ثنائية الريف والمدينة في رواية" غدا يوم جديد " لعبد الحميد بن هدوقة

أ.د. عمار زعموش جامعة قسنطينة
بادئ ذي بدء أشير إلى نقطتين أساسيتين: الأولى أنه لا وجود لإبداع أدبي حيادي يكون فوق الصراع الدائر حوله، ذلك أن الكتابة الأدبية التي تعني الامتلاك المعرفي لمجمل ما ينتظم الإنسان من ضرورات حركته التاريخية الصاعدة توجب الانحياز إلى ما هو جدير بالحياة سواء أكان ذلك بطريقة مباشرة أم غير مباشرة.
أما الثانية أن أغلب الروائيين الجزائريين قد أولوا أهمية لثنائية الريف والمدينة في بناء أعمالهم الإبداعية، وذلك من الناحيتين الفنية والمضمونية، باعتبار الرواية أكثر الفنون ارتباطا بالواقع وبالرؤى الاجتماعية والسياسية و الاقتصادية والثقافية. والواضح أن توظيف الكتاب للثنائية قد عرف تباينا كبيرا بين مرحلتي السبعينات والتسعينات، حيث نجدهم في المرحلة الأولى قد ركزوا على الريف باعتباره الأساس في بناء المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومن ثم كانت معظم الأحداث الروائية تدور في الريف وحول آفاقه المستقبلية، وكان دور المدين آنذاك ينحصر في الكشف عن مواقف الكتّاب ونظرتهم للتغيرات الاجتماعية التي تعرفها الجزائر يومئذ، لذلك غالبا ما اتسمت نظرتهم للمدينة بالرفض والتشاؤم وعدم الانسجام مع الحياة فيهان في الوقت الذي نجد رؤيتهم في المرحلة الأخيرة قد تغير وأصبح الريف رمزا للتخلف ومصدرا للفوضى والإرهاب. وأمام ذلك تحاول هذه الدراسة الوقوف على عند هذه الظاهرة من خلال كتابات ابن هدوقة. واللافت للنظر في دراسة أعمال عبد الحميد ابن هدوقة عامة وروايته " غدا يوم جديد " خاصة، هو اشتغاله على " ثنائية الريف والمدينة ". بوصفها تعكس مبدأ التقاطب أو الثنائية الضدية التي تسهم مع العناصر الفنية الأخرى في الإيحاء بالأبعاد الدلالية الخفية للنص، ومن ثم التعبير عن رغبة الكاتب الملحة في التغيير والمعرفة، والكشف عن توتر العلاقة بينه وبين الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، هذه العلاقة التي أصبحت تعد عند الكاتب المعاصر نوعا من محاولة التجاوز لوعي الواقع، الامر الذي يدفعه إلى التعبير برؤية مجازية مقتضبة، لذلك فإن توظيف الريف والمدينة في العمل الروائي لا يكون بمثابة ديكور أو رسم له بعض المعالم والتضاريس بل لهما عضويتهما الحية الممتزجة مع الشخصيات والأحداث داخل الرواية، فهما لا يذكران كضرورة موضوعية يتطلبها الحدث أو الشخصية فقط، وإنما لما لهما من دور وظيفي يؤديانه من خلال بعديهما الحقيقي الواقعي والمجازي الرمزي. ولأن
الأستاذ أحمد شريبط سبق له وأن تناول في دراسة قيمة" بنية الفضاء في رواية غدا يوم جديد" مركزا على الفضاءين الريفي والمديني فإني سأتجاوز ما تناوله في تلك الدراسة لأكتفي بطرح بعض التساؤلات التي بدت لي وأنا أتناول القضية في دراسة عامة.
والوقوف عند هذه الرواية فرضته اعتبارات عدة لعل أبرزها ما سبق لي أن أسميته بــ"الانهزامية" التي طبعت بميسمها حياة المجتمع كلها تقريبا خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، الأمر الذي أدى بالكاتب إلى الإحساس بفشل مشروعه المستقبلي وفقدان دوره التاريخي، فتداخلت الأزمنة داخل تجربته الشعورية واختلطت، فغدا الامس كما تقول مسعودة الشخصية الرئيسية في الرواية "هو الأمس ونبحث عن غد فنجده في الأمس". فالكاتب يرى " أن الأحداث المستجدة عندنا وعند غيرنا تريني الغد رهيبا، ولو أني لست من أهل الغد ..! إنني خائفة لاأعرف كيف أصور لك خوفي! أشعر كما لو أن البحر أخذ يطمو أعلى فأعلى حتى بلغ مشارف الأبيار ! تصور المدينة وقد طما عليها الماء ! إنها حالة رهيبة فما بالك إذا طما عليها الحقد ! .. أود أن أبتعد عن هذا الحاضر المضبب إلى ذلك الماضي إلى ذلك الماضي النير الوضاء ". إنها صورة قائمة ومرعبة أحسب أن من يقف على مثلها إلا ويشعر بأزمة نفسية حادة وبنار تتأجج بضراوة وقوة، كيف لا والخطر الذي يهدد جزائر الغد هو هذا الحقد الذي أخذ ينمو والذي لا يمكن أن نجني منه غير صوره البشعة والمؤلمة، لذلك كانت رحلة الكاتب في هذه الرواية نحو استعادة الماضي الريفي الذي كان يبدو في الظاهر أنه انطوى، وذلك هروبا من الحاضر المديني المجدب الرديء.
والماضي المستعاد بالنسبة لعبد الحميد بن هدوقة ليس هو ذلك الماضي المرتبط بالحياة الريفية المتسمة بالبساطة والذي يسمح له بالتفكير واعتزال الحياة الواقعية وإقامة مقابلة بينه وبين الحاضر الراهن من ناحية وبين الريف والمدينة من ناحية أخرى مسايرة للمألوف والسائد في أغلب الكتابات الروائية حيث يصنف الفضاء حسب طبيعة القيم المستثمرة فيه، فالمدينة رمز للظلم والعنف والغربة في الوقت الذي يظل فيه الريف رمزا للبراءة والتعاون والألفة والمحبة غير مدركين لما طرأ عليه من تحولات وتغيرات، وإنما هو ذلك الماضي الذي يمكنه من تقييم مسيرة الجزائر بعد الاستقلال وما آلت إليه، تلك المسيرة التي أفرزت مجموعة من القيم أحدثت تصدعا في البنية الاجتماعية الأمر الذي جعل الكاتب يتساءل في حيرة على لسان رجل المحطة وهو يحدث الراوي عن قصة قدور في السجن قائلا: " ألم
يخطر ببالك يوما أننا ركبنا في محطة الاستقلال قطارا غير الذي كان ينبغي علينا أن نركبه". وأمام هذا التساؤل الصريح والمباشر ألا يحق لنا قراءة الرواية وفق هذا التصور، وبذلك تغدو تلك الأفضية والأمكنة المادية المحسوسة المتمثلة في الريف والمدينة ومحطة القطار مجرد ملجأ يحتمي به الكاتب للتعبير عن موقفه تجاه قضايا واقعه الراهن؟ ألم يصرح الراوي على لسان مسعودة قائلا: " أتحدث عن أشياء وأريد أخرى! إنها مرحلة من هذه المراحل التي تزهدك في أحب الأشياء إليك " ، كيف لا وهو الذي يقول في صفحة أخرى: " أبقي أسماء الأشخاص والأشياء ، وأغير الأحداث والأزمنة بالحلم، تحديا للحقيقة ! " . كل ذلك وغيره ألا يدفعنا إلى قراءة مغايرة لما في الظاهر، لاسيما وأن الأدب كما هو معروف مبني على لغة المفارقات.
وانطلاقا مما سبق ومن محتوى الرواية نجد المدينة التي تحدث عنها الكاتب في عمله الروائي تعود من الناحية الزمانية إلى الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن العشرين يوم أن كانت مدنا كما يقول: " للأجانب وكنا فيها نحن الأجانب. أتذكر القصبة يوم أن كانت ممرات للأغنام والبحارة الأجانب. يوم كان دورها محارب ومقابر ومعاهر ..." تلك المدينة ( مدينة الجزائر) المستعمرة كانت " في خيال القرويين قصورا واسعة الأرجاء من قصور ألف ليلة وليلة، أو من قصور سيف ابن يزن، التي بنتها له الجن ! بل هي أجمل.
ما حكى عنه القرويون الذين زاروها لا يصل إلى تصويره أشد الخيالات تحليقا. الحرمان الذي يحيى فيه الناس، والبطالة، والفخر، وإضافات اللاحق للسابق عن المدينة، كل ذلك نقلها من واقعها الجغرافي إلى واقع أسطوري لا مستحيل لموجود فيه! ". ومن ثم غدت المدينة حلما لسكان الريف بقراه ومداشره، وكان الكل يسعى ويتمنى الهجرة وينتقل إليها حتى يتخلص من معاناته في الريف. لقد كانت المدينة كما يقول الكاتب " حلم كل امرأة .. حلم النساء والرجال ". ولأن الكاتب كما سبق أن قلنا يريد التعبير عن الواقع الراهن الذي آلت إليه الجزائر بعد الاستقلال والذي أصبحت صوره لا تختلف في كثير من جوانبها عما كان في الثلاثينيات، فقد جعل الحلم يتخذ مسارا آخر فيتجه كما يقول: " شهدت البارحة في التليفزيون صورا لجموع من الشبان المصطفين امام القنصلية الفرنسية في قسنطينة لست أدري منذ كم من ساعة ولا كم من يوم للحصول على التأشيرة. فتساءلت: التأشيرة إلى أين؟ تمنيت حينئذ لو شاهدت بدل أولئك الشبان رؤساء الأحزاب الخمسين .. تمنيت أن لو كانوا هم المصطفين أمام القنصلية الفرنسية أو أي قنصلية أخرى. إنهم هم الذين أوصلوا أولئك الشبان للبحث عن الهجرة إلى الـــ .. لا مكان! هم الذين كانوا بصورة أو بأخرى في الحكم! لا أولئك الشبان المساكين ". فماذا يريد أن يقول الكاتب؟ ما العلاقة بين هجرة الأمس الريفية إلى الحلم المديني وهجرة اليوم الهروبية - إن جاز لنا تسميتها بذلك - إلى اللامكان؟ هل ارتحل الحلم مع رحيل الاستعمار أم أن في الأمر شيئا آخر؟.
إن المدينة التي كانت في عهد الاحتلال حلما لكل الجزائريين الذين كانوا يعيشون في الريف والتي تصفها مسعودة بقولها: " عندما دخلت المدينة لأول مرة نزعت حذائي الجبلي الغليظ، حذاء (البيرني) المسمر. كان طريق المدينة عندي ألين منه. أتذكر أيضا أنني لم أنم الليلة الأولى حتى آذان الفجر. ضوء الكهرباء فتنني! قدور نام نوم الأموات كنت أتخيل الأنبوبة تنظر إلي. تغازلني! يا إلهي! كم كانت السعادة قريبة من قلبي كنت أراها في زخرفة جدار، في أنبوبة كهرباء، في محبس زهور، في حبة موز، في زجاجة عصير، في واجهة دكان، .. كنت أراها في الأعين التي تقبل وجهي أو مكونات أنوثتي ولا تنصرف بسرعة! لآن ما بقي من كل ذلك ؟ "
ماذا بقي من مدينة الأحلام؟ ألم تعد مثلما كانت في الثلاثينيات رمزا للتمدن أو التحضر؟ هل تبخر الحلم واندثر مع ركوب القطار في المحطة الأولى؟ حقا لقد صارت كما يقول الكاتب على لسان مسعودة: " المدينة التي حلمت بها لم تكن سوى زيف! ما اخترعه أهلها لم يسعدهم إنما زاد في شقائهم. وضعوا الأغلال في أعناقهم وسموها قوانين قتلوا الأطفال قبل أن يولدوا باسم التوازن السكاني. قتلوا الأطفال بعدما ولدوا باسم الأمن! بنوا المساجد وزخرفوها باسم الدين والناس ينامون بالعراء... المدينة ليس حلما. إنما كابوس أضواؤها كلها اصطناعية زائفة، كل ما فيها مجند لاغتيال الأحلام. الفكر فيها يبحث عن أدهان لتزويق الضحالة.المستقبل فيها هو الغذاء والعشاء والأفلام الأمريكية! ".
تلك هي الحياة الجديدة التي اغتالت حلم مسعودة رمز حلم الفقراء والمساكين، فلم يبق أمامها سوى الرحيل والعودة إلى الريف الذي انطلقت منه ذات يوم باحثة عما سماه بعضهم بالعدالة الاجتماعية، لقد انطلق قطار الاستقلال في المرحلة الأولى بدونها، " ذهب القطار وترك الناس المساكين يعودون إلى مداشرهم، أين أنت يا مدينة الأحلام والرجال؟ يصلك القطار هذه المرة فارغا، قدور أخذه الدرك ومسعودة هاهي تمشي وراء رجل أجنبي اسمه الحاج أحمد ". إن كان ما يخيف مسعودة " هو عدم الذهاب إلى الجزائر إلى الحلم ! كانت المدينة هي الحلم أنا أيضا حلم ، حلم لغيري ن هل رأيت حلما يبحث عن حلم "، لكنها اليوم بعد أن كادت المدينة الحلم، تتحول إلى حقيقة إلى واقع تعيشه، تكتشف أن ذلك الحلم لم يكن سوى سرابا ووهما، وأن الرحلة أو المسيرة قد انحرف قطارها، وأنها لن تستطيع تحقيق حلمها، لذلك هاهي تعود إلى الريف لعلها تتخلص من معاناتها " قل له أني لست في المدينة من يريد أن يعرفني لن يجدني فيها إني هناك، في الجبل الأحمر .. حيث الأشعة تتجدد والروح تزداد ارتفاعا عن ملذات تثقل ولا تريح .. " .
هكذا تبخرت الأحلام والطموحات ن وانكشف زيف التمدن، فجاءت مرحلة الاستفاقة والندم التي دفعت بالكاتب إلى الاتجاه نحو تعرية الواقع والكشف عن أسباب المأساة. وان يتمكن من ذلك إلا بالعودة إلى الأصل إلى الريف وإلى مرحلة الثلاثينيات وبداية الاستقلال إلى المحطة التي نشب فيها الصراع أول مرة بين قدور ورجل المحطة. كيف لا وصدمة التقاء الريف بالمدينة كانت مؤلمة " من ذا كان يتصور أن نوفمبر العظيم يلد أكتوبر؟ تلك أخطاء الأمس، ظننا الحرية توحد بيننا كما وحدنا الخوف " ، لكن " أكتوبر أنطقني أكوام الزجاج التي ملأت الأنهج، أدخنة الغازات والسيارات والبنايات المحترقة، أزيز الرشاشات والبنادق والدبابات ذكرني في 11 ديسمبر، وأياما أخرى ... لكن دماء أكتوبر سلت في الشارع الذي بنته الرذيلة والنسيان ! دماء ديسمبر سالت في الحلم الأخضر ! ذلك هو الفرق ! لا بد أن لا تنسى هذا أكتوبر أنطقني أقول كل شيء ثم أذهب إلى مكة أغسل عظامي وأيامي ". إنها صرخة احتجاج دامية تطرق أبواب أحلامنا بعنف ، فتفجر الصمت فينا فيكون نذيرا لما آلت إليه حياتنا " أقول كل شيء كل شيء حتى ما لا يقال لا بد أن يعرف أبناء القطن لماذا كسر الزجاج، زجاج الواجهات، أبناء القزدير. لابد أن يعرفوا ما عانته جداتهن الموشمات ! بنات القطن يستحيين الآن بنا وجدن أمامهن ما شئن من مساحيق التجميل والتطرية يملكن المال لشراء الزيف ! نحن كنا لا نملك حتى الخبز ! الوشم لا يزول، يذكرك في شبابك إلى الأبد، ترسمه مرة فيما يرى و ما لا يرى من جسمك، ثم تنتهي من التجميل يوم القيامة ". تلك هي صرخة عقم الحاضر التي تكشف عجز الكاتب عن مواجهة حقيقة مسعودة التي اختارها قدور زوجة له بدلا من خديجة التي خطبها ثم اضطر إلى تطليقها بعد أن اكتشف تعلقها بمحمد بن سعدون واطلاعه على مضمون الأغنية التي كانت فتيات القرية يتغنين بها
آه يا لعوده الزرقاء اشربي من رأس العين
مـــولاك مــــحمد ركــبوك ناس آخرين
والواضح أن تسمية الشخصيات الروائية لم تتم بطريقة جزافية وإنما خضعت لعملية انتقاء تماشيا مع مضمون العمل الروائي والغاية التي يهدف إليها الكاتب، وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فإن الشخصيات الروائية في رواية " غدا يوم جديد " تصدر عن تلك الثنائية المتضادة فكريا وإيديولوجيا، وتوحي بأبعاد دلالية تدفع القارئ إلى التساؤل عن تلك العلاقة القائمة بين شخصيات الرواية من ناحية، وبين الريف والمدينة من ناحية أخرى، والتي تتولى بدورها الكشف عن رؤية الكاتب للواقع الراهن ولمرحلة ما بعد الاستقلال .
إن ربط مسعودة بقدور واسم خديجة بمحمــد بن سعدون منذ صغرها، وحصر قصة خديجة في " قصة الدشرة في الثلاثينيات " ، كل ذلك يفتح المجال واسعا للتأويل، ذلك أن خديجة من حيث الاستعمال الحقيقي هي ككل الفتيات تتطلع إلى حياة أفضل من حياة الدشرة إلى حياة المدينة، وكانت كما يقول الكاتب: " إن وجهها لم تفارقه البسمة إلى أن قتل محمد ! عندئذ تحولت إلى امرأة أخرى تماما، كأن حيتها انتهت، وبدأت تحيا حياة الآخرة ! "، ومحمد لم يكن حلم خديجة وحدها ، كان حلمنا جميع، قدور لم يقتله "، فارتبط وجود خديجة الرمزي في الرواية بقدور الذي خطبها أول مرة وكاد أن يتزوج بها لولا حدوث بعض المنغصات التي جعلته يكتشف أنها لا تمثل نموذج المرأة الذي يتطلع إليه والذي يمزج بين الصفات الأصلية والوافدة بما يتلاءم ومثاليات المجتمع وتطلعه، لأن التقاليد خنقت حرية خديجة وتطلعها إلى المستقبل من خلال الوشم الذي طرأ على وجهها فأصبح كما يقول الراوي: يمثل " ميثولوجية ذلك الماضي السحيق وأخاديد الكبت الذي عرفته المرأة على تعاقب الأجيال .. خديجة لن تذهب إلى المدينة بوجه من ورق أبيض، ستذهب بوجه مكتوب يحدث الناس عن أحلام القرية الماضية .
لكنها إن صارت مدينية لدى سكان الدشرة فإن المدينة لن تنسى لها قرويتها سوف تفكرها دائما بذلك. سوف يكون الوشم ورقة تعريفها القروية التي لا تبلى. هي أيضا بعدما تمر فترة الانبهار بأنوار المدينة سوف تتذكر أنها قروية وتعتز بذلك، وسوف يذكرها وجهها الموشوم إن نسيت ذلك بانتمائها في كل لحظة من لحظات عمرها. الوشم الذي في وجهها سيكون هو ماضيها المصاحب لها الذي لا خلاص منه " . وكما هو واضح فإن علاقة خديجة بقدور قامت على النقيض، مما جعل استعمال الفضاء الريفي مربوطا بطبيعة القيم المستثمرة فيه، وأن الكاتب يهدف من وراء ذلك الإشارة إلى التقاليد وإلى الإسلام خاصة، الذين اعتبرهما قدور من معوقات التمدن والتحضر . لذلك نجده قد غير اتجاهه نحو مسعودة بدلا من خديجة . وكان هذا الاختيار كما يبدو من محتوى الرواية أنه من أسباب مأساة الجزائر ، وذلك لتشبع مسعودة بأفكار ورؤى الآخر التي عملت على انسلاخ الجزائر من ماضيها، اتقادا منها أن ذلك يعوض سنين التخلف والاستعمار. لقد أعدت مسعودة للقيام بذلك الدور، فهي تقول واصفة عملها عند الزوجين الفرنسيين: " عندما أسكناني الزوجان الفرنسيان الشقة الجديدة تيقنت في قرارة نفسي أن ما يحكى عن النصارى من أنهم قساة لا يرحمون، ليس إلا كذبا. قلت: إن القساة الحقيقيين هم نحن العرب !
علمتني تلك الفرنسية كل شيء: كيف آكل، كيف أشرب، كنت من قبل عندما آكل أملأ فمي حتى لا استطيع تحريك فكي! علمتني أن لا أملأ فمي. وإذا شربت أن لا أمتص الماء ولا أبلعه حتى لا يحدث صوتا .. علمتني كيف أجلس، كيف أمشي. كنت عندما أجلس أتربع، قالت لي لا تفعلي ذلك. إنه جلوس سيئ لا يلائم المرأة .. علمتني كيف أنام، كيف ألبس، كيف أتجمل، كما علمتني آداب السلوك أن لا أضحك عاليا ولا أتكلم بجهر، باختصار علمتني حياتي هذه التي جعلت مني لأما لوزراء ! " . هؤلاء الوزراء الذين تعترف صراحة أنهم ليسوا أبناء قدور " أبنائي آباؤهم ليسوا قدورا ماعدا الشهيد ". ابني الشهيد ، أبوه قدور . هو الوحيد الذي أعرف أباه . أقول كل شيء ! أكتوبر أنطقني ! أكتوبر الجزائر .. كنت أراه قبل أن يصل ! الأطفال الذين ولدوا بالرغم من آبائهم ، لا يمكن أن يسكتوا إلى مالا نهاية . الأطفال الذين ولدوا في الأكواخ القزديرية التي بنتها لهم قصور الاستقلال ، لا يمكنوا أن يسكتوا إلى مالا نهاية ،. ماذا يهمهم أن تقع أحجارهم على زجاج سيارة أو إدارة أو عمارة .
أقول كل شيء واذهب إلى مكة لأغسل عظامي "
تلك هي قصة مسعودة رمز حلم الفقراء ومحرمي الريف وهي إذ تستعيدها اليوم تهدف إلى ممارسة عملية التعرية والمكاشفة، ولتعلن أن "جميع المسحوقين تقاسموا آلامها جميع الأشقياء مثلي ومثل ، أغرتهم أحلام زرقاء وخطب خضراء في سنوات الجفاف ! القصر الذي نحن فيه الآن لم يبنه عرق بنائي أو شقائي بنته بنادقه . البنادق هي التي تبنى في الشعوب الملعونة ! أشعر بالهو . أحتقر نفسي في هذا القص . عيناي تشرفان على مدينة ما زالت أطرافها أكواخا " . فالتقاء الريف بالمدينة لم يزد الحياة إلا عــــذابا و بؤسا، حيث وجدت مسعودة عاجزة عن تبليغ رسالتها التي جاءت من أجلها إلى هذه المدينة التي حاصرتها الأكواخ. ن أحداث الرواية ودلالاتها تدفعنا إلى طرح أسئلة كثيرة لكنها تبقى دون إجابة على الأقل في هذه القراءة السريعة لثنائية الريف والمدينة التي حاول عبد الحميد بن هدوقة أن يطرحها لأول مرة بتصور جديد يسعى من ورائه إلى تجسيد الصراع الآني الذي يتنازعه نموذجان: نموذج متشبث بالماضي عن قناعة وإيمان راسخ بأحقية هذا الماضي وقدرته على إنقاذ المجتمع من التخلف ومن هيمنة الآخر، على الرغم من إدراكه بأن ذلك الماضي لم يعد مؤهلا للقيام بذلك. ونموذج يتوارى وراء شعار الوطنية ولكنه يعمل على تحقيق ما عجز عنه الاستعمار من خلال استبداله بالانتهازية والاستغلال، وهو ما يؤكد استمرار الصراع باستمرار المتناقضات. والكاتب إذ يحاول تجسيد جانبا من ذلك الصراع يهدف إلى الكشف عن الوضع الراهن و الازدراء منه، نتيجة إحساسه بضياع لقيم التي تحولت عن طبيعتها، الأمر الذي دفع به إلى البحث عن مهرب أو مسرب يخلصه من إحساسه بفشل مشروعه، الذي أصبح هو أيضا عاجزا عن مواجهة الواقع من غموض واضطراب في الرؤية. ومن ثم كان الريف بمثابة الملجأ والملاذ لمواجهة الموت بكل تناقضاته، إذ يلخص رؤيته في قوله: " لو سألتني من تحب ؟ أقول لها: حلما.أضاع أحلامه !
لو سألتني : ما الزمن ؟
أقول لها : شريط فارغ ، قبل قصتك !
لو سألتني : كيف كانت اليقظة ؟
أقول لها : مرة !
لو سألتني : كيف كانت قصتي ؟
أقول لها: الطريق الذي أوصلني من الدشرة إلى المدينة صار أدغالا يعمره قطاع الأحلام !
لو سألتني: أين تحيا ؟
أقول لها: في المدينة والرأس مازال قرويا . والقرية اندثرت !
لو سألتني: وما جنت به عليك المدينة ؟
أقول لها: اعتدت على شرف طفولتي كما اعتدت على شرف شبابك القروي! أصبحت ثيبا - واعذرني - بدون زواج ! وأصبحت أنا زوجا لامرأة لا أدري من تكون !
وأقول لها: أصبحت- واعذرني - أروقة لممارسة الفاحشة عن براءة وطهر روحي ! وأصبحت أنا سوقا سوداء . أبيع الكلمات .
( من يشتري الكلمات ! من يشتري الكلمات ! ) " .
ذاك هو مضمون الرواية ومفتاح قراءتها، فالقرية أو الدشرة أو ما اصطلح على تسميته بالريف تمييزا لها عن البادية أو البداوة التي غالبا ما تشير دلالتها إلى ذلك المجتمع الذي ما يزال لم يعرف الاستقرار المكاني، خلافا لما يتسم به مجتمعا الريف والمدينة من استقرار بمراكز عمرانية، ويبقى الاختلاف والتمايز الحاصل بين الريف والمدينة مرده اختلاف النشاط الاقتصادي السائد في المدينة عنه في الريف أو القرية وكذلك التفاوت في أساليب الحياة. حيث يكاد يتفق اغلب الدارسين على أن التمايز يرتبط أساسا بالبنية الاقتصادية، فإذا كان النشاط الاقتصادي للمجتمع لا يعتمد على الزراعة فإنه يمكن تصنيفه ضمن المجتمع المديني الذي غالبا ما يوصف بسمة التحضر سواء كان معتمدا على نشاط صناعي أو تجاري أو خدمي أو غير ذلك. لذلك كثيرا ما ارتبط التغير الاجتماعي لأهل الريف أو القرية أو الدشرة بالتنقل والهجرة إلى المدينة وإقامتهم فيها والاندماج بمجتمعها والاستفادة من الخدمات العامة ومن مزايا التحضر. غير أن تلك الإغراءات الجميلة الآسرة التي تقدمها المدينة للقادم إليها حتى تغويه فيصعب عليه مقاومتها سرعان ما تكشف له عن خفاياها التي ترغم النازح على التخلي عن كثير من قيمه، وتجبره على التكيف مع الوضع الجديد. إلا أن الكاتب عبد الحميد بن هدوقة في هذه الرواية لم تكن المدينة ولا الريف مكانا محددا يؤطر الأحداث وفق المنظور الروائي التقليدي، إنما هما أبر من ذلك حيث تتحول المدينة في العمل الروائي إلى قضية ذات أهمية لبعدها المضموني الرمزي. إنها ليست مكانا بقدر ما هي فضاء واسع يعكس الواقع الراهن للمجتمع الجزائري، ومن ثم وجدنا الكاتب لا يولي أهمية لوصف الأمكنة من الناحية الهندسية أو الفيزيائية، وإنما ينتقل بشكل سريع مما و فيزيائي إلى ما هو اجتماعي، والحال نفسه مع القرية التي ترتبط مع الكاتب بعلاقة حميمية فهي تعيش كتجربة في مخيلته و ذاكرته وفكره وشعوره ولا شعوره، مما يجعل الريف في روايته يكاد يتحول إلى أسطورة متجذرة في أعماقه لكن يبقى توظيفه للثنائية مرتبطا بالرؤية الفكرية التي يريد التعبير عنها، وهو الكشف عن أن مسعودة كرمز للتمدن ولرؤية اجتماعية عرفها المجتمع الجزائري في زمن الحرية والاستقلال خلال السبعينيات فشلت في رفع الغبن والشقاء عن المجتمع الريفي. ومن ثم سعى إلى تعرية الواقع الراهن اعتقادا منه أن في المكاشفة تطهيرا للنفس ورغبة للتخلص من ملذات الحياة، وأن ذلك يتحقق بالعودة إلى الدين، إذ يقول: " حلمي كان اسمه حينئذ المدينة ! الآن اسمه:
مكة، ثم رحلة إلى الآخرة ! رحمة ربي واسعة " . لذلك اتجه نحو التعرية "أريد تعرية كاملة لحياتي أمام الناس هي عريانة أمام الله. إذا شتمني الناس أو لعنوني وهم يقرأون قصتي فذلك سيخفف من ذنوبي إن شاء الله أريد أن يكون حجي كاملا، يغسل عظامي وروحي. لا أريد أن أحج مثل حجاج ( التراباندو).. " . غير أن صدمته كانت كبيرة وهو يتابع الأحداث التي عرفتها بعض أقطار العالم العربي الإسلامي خلال التسعينيات مما جعله يتساءل على لسان مسعودة " لا تؤاخذني ، ما أقوله أن يعدو أن يكون قصة عجوز أرادت أن تحج فإذا الأيام تقول لها: إلى أي مكان؟ وإذا صوت المعري يعبر القرون والسدوم فيصل جديدا :
( وما حجي لأحجار بيت كؤوس الخمر تشرب في ذراه) " .
لعله يمكن القول إن هذه الرواية تعبر وبشكل واضح من خلال ثنائية الريف والمدينة عن الحالة النفسية للكاتب من السنوات الأخيرة من حياته، وتعكس مواقف أدبية صارخة ومنددة بالوضع الذي آلت إليه الجزائر من تخلف وجهل وأمية وبؤس وتباين طبقي، فهو كما يقول: " إنني حزينة ! لا على شبابي، لأني لم أعرفه. شبابي لم يكن لي. كان للرجال الذين اغتصبوني وضحكوا على (كرمي) الساذج البريء. إنني حزينة على مكة وحجاجها ن على بغداد وسكانها، على الجزائر وشوارعها. حزينة من هذا ا(لإسلام) الدموي الذي يريد إزالة الحياة من الوجود ليحيا الناس مباشرة في الآخرة كمجرمين ومن هنا فإن وجود ثنائية الريف والمدينة في رواية " غدا يوم جديد " لم تكن الغاية منها تقديم صورة وصفية، وإنما التعبير عن رؤية الكاتب في ظل يصدر منها في جل اعماله الإبداعية. وهي الدفاع عن كل ما هو جميل وأصيل وبسيط.
ينظر : ( بنية الفضاء في رواية غدا يوم جديد ) : شريبط أحمد شريبط . مجلة الثقافة. ع . 115 / 1997 . ص 141.
ينظر : " غدا يوم جديد من الإدراك إلى الانهزامية " ضمن كتاب : أعمال الملتقى الوطني الثاني 3 الادب الجزائري في ميزان النقد". معهد اللغة والأدب العربي ، جامعة عنابة 1993 .ص. 98.
غدا يوم جديد : عبد الحميد بن هدوقة . منشورات الاندلس ، الجزائر 1992 . ص . 253.
الرواية . ص . 180
الرواية . ص . 296 .
الرواية . ص . 179 .
الرواية . ص . 121 .
الرواية . ص . 122
الرواية . ص . 129 .
الرواية . ص .94 .
الرواية . ص . 296 .
الرواية . ص . 16.
الرواية . ص . 206 .
الرواية . ص .48 .
الرواية . ص . 229 .
الرواية . ص . 206.
الرواية . ص . 20 .
الرواية . ص . 14 .
الرواية . ص . 16.
الرواية . ص . 120 .
الرواية . ص . 119.
الرواية . ص . 119
الرواية . ص . 132.
الرواية . ص . 176.
الرواية . ص .10.
الرواية . ص . 13.
الرواية . ص .15.
الرواية . ص . 166.
الرواية . ص . 15.
الرواية . ص . 19.
الرواية . ص . 254.