة من أجل تحرير الجزائر من آثار الاستعمار الفرنسي والإقطاعية المحلية، الملحمة هي الثورة الزراعية واحدة من الثورات الثلاثة لتشييد الجزائر المستقلة، والرواية تريد أن تجسد تلك الصراعات الجوهرية التي سادت المجتمع الجزائري مباشرة بعد الاستقلال، أين استمرت تلك التصادمات الأيديولوجية (( لكن مطروح ضمن إطاره التاريخي وشكله العلمي، لا كصراع هامشي يستهلك عبثا كل القوى المنتجة، ولكن يأخذه يعده الأكبر كصراع طبقي )) (65). وهذا ما دفع بالكاتب إلى حشد كل الوقائع التاريخية وقولبتها ضمن إطار روائي مستغلا قدرته على تصوير تلك الوقائع التي عاشها ميدانيا وإيمانه بتوجيه الأيديولوجي مستغلا ثقافته الأيديولوجية ووعيه بها وعيا كاملا.
إلا أننا نلاحظ أنه لم يجدد أبدا في البنية المعمارية للرواية فهي استمرار لأحداث الرواية الثانية لكل وقائعها، عدى كون زمنها زمن الاستقلال، أي أننا هذه المرة لا نجد الكتلة الثالثة ( الاستعمار ) وتبقى أمامنا الكتلتين الوطنيتين، كتلة اليسار التقدمي الشيوعي ، وكتلة السلفي الرجعي الإقطاعي، حيث ظل اللاز يفرض نفسه بقوة كذاكرة شعبية فهو (( ليس سوى جثة تسكنها أرواح جميع الشهداء كل ثانية تحل بهذا الجسم روح )) (66) فهو الإطار الذي يحيط بأحداث الرواية، من بدايتها إلى نهايتها ، فهو المرجعية التاريخية لأولئك الشباب الذين تطوعوا لإنجاح الثورة الزراعية ، والانتصار على الإقطاعية الرجعية بكل حماس ، وهذا الحماس يشحنه اللاز بقوته المعنوية (( فهو إذن ذاكرة هذا الشعب فهو كذلك حاضره الذي ما يزال يبحث عن طريقه لبناء مجتمع الديمقراطية والعدالة تسقط فيه كل التمايزات الطبقية ...وكما في المرة الأولى، تتطور كل التفاصيل الصغيرة (67). إذا كان زيدان هو الشخصية المحورية في الرواية الأولى، فإن هذه الوظيفة قد انتقلت في القصة الثانية إلى ابنه ووريثه الشرعي تاريخيا. والطاهر وطار وهو (( الفنان الذي يستوعب السياسة والاجتماع والاقتصاد في وحدة أيديولوجية كاملة )) (68). يعرف جيدا كيف ينقل هذا الدور إلى اللاز ويجعله (( رمزا سيالا للفرح والحزن )) والآمال المستقبلية رغم صمته، فإن كيانه ككل يحكي التاريخ الماضي ويدفع إلى آمال المستقبل ويفتح الروح في ابناء أولئك المسحوقين فهو بالنسبة لهم (( كائن وغير كائن، كائن حيث ما حللنا وولينا وجهنا، اللاز يملأ الدنيا، هنا في الجزائر، هناك في المغرب في تونس في مصر ن في الهند، في السند، في كل مكان لم تقم فيه ثورة العدل، في كل موطن يذبح فيه زيدان، وغير كائن لأننا لا نستطيع أن نشخصه في قرد معين، لا نستطيع أن نلمسه ونحدق به ، ولا أن نعطيه ملامح معينة ، إنه أنا وأنت وكل الناس، هو في نفس الوقت (( يمكن أن يكون أنا أو أنت أو واحد آخر )) (69) وكيف والصراع محتدم أكثر بين البورجوازية الرجعية بالأمس واليوم أشد (( فالبورجوازية واحدة وأسلوبها واحد ومنطقها واحد أيضا )) (70) و(( المعركة مع الرجعية ليست سهلة إلى هذا الحد، السرطان، الورم، الخبيث، يسكن ولا يموت، حين ينهزم بغير مظهره )) (71) ولهذا فهم مرض لا يستحقون أي رحمة أو شفقة، فقط مجابهتهم ودحرهم هو الحل ، فهم لا فرق بينهم وبين " هتلر " و" موسيليني "، ونيكسون، وأي رأس مالي أو إقطاعي آخر أو فاشي (72).
فقط جميلة وحدها تستطيع فعل ذلك، لأنها فهمت اللاز جيدا، ولأنها وحدها فقط (( قهرت الظروف والمحيط والذات، انعتقت تماما تماما، حتى بلغت حد النضال من أجل إعتاق غيرك، إعتاق الجزائر من هيمنة الإقطاع وتسلط الاستغلاليين، إعتاق الإنسان الجزائري من الظلم والاستغلال والتعسف.
مناضلة، إنك مناضلة، مناضلة رفيقة يا جميلة، واحدة من نحبة قليلة لها الشجاعة الكافية لترفع عقيرتها بلا تردد ولا خوف ولا خجل
إيه شعبية ثورية زراعية
إيه شعبية ، تسقط الرجعية
إيه شعبية ثورة اشتراكية (73)
هكذا يقدم الكاتب بداية تصادمه مع الأيديولوجيا المضادة بطلته التي تقوم بدور زيدان في الرواية السابقة، فهي البطارية المركزية التي تشحن كل البطاريات ولهذا يجب أن تعرف كل شيء وتحيط بكل شيء وتعي دورها الريادي كما وعاه زيدان (( أدركي يا جميلة، أن التطوع مهما كانت قيمته، ودون استنقاص لقيمته، ليس أبدا أداة لاقتحام الأزمنة، إنه ليس سوى مديد العود، وإلا أصبح تعويضا ثوريا دونكيشوطيا))(74).
لكن زيدان أستوعب كل معارفه وثقافته عن الأممية الاشتراكية من سوزان الفرنسية التي ساعدته وأخذت بيده حتى سافر غلى موسكو، ومادام ذلك لم ينس الجميلة ثم الكاتب إلا أن يقوم بهذا الدور، وعلم أن ما يقوم به مصطفى ورفاقه من عمل مماثل لما تقوم به هي وأصدقاءها ليس مجرد عمل تطوعي ومساعد للفلاحين، لأن الأر إذا صار كذلك، ولماذا هذا التصادم الذي لن يتوقف عند هذا الحد فقط. هكذا يتدخل الأديب مباشرة في توعية أحفاد زيدان، ويذكرهم بأن الصراع الأيديولوجي لا يقبل الحلول الوسطية ولا كما ذبح زيدان، فالظروف اليو مغيرها في الثورة، كل الأمور مواتية لنا من أجل أن ننشر الدعوة بعيدا عن ضغط أو تهمة تؤدي غلى الذبح لا مصطفى ولا رضوان الذي يؤطر المعركة المضادة يملك ما كان يملكه "سي مسعود" وبالتالي الأيديولوجية القمعية عندهما فقط غطاءها السيساي فلا خوف إذن منهما، لكن هذا لا يدفع غلى التهاون والاستخفاف لأن (( النضال له طعمان متميزان: أحدهما عذب جدا، وثانيهما مر جدا، كلا الطعمين حادان، إلا أنهما ينتهيان معا غلى إحساس قوي بالإنشاء بالإحساس بذروة المواجهة، مواجهة المصير الدرامي عن الوعي، وعن سبق إصرار، بإحساس طارق بن زياد في اللحظة التي أحرق فيها سفنه آه .. آه ..
أننا اليوم في أحسن وضع، نعمل في سرية تامة، ولا أحد يستطيع أن يحصر تهمة معينة ضدنا أن يميز ما بين المتطوع الشيوعي وغير الشيوعي، فنستر وسط التسعين في المائة من المتطوعين غير الشيوعيين، ولا أحد منا يعلن عن انتمائه حتى لرفيقه، لكن المؤكد، أن بعد سنوات لن يتطوع غير الملتزمين الحقيقيين بالعقيدة الثورية))(75) وي حقيقة هذا الصراع ويتشكل المعمار البنائي للرواية جعل للأديب من حفدة "سي مسعود" قوة مقابلة ومضادة لطموحات جميلة ورفيقتها، وكما فعل في النص الأول عمل الأديب على إبراز الصورة ليشيد بمصطفى وإخوانه: رضوان وغيره، خيث (( يقف مصطفى رمز للإنسان الرجعي الذي دفعته عقدته النفسية وإحباطاته العاطفية في هذا التوجه دون غيره، ورأى رضوان المرتد والمنظر للفكر الفاشيستي، ووراء هذا الأخير يقف أوساط استعمارية ما يزال حلمها الجوهري هو ضرب كل بذرة بناء الاشتراكية في الجزائر))(76) ووسيلتها غلى ذلك استعمال الدين في عرقلة بناء الاشتراكية في الجزائر وجعلها العقيدة الوحيدة التي واجهت قانون الثورة الزراعية، وهي مشكلة نابعة من الشعب أساسا، حيث انتشرت الشائعات والفتاوي الدينية بأن لاستيلاء على الأرض حرام وأن أصحابها سيعودون لاستردادها بالقوة))(77) مرة أخرى يلجأ الأديب غلى البحث عن المبررات المسبقة للفشل المسبق للمشروع الأيديولوجي الذي ينادي إليه، ومرة أخرى المتهم هو الشعب الذي تغيب مرة أخرى شخصيته وينطمس وعيه بالواقع ويخضع للتنويم المغناطيسي لحفدة الشيخ سي مسعود كما حدث له بالأمس ولم يحرك ساكنا فقد ذبح زيدان أمامه بنفس الدعوة، وها هو اليوم يساهم بغير وعي في عرقلة بناء الاشتراكية في الجزائر عندما يسمح للإشاعات التي يروج لها مصطفى ورضوان (( لقد راجت في الريف الجزائري بسرعة فائقة فتاوي دينية مفادها أن الاستفادة من الأرض حرام ذلك أن هذه الأرض مستولى عليها بالقوة وهي عند الله شاء العبد أم أبيملك لأصحابها الأصليين. ثمرتها حرام والاستفادة بها كفر كما راجعت دعاية قوية تؤكد للجميع أن باقي مناطق البلاد لم تؤمم الأرض فيها، ذلك لأن أصحابها حملوا السلاح والتحقوا بالجبال وهم زاحفون للقضاء على السلطة الكافرة من عملاءها الفقراء المستفيدين، يقال ذلك في كل منطقة ثم إن السلطات المعنية بتسجيل في الأرض نفسها كثيرا ما تقوم عائقا هاما في ذلك ولا غرابة فمعظم الموظفين في البلديات أو الدوائر هم ملاكون }كذا {عقاريون أم من منبت إقطاعي))(78). هكذا يقدم النص بداية الصراع الأيديولوجي في شكله التصادمي يوعلن كل فريق علانية عن نيته وغاياته وأهدافه عكس النص السابق، أين ظل الصراع ضمني غير معلن، عندما يصرح مصطفى صراحة ((يحيا الإسلام أولا وقبل كل شيء)) أمام الملأ بكل قواه فيجلب انتباه المتطوعين من الفرقين والمشرفين على القرية وفرقة المتطوعين، ويكون رد الفعل من الفريق الثالث على شكل تساؤل يبرز تردد هذه الكتلة وأن الخوف لا يزال يسكن أوصالها كما يوضح أن فلسفة زيدان ما تزال قائمة ((إننا في غير زماننا))
- ((إنهم يفتعلون معركة، ما هي نيتهم، أعتقد أن أصحابنا وراءهم، قال الشريف رئيس فرقة المتطوعين، فرد عبد القادر ساخطا.
- وآخر ما هي؟ لماذا لا نكتفهم، ونلقيهم في مقطورة توصلهم غلى الحافلة فيعودون من حيث جاءوا.
- المعركة لا تنتهي عند هذا الحد، يا عمي "عبد القاء" لو كان الأمر بهذه السهولة والبساطة لما كشفوا عن أنفسهم إطلاقا، هؤلاء الطلبة وعددهم لا يتجاوز السبعة لا يمثلون أنفسهم، وإنما يعكسون تيارا قويا، خيوطه تتفرع على كاهل بلادنا، ونلتقي مع أخرى نتضرع على كاهل العالم.
- تقول؟ والهواري ماذا ينتظر؟
- آه يا عمي "عبد القاء" سأشرح لك الأمور فيما بعد.
- يحيا الإسلام، يحيا الإسلام
- هتف صوت نسائي، كانت جميلة هي صاحبة الصوت، تأملها الجميع، أعادت الهتاف مرة ومرات.
انبعثت زغرودة أطلقتها فاطمة، أعقبتها ثانية ن هتف الجميع:
- يحيا الإسلام، تسقط الرجعية.
وقف مصطفى حائرا، كانت الأصوات قوية، كانت ثابتة رضية واضحة تتميز بالصدق أكثر من ذلك، هل يفعل ذلك، هل يعقل هذا، وهؤلاء الحمر الملاحيد يهتفون بحياة الإسلام؟ وماذا بقي لنا نحن بعد ذلك؟
التفت الى أصحابه الستة الذين كانوا قد وزعوا بترتيب على كامل الصف الطويل حتى يتنسى لهم تأطير الوضع، كانوا بدورهم مشدوهين، بدا له الصف أعرض حتى بكثير مما كان عليه، بدت له أجسام الفلاحين وباقي الطلبة والطالبات أضخم بكثير مما كان يراها قبل رتوة، ألقى نظرة على الجرفة التي كان يتهدد بها، فألفها أصغر من ملعقة))(79).
هكذا تحولت الرواية على المسرح للمنافسات الفكرية لتجسيد طموحات أيديولوجية، فشل النص الأول في تجسيدها على أرض الواقع أيام الثورة، ويستغل الأديب هذه المواقف المتباينة بين الكتلتين ليعبر عن تصوراته، لكن هذه المرة على لسانه لا على لسان أبطاله يتجلى ذلك من هذا الحوار الذي أجراه بين شخصية ((جميلة)) ليشرح فيها وظيفته ككاتب: ((إنه اليأس تدفعونني إليه، حين تقولون لي إننا عدنا من قرية اللاز، وهو بخير، كما تركته منذ سنوات عديدة، عمه حمو يقرئك السلام.
قافلة التاريخ حق، مع ذلك ليس لها درب، أو مسلك محدود، وهذا لا يعني أنه من واجبنا أن لا ننضم إليها، وأن لا نؤثر في دفعها الى الأمام ما أمكن. لم يقل يراهما كل هذا الكلام، لم يلق هذا الخطاب بالحرف الواحد، لكنه جعلني أتهمه وأفهم أكثر منه، يقول دائما: إنني لا أحسن لا الغزل ولا الحديث، ولكني أكتب، هذا عزائي، وهذا دوري، وهو يختلف عن دور الآخرين وهذا مهم جدا، عليكم أن تفهموا من تلقاء أنفسكم، الكاتب كاتب، والمغني مغن، واللاز موجود في كل جيل في كل مكان وكل زمان، كل جيل يلتقي بلازه بصفة معينة، وأنا التقيت به قبل أن يستشهد أبوه، عرفته جيدا، عرفته كما أمكن لي أن أتحدث لكم عنه، وكل ما عدا ذلك، فمجرد حديث بلغني عنه أو مجرد حب دفنته في أعماق قلبي))(80). وبهذا يكون الكاتب قد أقحم نفسه في دائرة المعركة وبوعي منه لأنه ((حين يطرح هذا الصراع يحدد طبيعته نولا يخرج نفسه ككاتب عن هذه الدائرة)).
إن هذا الحوار بكل ما يحمل من سقطات تخدم وجهه نظر الكاتب في إبراز جهود الرفاق الشيوعيين، وتضحياتهم النضالية، وأفكارهم المتجاوزة للأعراف، تؤكد حرصه الشديد على إيصال هذا الخطاب الأيديولوجي الذي هو عصب هذا النصوص ونظرا لعدم تأكده وإيمانه بقوة الإقناع عند شخوصه وبخاصة جميلة، خليفة زيدان في النص الثاني لصغرها، وقلة خبرتها، الشيء الذي أدى به الى إقحام نفسه كطرف بي شخوص النص الروائي (( عندما تقرئين رواية أندري مالرو "قدر الإنسان" سترين كيف كانت الحمر يقذف بهم أحياء في الأفران، التاريخ دائما يعيد نفسه البورجوازية واحدة وأسلوبها واحد أيضا))(81) فبدلا من أن تعبر الشخصيات عن أفكارها الخاصة المرتبطة بالأحداث يتول هو نفسه شرح أفكاره والإشكالية هذه تأتي مع عدم الإيمان المطلق عند الأديب بالشعب نفسه وتوجه فهو يشكو عدم اكتراث الشعب الجزائري بهذا الإنتماء الأيديولوجي الذي يكون هو منفذه مما هو فيه من التخلف (البديل المنتظر). ((هؤلاء الناس، هذا الشعب ينتظر كل شيء من الهواري ويبدوا أنهم غير مستعدين لأية مساهمة، هل مات روح المقاومة فيهم أم خمدت؟ هذه ثورة سلبية في حين تخلق الرجعية المشاكل بيدها، مستعينة بحيادتهم، يقومون هم مكتوفي الأيدي في انتظار ما سيفعله الهواري المسكين، يجب، يتحرروا يجب أن يستوعبوا الخطاب السياسي للهواري وأن يبقوا صامدين فيه))(82).
يضاف الى هذا التخاذل من الشعب تحرش المسؤولين في الدولة بهذا التوجه الأيديولوجي تارة باللامبالات مما يحدث بين الرجعية والتقدمية وتارة أخرى بمحاولة الكشف عن عجز هذا الخيار عن قيادة البلاد الى الحل الأقوم، هذا ما يفصح عنه هذا الحوار من طرف مسؤول سابق في الدولة، الشريف الطالب المتطوع:
- (( كنت أعتقد أن الجهلة من الشعب هم فقط المظللون.. ماذا يجعلكم تساندون هذا النظام، إنه غير شرعي، مجهول الهوية، لا هو بللكي، ولا بالجمهوري، ولا هو بالإمبراطوري أو بالعسكري... إذا كانت مثل هذه النخالفات الفظيعة تخفي على نحيتنا الجامعية، فالشعب المسكين معذور والله))(83) ويستمر الحوار بين الطالب الشريف والمسؤول ليؤكد هذا الأخير سبب هذا التدهور الاقتصادي وهذه السلبيات والخسائر التي تلحق بالاقتصاد يوميا، هو الاشتراكية التي يسعى هؤلاء الى تدعيمها: ((إن الخسائر مست حتى شركة النفط، شركة النفط يا عباد الله كيف تخسر؟ من قاع الصحراء، مادة تبعها، ومع ذلك تخسر، الزيت من الزيتونة والحوت من البحر ولا رأس مال، ومع ذلك الخسارة ملازمة... لولا التبذير باسم الاشتراكية))(84).
وهذا ما دفع بدعاة الشيوعية الى إعادة النظر في الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبوه بعد الاستقلال مباشرة، وعليهم الآن بمراجعته حتى يجتنبوا هذا الخطر المحدق بهم، الرجعية والبورجوازية من جانب، ودعاة الدين من جانب آخر والإشكال قائم بينهم (( علينا أن نركز جهدنا الكامل على إفهام الفلاحين الذين نتصل بهم بأن القول إننا في مرحلة الاشتراكية، خطر يضر أساسا الاشتراكية، وعلينا أن ننبه أصدقاءنا الى ضرورة التراجع عن الخطأ الاستراتيجي الذي تجرنا إليه الرجعية، ألا وهو التباهي والتأكيد بأن الجزائر طبقت الاشتراكية، وهي تحياها، ويجب أن ننبهم أيضا الى ضرورة فصل الثورة الزراعية، وعزل الإقطاع، وفصله عن الرأسمال الوطني))(85).
إلا أنه ورغم كل هذه المخاطر العويصة التي تنتظر تطبيق الأيديولوجية الشيوعية،فالكاتب يتجنبها ولا يعالجها بصراحة، فقط يركز في عمله على معاداة الدين والذين يقومون عليه. فهل الخطورة تأتي من هذا المنظور والمنطلق: ((اسمع أيها بسيط جدا هو أنني جزء منه، عمي.. جدا جدا.. }كذا { أنا شخصيا اشتغلت أربع سنوات كاملة مسؤولا عن وحدة اقتصادية وسنوات رئيس دائرة، لكن في الاخير فضلت الخروج الى الأعمال الحرة، لأبني مستقبلي ومستقبل أولادي، كما يفعل جميع الناس، إنني أعرف من الأسرار ما لو تعرفه المعارضة لأطاحت بالحكم بسهولة، إن شعبنا حر، خلق حرا يحب الحرية والديمقراطية، ويكره القيود والأوامر، أقول هذا وأؤكده، وحكاية الاشتراكية هذه كلام فارغ، لا أحد يحب السماع أليه))(86)، أم تأتي من هذه الآراء والمنطلقات اليت تنطلق منها جماعة مصطفى: ((علينا أن نتصدى لهم، نسفههم، ونؤلب الرأي العام ضدهم، أتفهمون إننا قلة، كذا كان الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام في غزواته نحن سبعة وهم قزابة السبعين، واحد مقابل عشرة، غزوة بدر فتلكن كذلك، وسننتصر في المعركة بإذن الله وبعون منه لأننا مؤمنون عامروا القلوب بالإيمان والثقة ولأنهم جبناء عملاء للخارج، معقدون بذنب تعاطي الحرام الممنوع، إن اللصوص دائما جبناء، وهم لصوص يريدون أن يسرقوا منا شعبنا ويعطوه لموسكو.))(87) وكأننا بالأديب يشير الى التركيبة الكلية للفكر الرجعي التي هي في النهاية الوجه الثاني للشيخ في اللاز الأولى، أو كما يبرر ذلك الدكتور واسيني لعرج، وإذا كان الأمر كذلك فكيف نبرر ذلك الانسجام الحاصل بين الواقع بكل زحمه وهذا التوجه.
إن الخطر الحقيقي يكمن في هذا الانسجام بين الشعب والسلطة الحزبية وكذا السلطة التنفيذية (( أحيطكم علما بأن الحزب معنا، منسق قسمة جبهة التحرير سينجدنا في الوقت المناسب بالمناضلين وبالشعب وبالدرك الوطني إن اقتضى الأمر، اتفقت معه على محاصرتهم في الثانوية من طرفنا حتى تحضر الحافلة وتعيدهم الى العاصمة))(88).
إن هذا التوافق ليس نتيجة "ملام معسول" كما يؤكده الدكتور واسيني لعرج ولكنه تذبذب في الوعي الفكري الثقافي لدى الكتلة الأولى (الرجعية ورفقائها) وهذا التذبذب أدى الى التردد والبحث عن الحل الوسط (( يا عمي عبد القاء، نحن هنا لنعين الثورة الزراعية، لنعينكم ونعين الهواري، والبلاد كلها على حل المشكل وليس من المعقول إطلاقا أن نخلق مشاكل أخرى...)(89) ((مشكل مصطفى هذا بسيط وعلينا أن نجد له حلا محليا بيننا وبينه وبينكم))(90) لم يتغير موقف الشريف عن موقف زيدان لما اشتد الصراع وارتفعت قوة الصدام الأيديولوجي من طرف الشيخ من قبل ومصطفى اليوم، الكلام لزيدان يؤكد فيه بأن فكره لم يخلق لهذا الوقت وإنما هو استشراف للمستقبل. وها هو الشريف اليوم يقف نفس الموقف من الإشكالية فإذا كان زيدان بالأمس همه الوحيد هو انتصار الثورة التحريرية، الشيخ لا يمثل خطرا، فإن الشريف يرى أن انتصار الثورة الزراعية هو الأهم، بينما الهدف المنشود هو انتصار الشيوعية حلم زيدان واللاز من بعده ضخم دوره في الرواية الثانية وتحول الى أسطورة، والمهم أن كل ذلك لا يجيب على سؤال عبد القادر ((ولكن إذا كان مسؤول الحزب، ومسؤولون آخرون معهم، ماذا في وسعنا نحن أن نفعل؟))(91) لأن الرد الذي جاءه من الشريف يتناقض والهدف الذي جندوا جميعا من أجله ((في وسعا أن لا نقع في لعبهم، أن نتفادى جميع استفزازاتهم وأن نقنعهم هم بالذات، بأن تصوراتهم علينا وعلى الثورة الزراعية خاطئة))(92) وهذا التذبذب الآن كالأمس نابع من خوف الشيوعيون من المستقبل، والخوف مبرر كذلك تاريخيا ((إن العراقيل المتعددة والتخريبات المتنوعة ستحدث كلها في يوم من الأيام الفرز ونبقى وحدنا، وجها لوجه مع الحامض زيدان، الموت البدني أو الموت النضالي كما كان زيدان يردد. إذا لم تتقدم الثورة هذه المرة، خطوات حاسمة فيتم الفرز في القيادة السياسية وينتصر الجناح الوطني الديمقراطي فسنجد أنفسنا من جديد في وضع شباح المكي وزيدان، وستكون يد ابن قانة هذه المرة أطول ألف مرة مما كانت عليه في الثلاثينات والأربعينات))(93).
مرة أخرى يعود هاجس الخوف م الفشل والانتهاء، ومرة أخرى يجد الكاتب المبررات الجاهزة لتبرير الفشل المسبق، رغم كون المشروع الجاهز الذي نادت به أيديولوجيا الرواية عند وطار ومنذ البداية، هو البديل الأوحد للقضاء على كل المفارقات التي تولدت عن الماضي الاستعماري والإقطاعي والبورجوازي.
إلا أن كل هذه الطموحات لم تشفع للنص، ولا حتى لهذا الحلم الأيديولوجي يبدي آماله ويكشف عن طموحاته المشروعة وفقا لأهداف النص، مرة أخرى تبقى كل هذه الأمور معلقة على شيء ما غير واضح الملامح المستقبلية، تنتهي الرواية، بمحاولة مصطفى تشويه وجه جميلة بواسطة الحامض الكبريتي، لكنه يفشل في هذه المحاولة الانتحارية، وهذا دليل على فشل الأيديولوجية الرجعية في تشويع المشروع الشيوعي الذي يعرض على المجتمع الجزائري، لكن هذه النهاية لا تبرر أبدا مستقبل هذا المشروع:
(( في كل قرية وفي كل مدينة لاز، ولا يعقل أبدا قريتنا بلا لاز))(94)، لأن ((اللاز هو الشعب، وأن الشعب هو المستقبل، وأن الإيمان بالمستقبل هو سلاح كل مناضل ومناضله))(95) فلا بأس أن ننتظر المستقبل وما سيسفر عنه؟
الهوامش:
(1)- الرواية ص: 9.
(2)- المصدر السابق نفسه ص: 9.
(3)- المصدر السابق نفسه ص: 10.
(4)- فيصل دراج ص: 218.
(5)- المرجع نفسه ص: 218.
(6)- المصدر السابق ص: 10.
(7)- مرجع فيصل دراج ص: 220.
(8)- الرواية ص: 10.
(9)- الرواية ص: 275.
(10)- فيصل دراج: دلالة العلاقة الروائية ص: 216.
(11)- المرجع نفسه ص: 217.
(12)- الرواية ص: 38.
(13)- المرجع السابق ص217.
(14)- الرواية ص107.
(15)- الرواية ص104، 105.
(16)- فيصل دراج ص: 223.
(17)- دلالات العلاقة الروائية ص: 224.
(18)- الرواية ص: 106.
(19)- الرواية ص: 108.
(20)- الرواية ص: 220.
(21)- الرواية ص: 221.
(22)- الرواية ص: 222.
(32)- الرواية ص: 222.
(24)- واسيني الأعرج، اتجاهات الرواية الجزائرية، م، س، ص:15.
(25)- الرواية ص: 225.
(26)- الرواية ص: 222.
(27)- واسيني الأعرج: الطاهر وطار وتجربة الكتابة الواقعية ص:
(28)- الرواية ص: 109.
(29)- الرواية ص: 66.
(30)- الرواية ص: 16.
(31)- الرواية ص: 70.
(32)- الرواية ص: 43.
(33)- الرواية ص: 46.
(34)- الرواية ص: 47.
(1*) العشق والموت في الزمن الحراشي اليت هي امتداد للرواية الأولى "اللاز"، وتكتمل الأحداث برواية الزلزال
(35)- الرواية ص: 226.
(36)- واسيني الأعرج، تجربة الكتابة ص: 42،43.
(2*) وهذا ما تجسده روايات "الزلزال والعشق في الزمن الحراشي في شخص بولرواح ومصطفى وغيرهم.
(37)- إزدواجية أيديولوجية البورجوازية ص: 8 واسيني الأعرج ص: 42.
(38)- واسيني الأعرج ص: 43.
(39)- رواية الزلزال ص: 41.
(40)- راجع واسيني الأعرج، اتجاهات الرواية الجزائرية.
(2)- (1)- الرواية ص: 9.
(2)- المصدر السابق نفسه ص: 9.
(3)- المصدر السابق نفسه ص: 10.
(4)- فيصل دراج ص: 218.
(5)- المرجع نفسه ص: 218.
(6)- المصدر السابق ص: 10.
(7)- مرجع فيصل دراج ص: 220.
(8)- الرواية ص: 10.
(9)- الرواية ص: 275.
(10)- فيصل دراج: دلالة العلاقة الروائية ص: 216.
(11)- المرجع نفسه ص: 217.
(12)- الرواية ص: 38.
(13)- المرجع السابق ص217.
(14)- الرواية ص107.
(15)- الرواية ص104، 105.
(16)- فيصل دراج ص: 223.
(17)- دلالات العلاقة الروائية ص: 224.
(18)- الرواية ص: 106.
(19)- الرواية ص: 108.
(20)- الرواية ص: 220.
(21)- الرواية ص: 221.
(22)- الرواية ص: 222.
(32)- الرواية ص: 222.
(24)- واسيني الأعرج، اتجاهات الرواية الجزائرية، م، س، ص:15.
(25)- الرواية ص: 225.
(26)- الرواية ص: 222.
(27)- واسيني الأعرج: االطاهر وطار وتجربة الكتابة الواقعية ص:
(28)- الرواية ص: 109.
(29)- الرواية ص: 66.
(30)- الرواية ص: 16.
(31)- الرواية ص: 70.
(32)- الرواية ص: 43.
(33)- الرواية ص: 46.
(34)- الرواية ص: 47.
(1*) العشق والموت في الزمن الحراشي اليت هي امتداد للرواية الأولى "اللاز"، وتكتمل الأحداث برواية الزلزال
(35)- الرواية ص: 226.
(36)- واسيني الأعرج، تجربة الكتابة ص: 42،43.
(2*) وهذا ما تجسده روايات "الزلزال والعشق في الزمن الحراشي في شخص بولرواح ومصطفى وغيرهم.
(37)- إزدواجية أيديولوجية البورجوازية ص: 8 واسيني الأعرج ص: 42.
(38)- واسيني الأعرج ص: 43.
(39)- رواية الزلزال ص: 41.
(40)- راجع واسيني الأعرج، اتجاهات الرواية الجزائرية.
(41)- الرواية ص: 50.
(42)- الرواية ص: 46.
(43)- الرواية ص: 46.
(44)- الرواية ص: 46.
(45)- الرواية ص: 106.
(46)- الرواية ص: 106.
(47)- الرواية ص: 107.
(3*) سنوضح ذلك بدقة في القسم الثاني من الدراسة.
(48)- الرواية ص: 106.
(49)- واسيني الأعرج، المرجع السابق ص: 41.
(50)- الرواية ص: 107.
(51)- واسيني الأعرج، المرجع السابق ص: 51.
(52)- المرجع نفسه ص: 52.
(53)- واسيني الأعرج، اتجاهات الرواية الجزائرية ص: 506.
(54)- الرواية ص: 270.
(55)- الرواية ص: 257.
(56)- الرواية ص: 272.
(57)- الرواية ص: 257.
(4*) راجع أجهزة الدولة الأيديولوجية.
(58)- للاستفادة يراجع لوي التوسير أجهزة الدولة الأيديولوجية. عن. د. محمد بدوي الرواية الجديدة في مصر ط 1 1993 المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت ص: 189.
(59)- فيصل دراج ص: 226.
(60)- الرواية ص: 273.
(61)- فيصل دراج، دلالات العلاقة الروائية ص: 225، 226.
(62)- واسيني الاعراج، اتجاهات الرواية العربية في الجزائر ص: 489.
(63)- المرجع السابق عن شكري غالي، الرواية العربية في رحلة العذاب عالم الكتب القاهرة ط1، 1971 ص:14
(5*) العشق والموت في الزمن الحراشي ط2 الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982.
(64)- المرجع السابق ص: 489.
(65)- اتجاهات الرواية العربية في الجزائر ص: 518، 519.
(66)- الرواية ص: 14.
(67)- المرجع السابق ص: 54.
(68)- المرجع السابق ص: 522 عن شكري غالي " الرواية العربية في رحلة العذاب: مجلة الآداب البيروتية 2 مارس 1980 ص: 14.
(69)- الرواية ص: 27.
(70)- الرواية ص: 30.
(71)- الرواية ص: 31.
(72)- الرواية ص: 33.
(73)- الرواية ص: 33-34.
(74)- الرواية ص: 55.
(75)- الرواية ص: 55.
(76)- اتجاهات الرواية العربية في الجزائر ص: 527.
(77)- الرواية العربية الجزائرية ورؤية الواقع، عبد الفتاح عثمان ص: 114.
(78)- الرواية ص: 35-36.
(79)- الرواية ص: 39-40.
(80)- الرواية ص: 28.
(81)- الرواية ص: 29.
(82)- الرواية ص: 117.
(83)- الرواية ص: 112.
(84)- الرواية ص: 113.
(85)- الرواية ص: 115.
(86)- الرواية ص: 112-113.
(87)- الرواية ص: 129.
(88)- الرواية ص: 129-130.
(89)- (90) الرواية ص: 118.
(91)- الرواية ص: 118.
(92)- الرواية ص: 118.
(93)- الرواية ص: 141.
(94)- الرواية ص: 218.
(95)- الرواية ص: 219.