تحليل سيميائي لرواية الصحن للكاتبة سميحة خريس

الدكتور رشيد بن مالك جامعة تلمسان
2.4 قراءة في الدراسات النقدية حول رواية "الصحن":
إن هذه الرواية التي تشكل قفزة نوعية في السرد العربي المعاصر تثير أسئلة عديدة حول إيحاءاتها الدلالية والمقاربات المنهجية الكفيلة برصد آليات اشتغالها وذلك لامتناع النص عن البوح بمكنوناته بشكل تقريري، وتداخل هيئاته الساردة وانتقالها من هيئة إلى أخرى دون سابق إنذار على الرغم من تصميمها على الزحف في دهاليز النص لرواية ما حدث لإلهام ومراد وأستاذ التاريخ وحنان وآخرين. ولفهم كل ذلك، سيقتصر بحثنا على قراءة دراستين حول هذه الرواية. تهدف الدراسة الأولى للباحث محمد عبد الله القواسمة إلى قراءة الرواية من خلال العنوان (2). أما الدراسة الثانية التي أنجزها الباحث حكمة النوايسة، فإنها موسومة بـ "الحلم والواقع": قراءة في رواية "الصحن" (3).
تطرح الدراسة الأولى إشكالية الاقتراب من العنوان وإشكالية قراءة النص السردي. إن القراءة عموما تنهض على فعل تأويلي يحتكم إلى إجراءات تحليلية بهدف إعادة بناء المعاني وربط بعضها ببعض وتبيان أثرها العام والخاص استنادا إلى اختيار مستوى معين (4). من هذه المنطلقات، نلاحظ أن الباحث لم يبرر اختياراته المنهجية والموقع الذي شيد عليه قراءته في العنوان التي أفضت به إلى إصدار أحكام على النص: "نخلص بعد استنطاقنا عنوان رواية سميحة خريس وتعيين تموضعاته في النص أنه حمل إشكالية الرواية، فأبان عن رواية لا يتحقق فيها الانسجام بين عناصرها، ولا الترابط في نسيجها، ولا تستند أحداثها إلى المنطق والعقل، وبدت شخصياته وهمية تتناسل بطريقة فانتازية، وأماكنها غامضة معتمة، وأزمنتها غير واضحة". إن هذه الأحكام التي لا تغادر دائرة النقد التقليدي متنافرة مع القراءة بوصفها مفهوما يرتهن في وجوده إلى القفزة النوعية بإحداث القطيعة مع الإسقاطات الذاتية والانطباعات التي لا تنسجم مع الممارسة النقدية التي تنهض على قراءة متأنية نفترض منذ البداية أن النص إذا بدا غامضا وصعب الإدراك على القارئ، فإن ذلك راجع إلى قصور أدواتنا النقدية ونعني بذلك افتقادنا إلى كفاءة علمية جديرة بالتأسيس لقراءة تأخذ في الحسبان تنوع المنظورات التي تسخر لتأويل ظاهرة نصية معطاة (5). وإذا دققنا النظر في رواية "الصحن"، فإننا نلاحظ أن النص ينبري لرفع تحدي القارئ. فهو لا يسمي الأشياء بأسمائها. ولو كان الأمر كذلك لانحدر الخطاب الأدبي إلى مستوى الكلام العادي. إن الرواية في شموليتها تحتكم إلى تنظيم وسببية حديثة وتتناسل شخصياتها بشكل منطقي جدا. ويمكن أن نبرر ذلك مثلا في الأحداث التي سردها الراوي بخصوص إلهام التي تساعد في بداية الرواية الفنان في موازنة التمثال فوق الدرج الصاعد وتفضي هذه المساعدة إلى اشتياقها للحديث معه، فتقرر ولوج صومعته لتحقيق رغبتها في الظفر بهذا الشاب، تنشأ حميمية بينهما تتوج بعلاقة جنسية ولكن سرعان ما تتوتر الأجواء لانشغاله بتماثيله وإقصاءها من عالمه، فتنسحب من حياته على وقع أمنية مقهورة بمستقبل تحيا فيه حياة سعيدة في أحضان رجل يحبها وتحبه. تنتظم هذه القصة وفق هذا التسلسل، ويكفي أن نحذف منه أو نضيف إليه عنصرا ليختل توازن هذا الانتظام المشيد على افتقار إلهام إلى المنظر الجميل الذي يمارس سلطته بالفعل الإغوائي. إن قيمة العنوسة مبنية سلفا على القيم القبيحة التي تطفو على مسحة وجهها وتبدأ تتشكل من بداية النص على نحو ما نلحظ ذلك في الملفوظ الآتي:
"غير مؤهلة لعبارات الغزل" (6)
نعتبر عبارات الغزل فعلا تأويليا ينهض أساسا على الجانب المرئي الذي يعرض على المؤول بوصفه ملاحظا يقدم وجهة نظره لتقويم موضوع معين من خلال قيمتي /القبح/ و /الجمال/ وانطلاقا من نظام خلاقي محدد يحتكم إليه أفراد المجتمع في أثناء عملية التقويم. ينبغي أن نشير هنا إلى أن هذه القيم نسبية ويتحدد مضمونها الدلالي وتتحدد عبره نظرة هؤلاء إلى الموضوع. قد يكون القبيح جميلا والجميل قبيحا. انطلاقا من المعطيات النصية، فإن حنان جميلة وقبيحة في الوقت نفسه. فهي قبيحة من منظور منير والشخصيات التي أتيحت لها فرصة النظر إليها أو التفكير في تحقيق وصلة بها، وتأتي عنوستها كمحصلة تسربت عبرها المقاييس الشائعة في تقييم الجمال والتي تصرف العيون في الشارع عن الانتباه إليها. يمكن أن نرصد على المستوى الخطابي مسارا تتحدد من خلاله الصور الآتية:
"ابنة غامضة نصف معتوهة" (7)
""تفتقر إلى الجمال بمقاييسه الشائعة" (8)
"وجه قبيح" (9)
"فجعه قبحها" (10)
يحيل المضمون الدلالي لهذه الصور على تقييم مشيد على ظاهر الأشياء الذي يشكل نقطة ارتكاز لاغتصاب حق هذه الفئة الاجتماعية في الحياة. ومع ذلك، فإنها تعودت أن "تتقبل مكانتها كما هي دائما" (11)
وهي جميلة على الرغم من قبحها من منظور والد الفنان الذي تخترق نظرته ظاهر سحنتها لترتقي بها إلى جمال روحها:
"إنها محبوبتي الكاملة" (12)، "نادته روحها" (13)
بناء على الملاحظات السابقة، نلاحظ أن إلهام في هذه الرواية تتأرجح بين عالمين متمايزين. عالم يحيل على الانقباض والبرودة والموت تحكمه قيم مادية تجسد في علاقة إلهام بمنير وأستاذ التاريخ وعصبة الشيطنة وعالم يحيل على الحياة يتسم بالبراءة والنور والسمو الروحي سعت إلهام إلى تحقيقه مع منير ففشلت في ذلك فشلا أدى إلى حدوث اضطرابات نفسية وانهيار عصبي كاد أن يعصف بحياتها لولا الصمود الذي أبدته على خلفية صحن يشع بالنور والأمل بمستقبل واعد. حتى نفهم حقيقة ما جرى، سنعمد الآن إلى دراسة عنوان الرواية الصحن مركزين على أهم المعاني الحافة به من بداية النص الى نهايته.
1.2.4 سيميائية العنوان:
1.1.2.4 الخلفية النظرية لدراسة العنوان:
أثارت دراسة عناوين النصوص السردية اهتمام الباحثين منذ مطلع السبعينيات. ومن ضمن البحوث المتميزة والرائدة التي عنيت بهذه المسألة ولو بشكل عرضي، نذكر الدراسة التي قام بها رولان بارث R.Barthes في كتابه (سارازين وزانبينيلا) (14). فهو يلاحظ مند البداية أن العنوان يثير سؤالا ولا يمكن أن تفهم إيحاءاته الدلالية إلاّ بربطها بعالم النص. وانتهى في نهاية قراءته إلى صوغ أجوبة على الأسئلة التي يثيرها العنوان. من هذه المنطلقات، يمكن أن نشير إلى أن العنوان لا يملك وجودا مستقلا. فهو يتصدر النص ليحفز ويغري القارئ أولا وليقول ثانيا شيئا ما عن النص. لا يمكن أن يحقق النص قيمته التواصلية في افتقاده إلى عنوان نعتبره هويته والسمة التي تميزه عن أقرانه. فالنص ينزاح عن هؤلاء ويتفرد بهذه السمة. ويرجع الفضل في تأسيس علم العنونة إلى كلود دوشي Claude Duchet الذي أفرد بحثا مستقلا حول المبادئ الخاصة التي تتحكم في العنونة الروائية(15). وينظر إلى العنوان على أنه العنصر الأول الذي يظهر على الغلاف بوصفه إعلانا مكثفا، إشهارا، كلاما معسولا على النص(16). من هذا المنطلق، تحرض الباحثتان كارولين ماسيرون Caroline Masseron وبريجيت بتيجان Brigitte Petitjeanالقارئ على ضرورة البدء، في أثناء التحليل، من هذه الوظيفة الإعلانية ومن العلاقة بين العنوان وما سيلحق. ولتحقيق هذه البغية، تتبنيان خطتين. الأولى استشرافية تعتبر العنوان نموذجا مولدا ومرتكزا لقراءة النص. أما الخطة الثانية، فإنها استعادية تنظر إلى النص على أنه "آلة لقراءة العنوان"(17). ولئن كان العنوان كلمة النص، فإنه يشكل اسمه. إنه ينزع بشكل من الأشكال إلى إضفاء هوية مفترضة على النص(18).
من الواضح أن البحوث حول عناوين النصوص السردية كثرت وتنوعت ورافقها أيضا تنوع في مناهج التحليل. وقد صاغ الباحث جوزيب بيزا كمبروبي Josep Besa Camprubi بعضا من هذه المناهج في إطار رؤية جديدة تأخذ في الحسبان الوظائف الأساسية للعنوان التي تتوزع على النحو الآتي(19):
- الوظيفة التعيينية
- الوظيفة الميتالسانية
- الوظيفة الإغراقية
إن الوظيفة الأولى التي تهدف إلى تحديد العنوان بوصفة اسما لمؤلف تتعلق بإسناد تسمية من دون أن يحدث في ذلك أي التباس عند القارئ. ومن الواضح أنه قد يحث ألا يؤدي العنوان الوظيفة التعيينية المناسبة عندما تشترك مجموعة من المؤلفات في عنوان واحد.
أما الوظيفة الثانية، فإن العنوان يتحدث من خلالها عن مضمون النص.
وفي نهاية، إذا كان للعنوان وظيفة إغرائية فلأنه يعمل على استمالة القارئ وإثاره فضوله.
ويعد العنوان أول نقطة تلاقي القارئ والنص، والمحطة الأساسية التي ينشط فيها فكره ومخيلته نشاطا قد ينقله إلى أجواء روائية قد يتوقع طبيعتها فتملكه حينئذ رغبة حادة في اختراق هذه الأجواء والاطلاع عن كثب على ما يجري في هذه الرواية من أحداث. وقد يتصدر الرواية عنوان يحيل على مجموعة من معان لا يربطها رابط بحيث تثير السؤال عند القارئ الذي لا يقف عند حقيقتها إلا بعد انتهائه من قراءة النص. في هذه اللحظة تنشط ذاكرته وتفكيره ويبدأ ببناء معاني السياقات التي ورد فيها العنوان أو بعض من أجزائه إذا كان طويلا. وتقوده هذه العملية الوقوف عند الرابط الذي يوحدها من حيث القواسم المشتركة لمختلف المعاني المسجلة، فيحتفظ بها. وقد لا يطمئن إلى مبررات وجوده. فيبحث عن سبيل آخر وتعليلات أخرى إلى مبررات وجوده، فيبحث عن سبيل آخر وتعليلات أخرى يمكن أن تعزز التخريجات التي انتهى إليها وهو يفحص مضامين النص الأساسية. وذلك للأهمية التي تكتسيها.
2.2.4 قراءة في عنوان الرواية
1.2.2.4 التجليات الدلالية للصحن من خلال قصة إلهام
من الواضح أن عنوان رواية الصحن لا يتوقف عند مستوى المعنى المعجمي. فهو من ناحية يحف بمعاني يلقاها القارئ في المعاجم، ويمد من ناحية ثانية بظلاله على مضامين لا يمكن أن نفهمها إلا من خلال السياقات النصية. إن الصحن يملك سلطة توجيه القارئ إلى عالم النص. في حضور العنوان وغياب النص، يلقي القارئ نفسه أمام احتمالات دلالية يصعب عليه ربطها بهذا المسار الدلالي أو ذاك. وهو في جميع الحالات مقتنع اقتناعا يكاد يكون كليا بان الصحن فضلا عن المعاني الحرفية التي يمكن أن تتسرب عبره، سيشكل عنصرا أساسيا في النص كباقي الشخصيات التي تتصارع من أجل تحقيق وجودها. ويكفي يظهر الصحن أكثر من مرة واحدة في النص، لنتأكد من أن قراءة هذا العنوان مرهونة بعملية بناء معانيه من داخل النص. وهذا ما سنقوم به أثناء معاينتنا للصحن عبر كل المحطات النصية التي ظهر فيها.
يمكن أن نسجل أول ظهور للعنوان في الملفوظ السردي الآتي:
" إنها تريد أن تأكل بصحبته فقط، لطالما رأت الحلم التي ظنته مضحكا في الماضي، حين كان العالم يتراءى لها صحنا كبيرا واسعا يفيض بالحليب، وتبدو هي مجرد هرة صغيرة ناعمة تلعق السائل الدافئ بمتعة غربية.."(20)
ينتصب الصحن في هذا الملفوظ في اللحظة التي بدأت العلاقة بين إلهام ومنير تتوتر بفعل انشغاله عنها بتماثيله، وفي اللحظة التي لقيت نفسها مضطرة لرأب الصدع وتحقيق الوصلة الغرامية بمنير. وحتى توفر الأجواء، فإنها تنتبه مباشرة إلى "المتعة الغربية" التي حققتها لها في الماضي، عبر الحلم، القيمة الاستهلاكية للحليب. إنها تستعيد هذا الحلم وما يحمله معه الحليب من دفء وحنان ومتعة رغبة منها في إسقاطه في حاضر شعرت بأنها افتقدت إنسانيتها فيه وأصبحت المعادل الطبيعي للتمثال. وإذا كانت ترغب في الأكل معه بصحبته فقط، فلأن الصحن يعد الفضاء الوحيد الذي يخرجها من محترف منير ويخلصها من تماثيله الباردة. من هنا، فإن الصحن يشكل الفضاء الوحيد الذي يجسد قيمة الألفة والحياة والسخونة أيضا. وحتى نفهم حقيقة هذه القيم المسجلة في أثناء قراءتنا، سنرقى إلى مستوى سردي آخر ننظر من خلاله في مبررات نزوع إلهام إلى هذه القيم ورغبتها في الانتقال من وسط الدار إلى عالم الصحن:
1 "ولكنها باتت تظن أن استغراقه بفنه يحولها إلى التحفة الوحيدة من لحم في محترفه"(21)
2 "لربما كان بإمكانه أن يصير رجلا، بشرا فقط"(22)
3 "تبخرت قداسة حجرته(...)، هكذا صارت الحجرة مجرد مساحة عادية تنتمي إلى أثير المكان، حجرة في عمارة ينحرها التعود والضجر"(23)
4- "أما هو، فمنصرف بأنامله إلى تمثاله، تظنه أنه سينتبه، هكذا، دون أن يلفت أحد انتباهه، أحد"(24)
- "يستبقها هنا على أريكته المريحة بانتظار أن يفرغ من عشقه المجنون بالحجر، عليها أن تراقب بإعجاب تام حبيبها وهو يعانق هوى آخر"(25)
5 "المرارة تناسب في حلقها"(27)
6 "لست تمثاله الحي"(28)
7 -" ولكنها اختنقت في عش الغرام المكتظ بعيون التماثيل الميتة"(29)
-" كان عليها أن تثبت له أنها كائن حي"(30)
-" كيف لها أن تلفت انتباهه إلى وجودها المفعم بالحياة هنا داخل محترف التماثيل الخانق
هذا؟"(31)
-" وهو كعادته يعانق تمثالا"(32)
8 "ولكنها تدرك من أي وقت مضى أنها لن تتزوج معتوها مثله يعشق ذاته والحجارة"(33)
9 " لن تتزوجه ولن تستمر زائرة معبده"(34)
10 "كانت تشعر بفرح ليتحرر من إدمانه"(35)
إذا فحصنا عن كثب هذه الملفوظات نلاحظ أنها ترصد العلاقة المتوترة بين إلهام ومنير. إن درجة التوتر بينهما تعد محصلة طبيعية لإقصائها من عالمه. لقد نسف انغماسه في برنامج النحت كل إمكانية من إمكانيات التواصل بها. وتظل العناية الكبيرة يوليها إلى فنه معطى ثابتا على نحو ما نلحظ ذلك في الحقل المعجمي الآتي:
استغراقه بفنه (1)الاتصال الوحيد بينهما يتم على المستوى المرئي.
منصرف بأنامله إلى تمثاله (4)
عشقه المجنون بالحجر(4)
يعانق هوى آخر (4)
وهي ترقبه متعبدا في صنعه التماثل (4)
وهو كعادته يعانق تمثالا 7
تعكس القيم الدلالية لهذه الوحدات العلاقة الحميمة بين الفاعل منير وموضوع رغبته الذي يمارس عليه سلطانه ممارسة تحركه للانصراف إليه وإلى عشقه المجنون والتعبد في صنعته. إن هذا الارتقاء في التعامل، من العشق إلى التعبد مع صنعه التمثال تقدمه إلهام من الموقع الذي تحتله في فضاء الأريكة وبوصفها ملاحظة لكل تحركات منير. فهي تلاحظ أولا وتؤول ما يعرض عليها ثانيا. إن الاتصال الوحيد بينهما يتم على المستوى المرئي. ويشتغل هذا الاتصال في اتجاه واحد ومن زاوية نظر إلهام. على المستوى التلفظي تتقدم إلهام بوصفها لافظة. فهي تنظر وتسجل ما ترى وتعرب عن رأيها وموقفها من مضمون هذا المشهد الذي يحركه منير. ويتخذ هذا الموقف مظهرين يظهر الأول في إدراك إلهام أن توحد منير بتمثاله توحدا أفضى إلى العشق المجنون والعبادة ينخرط في مشروع يعمل منير من خلاله على إقصائها من عالم الممارسة الفنية وإحباط كل محاولة تسعى من خلالها إلى رأب صدع وصلتها الغرامية به. وهذا ما يفسر الصمت الذي يخيم على المحترف. ويمكن أن نعتبر هذا الصمت رسالة واضحة نجحت إلهام في فك شفرتها من خلال شعور قادها إلى الاقتناع بأنها انحدرت من مستوى الإنسان إلى مستوى الجماد وأن منير شيأها في محترفه وجردها من إنسانيتها (يحولها إلى تحفة1). ويمكن أن نلمس المظهر الثاني في رد فعلها من موقف منير في العبارات الآتية:
" الملل الذي يعتريها" (4)
" المرارة التي تنساب في حلقها" (5)
" ولكنها اختنقت" (7)
" محترف التماثيل الخانق" (7)
يعترى إلهام اضطراب كبير يتسلل عبره الملل، وهو فتور يعرض للإنسان من كثرة مزاولة الشيء(36)، فهي مستلقية على الأريكة يقتصر نشاطها على النظرة المكرورة إلى المشهد المألوف وتتسرب من خلاله أيضا مرارة الحلق وانعصار(37) يؤدي في جميع الحالات إلى الموت. وصلت إلهام في هذه اللحظة السردية إلى درجة التناقض القصوى. ذلك أن إقصائها من عالمه يعد رفضا يفقدها الأمل في التخلص من شبح العنوسة الذي ما انفك يطاردها على الرغم من أمها ضحت من أجله وخرقت الواجب الاجتماعي بوصفة قيدا يمنعها من الدخول إلى محترفة. إن مجرد بقائها في المحترف الذي تحولت فيه إلى عنصر ديكور أقل قيمة من التماثيل الذي يتفنن منير في صناعتها دون أن يلفت أحد انتباهه، أحد(4) يعتبر إهانة ورسالة صريحة لا تلقى إلهام مشقة في تأويلها. ابتداء من هذه اللحظة، بدأت إلهام تفكر في مصيرها وفي الوضع المتردي آلت إليه، ويمكن أن نلمس في هذا التفكير بوادر مشروع يهدف إلى إحداث فصلة عن منير، ويتجلى ذلك بشكل واضح في الملفوظ الآتي:
"لست تمثاله الحي"(6)
إن عملية النفي هنا تكتسي أهمية بالغة لأنه يعد بمثابة انقلاب في الوضعية الإستراتيجية لإلهام إزاء مشروع منير الهادف إلى تجريدها من إنسانيتها. إن امتلاكها القدرة على رفض عالم منير وتماثيله سيمكنها من الخروج التدريجي من السلطة التي كان يمارسها عليها والدخول التدريجي في عالم تسترجع فيه إنسانيتها المفقودة.
- "كان عليها أن تثبت له أنها كائن حي"
يمكن أن نلاحظ في هذا الملفوظ أن الراوي يدرك أن إلهام تملك الوسائل الحجاجية التي تمكنها من إقناعه بأنها لن تعد ذلك التمثال الحي الذي يتشكل وفق رغبة منير. يقر الراوي هنا أنها امتلكت، في وقت مضى، هذه المعرفة التي ستنقلها من دائرة التماثيل الميتة إلى دائرة الكائنات الحية. ومع ذلك، فإنها لم تستطيع استغلال الفرصة لوضع حد لمعاناتها في الوقت المناسب على الرغم من أن سلطة الواجب انتصبت لصالح التغيير. إن وجوب القيام بهذا الفعل تراجع لاضطرابها بين حب يخلصها من عذاب العنوسة والتخلي عن منير. من هنا فإن الحب ارتقى إلى منزلة عمت بصيرتها فظلت تعيش على وقع أمل معلق وأضحت التساؤلات بدون جواب:
" ولكنها تدرك من أي وقت مضى أنها لن تتزوج معتوها مثله يعشق ذاته والحجارة"(8).
" لن تتزوجه ولن تستمر زائرة معبده"(9)
" كانت تشعر بفرح التحرر من إدمانه" (10)
نلاحظ أن إلهام في هذه الملفوظات تمارس، على الصعيد المعارفي، فعلها التأويلي على علاقتها بمنير وهو فعل مبني على قناعتها بأن الحياة معه غير ممكنة. وقد استطاعت إلهام بهذا القرار أن تضع حدا لآلامها. نلمس ذلك على الصعيد التيمي بتعبيرها عن الشعور بفرح التحرر من إدمانه.
بهذا التحليل نكون قد وقفنا عن بعض الأسباب التي جعلت إلهام تصدر قرار الانتقال من عالم منير ومتحفه إلى عالم الصحن. وعلى الرغم من صعوبة القرار الذي اتخذته والقاضي بضرورة إحداث فصلة عنه وإقصاء كل إمكانية عقد علاقة شرعية معه إلا أنها تعود من جديد وتتراجع عن هذا القرار بإتاحة فرصة لمنير لتعويض ما فات أولا ولفك حصار التماثيل عنه، ثانيا، بنقله من المحترف إلى الصحن عبر الأكل والشرب:
"لكنها تريده هنا بشرا حقيقيا يأكل ويشرب"(38). لن يقوى قرار إلهام في الابتعاد عن منير أمام هذه الرغبة الجامحة المفترضة في توحدها به، وهذا ما نلمسه في عملية تحريها عن الدراق ثم الصحن بوصفة فضاء تستثمر فيه قيمتين: استهلاك الدراق "الذي يمتلك خاصية مثيرة"(39) والتوحد بحبيبها. إن السياقات النصية التي بدأت تعمل بشكل تدريجي على رسم الحدود الدلالية للعنوان أضحت تتعدد وتتنوع لتنحو نحوين متمايزين ومتجانسين يجسدها الصحن من ناحية والدراقات التي ستوضع فيه من ناحية ثانية. إن الدراق الذي يحمل قيمة استهلاكية يأتي في الامتداد الطبيعي للحليب لم يظهر في النص نتيجة لرغبة إلهام في اشتهائه واستهلاكه. وقد جاءت ولادته في النص بالمصادفة عند الدكان عبر الاتصال البصري واللمسي. ولئن كان الدراق يملك القدرة على الإغراء والإثارة، فإنه بذلك يحرك النفس لاشتهائه تحريكا سيكون له نفس الوقع في نفس حبيبها. وعليه، فإن مسألة حبها لهذه الفاكهة أو نفورها عنها غير مطروحة أصلا. وقس على ذلك مسألة جهلها ميل حبيبها إلى الدراق أو عزوفه عنه. من هذا المنطلق، تسعى إلهام إلى تحريك مواضيع القيمة لا من حيث تحقيقها المتعة ولكن من حيث قدرتها على إغراء منير وتحريك انفعاله وإثارة مشاعره بهدف إخراجه من عالم يفتقد إلى الدفء الإنساني. أضحى الصحن موضوع تحري إلهام وهاجسا يشكل مركز اهتمامها: "الأنسب أن تضع دراقاتها في الصحن، ليس أي صحن، كانت هناك عشرات الصحون في بيتهم(...)
والأطباق القديمة إرث أمها التي حملت في طرفها رسما منمنما لروميو وجوليت في وضع رومانسي، هناك طقم من الصحون الصينية الفاخرة جاءت به زوجة شقيقها مع جهازها عندما كانت عروسا، يمكنها أن تضع دراقاتها الناضجة في أي من هذه الصحون"(40). وعلى الرغم من أنه بإمكانها أن تكتفي بأي صحن من عشرات الصحون التي تمتلكها في منزلها أن تكتفي بأي صحن من عشرات الصحون التي تمتلكها في منزلها، فإنها مع ذلك مصرة إصرارا كبيرا على الظفر بصحن يتوافق شكله مع ما تريد أن تضفي عليه من قيم. إن القيمة المركزية التي ينبغي أن يتسم بها الصحن لا تلقى لها إلهام أثرا في هذه الصحون. حتى الرسم المنمنم لرميو وجولييت في وضع رومانسي لم يحرك نفسها ولا يحرك نفس حبيبها تحريكا يخرجه من عالمه ويدخله في عالم إلهام. قس على ذلك الصحون الصينية الفاخرة. كل هذه الصحون الفاخرة والجميلة ليست جديرة باحتواء الدرقات الناضجة ولا تملك القدرة على الإثارة والإغراء. أضحت القيم الجمالية للصحن تشكل هاجسا مركزيا لإلهام وشكلا لم تحدد بعد لا ملامحه ولا طبيعته. وهذا ما يفسر الضبابية التي تتسرب عبر رؤيتها لهذه الموضوع والتي تشكل في جميع الحالات عائقا يصعب عليها معرفة طبيعية القيم التي ترغب استثمارها في الصحن بهدف تحريكها لإثارة وإغراء منير وتحريره من عالم الفن وبرودته ولربطه بعالمها(41). ومع ذلك، فقد استطاعت إلهام تجاوز العقبة بالوقوع على الصحن المناسب بالمصادفة: " ولكن الصحن في الرف الأعلى من دكان البقال استوقفها، أشارت نحوه كالمنومة، وامتدت يد البقال تقرب الصحن باتجاهها، بدا انبهارها، كان الضوء ينبعث من الصحن بصورة غريبة، الزجاج المضلع جمع الأشعة القليلة من زوايا الدكان المعتم وكثفها في قعر الصحن، ولأن عينيها وشتا بانبهارها، ولأن البقال جارهم الأمين منذ الأزل، فإنه وجد لزاما عليه أن يصرح لها بأن الصحن ليس حقيقيا.
إنه صحن ينتمي إلى حلم ما، حلمها هي أن يأكلا كغزالين بريين في صحن النور الذي سرق شعاع الشمس كله له وحده دون الصحون الأخرى الأغلى ثمنا والأرفع قدر(42).
يحتل الصحن في هذا المقطع السردي موقعا متميزا. ويستمد تميزه من اختلافه عن الصحون الأخرى وقدرته على حمل إلهام على التوقف والنظر. إن هذا الاتصال البصري بفعل احتكاكه بالصحن ولد حالة تأثرية مناظرة لتلك التي تحدث في أثناء التنويم المغنطيسي. أضحت كالمنومة تستجيب بشكل آلي للسلطة التي يمارسها عليها الصحن. لقد فقدت توازنها بفعل دهشتها وحيرتها من أمر صحن يملك قدرة عجيبة في غمر الناظر إليه بالضوء: "بدا انبهارها، كان الضوء ينبعث من الصحن بصورة غريبة". وعلى الرغم من أن الصحن من الزجاج العادي ووضيع القدر ورخيص الثمن، فإن إلهام حرصت على شرائه للتأثير العجيب الذي سيحدثه في منبر. فهي ترغب في أن يكون الصحن بهذا الشكل، ليس حقيقيا أي أن ظاهرة لا يعكس كينونته. وهو ظاهر يملك في جميع الحالات سلطة إغرائية تشتغل على الصعيد المرئي. في هذه اللحظة السردية تحتل إلهام موقع الفاعل المحرك. إنها تعمل كل ما في وسعها لحمل منير على الانخراط في رؤيتها إلى الحياة والالتحاق بعالمها. إن انبعاث الضوء من الصحن وما يحدثه من انبهار وغرابة سيبعث بأشعته في اتجاه الدراق ويعمل على تجلية الإثارة والإغراء. هكذا حققت إلهام من دون أن تعمل حسابا لذلك فعلا مشيدا على سلطة تستمد وجودها من الصحن والدراق. يتحقق فعل هذه السلطة في اللحظة التي يقع فيها اتصال منير البصري بهذا العام الذي صنعته إلهام ورغبت في أن يكون بديلا للمحترف.
" لم ينتبه لشعاع الشمس الخارج من قلب الصحن، ولا إلى استدارة الدراقات التي لم تكتمل، ولا اشتهى قضمة، ولأنه بدا متعجبا، وربما مشمئزا، فإنها لم تدعه لتناول الدراق، تناولت بصمت واحدة، قضمتها وهي تنظر باتجاهه بحقد، واستدار هو بسرعة لتمثاله، منحها ظهرا باردا"(43). إن الفعل المضاعف الذي ظهرت تجلياته في تحريك إلهام لصور الإثارة والإغراء والضوء لحمل منير على الاستئناس لها والتوحد بها في فضاء الصحن لم يفعل مفعوله ولم يلق أية استجابة من منير ولم يكن كفيلا بإحداث تحول عقدت إلهام عزمها أن تجني ثماره في سبيل التخلص من معاناتها. ولئن افتقدت هذه الصور إلى القدرة على الإثارة على مستوى الاتصال البصري، فلأن تأويل منير لهذه الصور مشيد أساسا على تفطنة للعبة إلهام وإدراكه لإستراتيجيتها. لقد كان حبه للنحت والمحترف أقوى من أن يزعزعه ظاهر لا يعرف نفسه فيه. ومن ثم، فإنه نفى ظاهرا يقود حتما إلى علاقة تحرره من عالم يبرر علة وجوده: "لم ينتبه لشعاع الشمس الخارج من قلب الصحن، ولا إلى استدارة الدراقات التي تكتمل، ولا اشتهي قضمة". يأتي برنامج تأويل مراد في الاتجاه المعاكس تماما لأمنيتها في الاجتماع به. وينخرط في مشروع رفض البديل الذي تقدمه له. يتجلى ذلك بوضوح في وحدات معجمية تحيل مضامينها على نفوره من الدراق والصحن. إذا كان الصحن مسيج في إطار يتسرب عبره رد العلاقة إلى سابق عهدها به، فإن مراد يرفض الصحن لا لإيحائه للقيمة الاستهلاكية المنبعثة من النور ولا للخاصية المثيرة التي يتضمنها الدراق، بل لأنه قرر وبشكل نهائي كل ما من شأنه أن يشكل محطة عبور إلى عالمها والتلاقي بها. وبالتالي فغن الصحن ليس مرفوضا في ذاته بل لأنه يقود إلى قيمة التوحد التي تتنافر مع سلم القيم الذي يحكم عالم المحترف والتماثيل. ويتجسد تقويمة السلبي للعملية التنويمية التي أبدت رغبتها في ممارستها عليه على المستوى التيمي من خلال الشعور بالانقباض والنفور منها والاشمئزاز. يلمس القارئ هذا الشعور في الاستدارة بسرعة إلى التمثال ومنحها ظهرا باردا. تتقدم الاستدارة والبرودة كبديل للمواجهة الحميمة والسخونة التي تلقى مصدرها من الضوء المنبعث من الصحن الذي حركته إلهام لتحويل مجرى رغبته من التمثال إليها. قرأت غلهام هذا البديل على أنه جرح لكبريائها وإهانة لشخصها. إن لحظة الانتظار وما رافقها من الانشراح والتمتع باللقاء المرتقب بالحبيب والسعادة التي تتوقعها على إثر المفعول الذي سيتركه الصحن والدراقات في نفسه، إن كل هذه المعطيات مرتهنة في وجودها بعقد الثقة أو العقد الخيالي(44)إن صح التعبير الذي يبدو لإلهام أنه يربطه بها. ويبدو منير من جهته وما بدر منه من سلوك باردا تجاهها، ومقتنعا كل الاقتناع بأنه غير ملزم بهذا العقد وانه من محض خيالها. إن الصدمة التي تلقتها إلهام هي نتيجة ليقينها بأن هذا السلوك غير مبرر. ومن الواضح أن خيبة أملها الناتجة عن سوء تقديرها لما سيؤول إليه موقف منير هي في الواقع أزمة ثقة ترجمتها إلهام على المستوى التيمي بشعورها بالحقد تجاهه من ناحية وبصب جام غضبها، من ناحية ثانية، على زوجة أخيها التي غيرت موضوع الصحن. ويمكن أن نسجل في هذا الموضوع السردي بروز مجموعة من الوحدات السردية التي تغطي معاناتها وحزنها وتعاستها:
" استجمعت فجأة كل أوجاعها، كانت تعرف أنها تتعمد نسيان كل الأفراح، كانت بحاجة إلى طاقة الحقد المختبئة وراء عشق عاصف كالذي عاشته"(45).
في هذا الملفوظ، تفقد إلهام توازنها في التخفيف من عنف صدمة تلقتها وحركت شريط ذكريات تتلاقى في الأوجاع التي آلمت بها. لم يسم الراوي مضمون هذه الأوجاع ويبقى القارئفي حيرة من أمره، هل هي أمراض أم تجارب أخرى فاشلة سابقة لتجربتها مع منير. ويكتفي بذكر هذا الاسم الجامع لكل الأمراض والتجارب المؤلمة التي أصابت إلهام. ويقابل تذكر هذه الاتراح تعمد نسيان كل الأفراح. إن نفي الرغبة في تذكر الأفراح يقع، على المستوى المعارفي، تحت سلطة معرفة إلهام في تسيير اللحظة الراهنة وفقا لإحساسها بعمق الجرح الذي لا يترك لها مجالا للتفكير في غير الألم والتجارب الفاشلة. من حق القارئ أن يتساءل إذا كان هذا التعمد في النسيان يعد شكلا من أشكال الوعي بصعوبة اللحظة الحاضرة وما يتخللها من أحزان تصرفها على النظر إلى الحياة حلوها ومرها في آن واحد وأن الإنسان في وجوده يتألم حينا ويسعد حينا آخر ويكون نتيجة ذلك التخفيف من حدة المعاناة، أم أنه قيد يسيجها في إطار ترضخ لقيمه الباعثة على الانقباض. ومع ذلك، وعلى الرغم من الصدمة العنيفة التي تلقتها من منير والذكريات الأليمة التي يثيرها الصحن وافتقاده إلى سلطته الإغرائية، فإنها تحتفظ به في الرف الأعلى من خزانة الملابس. وحتى نفهم الأسباب التي تقف وراء احتفاظها بالصحن وحرصها عليه، ينبغي أن نرتقي إلى مستوى آخر من النص لنعاين القيم الدلالية الجديدة للصحن.
"وأرى ستعجبه لعبة الشمس التي خبأت نورها في أضلع الصحن، وسيقول كأنه صحن من الماس"(46).
إن الإيحاءات الدلالية الجديدة للصحن في هذا الملفوظ تبقى مربوطة من ناحية بالحالات الشعورية لإلهام ومن ناحية ثانية بالتطورت الحديثة الناهضة على علاقتها بشخصيات الرواية. إن ابتعادها عن عالم منير وما يتضمنه من قيم سلبية يعد في حد ذاته مفتاحا لفك الشفرة الاجتماعية والعزلة التي فرضها عليها المحترف. وإذا كان الصحن في اللحظات الحاسمة من حياتها بدا وكأنه يفتح آفاق علاقتها بمنير على وقع أمل في استرجاع حبها الضائع، فإن هذا الأمل تبخر وظل الصحن شاهدا على حدث مأسوي وقع في العتمة ومضى. من هنا تأتي صورة النور المنبعث من الصحن لتعلن ميلاد أمل جديد وتبين الأشياء وتري الأبصار حقيقتها(47). وعليه فإن إلهام احتفظت بالصحن لا لتحرك الضوء المنبعث منه للتأثير في الحبيب أو إغوائه وصرفه عن عالمه ولكنها لتستأنس بأشعته وتؤول ما يعرض عليها لا من خلال ظاهر الأشياء بل للنفوذ إلى جوهرها. ولئن كانت القيمة الدلالية للنور لا تتجسد في التأثير على نحو ما رأينا ذلك في أثناء فحصنا لعملية تحريك الدراقات والضوء والتي باءت بالفشل فإنها ترتقي لتحرك كفاءة إلهام في تجربتها المستقبلية على مستوى القدرة لتبين الأشياء أولا وتحقق رغبتها ثانيا. ومن هنا، فإن صورة الصحن تحيل في هذا السياق الجديد على الاجتماع بالحبيب والتوحد به ثم تتوسع لتشمل الضوء الذي يعمل على تمييز حقيقة الأشياء عن باطلها. يحدث كل هذا في الإسقاطات المستقبلية لشعور إلهام الراهن والباعث على الانشراح تتوقع من خلاله وفي انخراطها في برنامج سردي مفترض عبر مخيلتها عقد علاقة بحبيب يشعل معها "قناديل الروح" ولا يترك لها وحدها "مهمة إحياء عتمته". إن انطفاء قناديل الروح في محترف منير، على الرغم من وجود النور في المحترف الذي لم يكن كافيا لخلق تكافؤ في موازين القوى بين إلهام ومنير، يعكس تجربة بفعل سلبية منير الذي لم يكن يهمه من إلهام سوى هذه المتعة المادية العابرة. وبمجرد مت تنطفئ هذه المتعة بانتهاء العلاقة الجنسية، فإنه يتنكر لكل شيء ولا يبذل أي مجهود في فهم آمالها وطموحها ورغبتها المشروعة في تشييد هذه العلاقة على أساس شرعي. إن اختلال الموازين بينهما رشح هذه العلاقة للانهيار وانسحاب إلهام من عالمه انسحابا استرجعت من خلاله حريتها المغتصبة ووجودها كإنسان: "اليوم أدركت أنها لن تعود إليه مجددا، فليذهب بأبيه وأمه حيث يريد إلى الجحيم، إلى مستشفى المجانين، الأمر لا يعنيها، العالم عبد أهوائه، وهي الآن حرة.. حرة"(48). في هذه اللحظة السردية، وعلى خلفية ثقة بالنفس وبوقائع سارة متأكدة من حدوثها وأمل متيقنة من عودته، تروي ما سيحدث غدا وكأنه يحدث بالفعل. على إثر هذه الانتفاضة الشعورية، وفي هذا الموضع السردي، تتحرك مجموعة من الصور/ إشعال/ البراق/(49) ذات السمات الدلالية المشتركة لتتوحد في النور المنبعث من قاع الصحن ومن شعلة قناديل الأرواح على وقع وصلة غرامية مقتنعة بحدوثها.
وبانتهاء قصة إلهام مع الفنان، نكون قد عاينا مختلف المواضع التي ورد فيها الصحن وأهم إيحاءاته الدلالية. بقي لنا الآن أن نفحص الوجه الآخر للصحن من خلال سياقات أخرى وأحداث(50) أخرى أيضا للوقوف عند دلالاته الأساسية.
2.2.2.4 التجليات الدلالية للصحن من خلال قصة هو وحنان
إذا كانت التجليات الدلالية للصحن ( في قصة الخاصة بإلهام) التي تتوحد لتحيل على/ الحياة/ مربوطة برغبة إلهام في تغيير نظام لا يعترف بوجودها كإنسانة، فإنها في قصة هو تنزع نزوعا مغيرا تعبر فيه شخصية جماعية عن رغبة في تكريس نظام يعمل على تثبيت قيم سلبية تنصهر في الموت. إن الراوي لم يقدم لنا التبريرات التي حركت فعل عصبة الشيطنة لتدمير الطفلة حنان بطريقة بشعة جعلت الصحن لا يكون معبرا إلى الحياة على نحو ما رأينا ذلك في تجربة إلهام بل إلى الموت، ومن هنا ينكشف الوجه الثاني للصحن الذي ترتبط معانيه بطبيعة البرنامج الذي تنوي عصبة الشيطنة تنفيذه. وحتى يقف القارئ عند المنحنيات التي سيأخذها هذا البرنامج، سنسعى في هذه المرحلة من البحث إلى تقييد الملفوظات السردية الأساسية التي تعكس من جهة علاقة بين عصبة الشيطنة وطبيعة القيم (الهبة) التي تستثمرها لتحقيق رغبتها، ومن جهة ثانية العلاقة بين هذه العصبة والصحن والطفلة حنان ورد فعلها من هذه الهبة القاتلة (المجدرة):
"دق كأس الشاي الزجاجي ببراعة، فحولة إلى مسحوق لامع، جارح، والعيون التي راقبته بفضول وشغف تحولات إلى أكف تصفيق وضحك الجميع وتسابقوا إلى خلط ذرات الزجاج المطحون بالمجدرة (...) كأنهم مدفوعون بهوس ما، ثم تباعدوا ضاحكين(...) استشرى الضحك والهتاف في أشد المواقف متعة وإثارة، و(الكبير) يقف مزهوا ويطلق سيلا من البول(...)، انهمر بوله في صحن المجدرة"(51).
يبدأ البرنامج السردي بإعداد موضوع قيمة وهو الوجبة الغذائية للطفلة حنان. يمكن أن تتوافق هذه القيمة عموما مع سد الحاجة أو تحقيق متعة ما. على هذا الأساس وبالنظر إلى المقطع (1)، فإن الأمور تكون عادية جدا لو توقفت المسألة المتعلقة بإعداد هذه الوجبة عند عناصر الأرز والعدس والبصل. إن خلط هذه العناصر بمسحوق الزجاج والتراب والبول، يخرج العناصر الأولى من إطارها الطبيعي وهو التغذية من أجل/ الحياة/ ويسيجها في إطار تتسرب عبره/ الموت/:
"حنان، الحمل الوديع، شاركتهم التمتع بحالها، نزت شفتاها دما، ولم تشعر، واصلت التهام المجدرة"(52). من الواضح أن هذه العصبة عبأت طاقتها للنجاح في هذا المشروع. وتتجلى هذه التعبئة في توزيع الأدوار على أعضاء العصبة الشيطانية. وكل واحد منها ينفد في إطار برنامج ملحق فعلا محددا وتلتقي هذه الأفعال في الوجبة الأساسية التي تقدم على الصحن بوصفة فضاء للاستهلاك. إن اختيار الصحن كفضاء يحقق فيه أداء العصبة الشيطانية مسخر في الظاهر وعلى المستوى الصوري لإقناع الطفلة أن كل شيء يقدم في صحن يجب أن يستهلك. ومن ثم، التهمت الطفلة ببراءة هذه الوجبة من منطلقات تأويل إيجابي لظاهر يعكس فعلا صدق نيتهم (كينونتهم) في إكرامها بوجبة تسد بها رمق جوعها. ويتوافق استحسانها لهذا الفعل مع التأويل الإيجابي: "شاركتهم التمتع بحالها واصلت التهام المجدرة والضحك". يلقي هذا التأويل الإيجابي مصدره في رد فعل العصبة من مشهد الاستهلاك وتحريك الصبية بالضحك وتشجيعها على التهام الغذاء القذر، والتصفيق تعبيرا عن رضاها بهذا السلوك. في هذه اللحظة السردية، يترسب على المستوى التيمي حقل معجمي تتماهى وحداته سيميا في الغبطة والسرور من هذا المنظر الذي يحيل على التقزز والاشمئزاز على نحو ما نلاحظ ذلك في العبارات الآتية:
" والعيون التي راقبته بفضول وشغف تحولت إلى اكف تصفق وضحك الجميع"(...) ثم تباعدوا ضاحكين(...)، استشرى الضحك والهتاف في أشد المواقف متعة وإثارة"(...) ضحكوا فضحكت"(53)
تحيل مضامين مفردات هذه العبارة على فرح العصبة الشيطانية وانبساطها وانشراحها، ويرقى هذا الشعور بالمتعة إلى أقصى درجة ممكنة من التعبير عن الانتشاء تصفيقا وضحكا وهتافا من مشهد يتسرب عبره الدم والموت والضحك أيضا:" نزت شفتاها دما"(1). بناء على هذا، نلاحظ أن عصبة الشيطنة تحرك الصحن لا لتسخيره كذريعة تستثمر من خلالها قيمة/ الحياة/ بل لإقصاء هذه القيمة وتثبيت/ الموت/. ومع ذلك تتصرف الصبية ببراءة وتتعامل مع الصحن وكأنه السبيل الذي يقود إلى الصفاء والمحبة الخالصة والحياة:
"خيوط الدم حول الشفتين تقولان عبر ضحكة صافية، بمحبة خالصة، أحبكم يا من تلعبون معي"(54).
تعبر هذا الملفوظ مقابلة أساسية:
موت عكس حياة
تعمل، من جهة، على تجلية الدم الذي يحيل على الجريمة والغدر والقتل والموت، ومن جهة ثانية، الضحكة الصافية، المحبة الخالصة واللعب. ترتقي وحدات هذا المشهد لترسم بوضوح درجة التناقض القصوى التي اندلق إليها الطرفان و تعكس في الوقت نفسه القيم الدلالية المستثمرة في الصحن: العصبة الشيطانية تحرك ظاهرا (الأرز والعدس والبصل) يجري مجرى القناع في هذه الوضعية، ومن منطلقات هذا الظاهر الذي يكرسه الصحن لا تفكر مطلقا بخطورته ولم تدرك بالملاحظة العناصر "المتبلة بالمؤامرة" والمضرة بصحة الإنسان (البول والزجاج المسحوق والتراب) التي تتخفى وراءه. وهذا ما قادها إلى التأويل الإيجابي لهذا الظاهر والاقتناع فعلا بصدق نية العصبة، وقناعتها بأن ظاهر هذا المشهد يعكس فعلا كينونة العصبة، وقد عبرت عن هذا بانشراحها من ناحية، والتهامها المجدرة من ناحية ثانية (ضحكت دون أن تتوقف عن ابتلاع طعامها). ولئن كانت الطفلة مقتنعة بأن مشهد ابتلاع الطعام تحول إلى لعبة تثير ضحك العصبة، فإنها لم تتوقف عن الهضم واللعب والضحك أيضا. ويمكن أن نقيد في هذا الموضوع السردي مجموعة من المفرادات المتزامنة مع هذا المشهد الذي يتوزع على حقلين معجميين يحيلان على ضحك الطفلة المتزامن مع الاستهلاك المتواصل للمجدرة:
الحقل الأول
" أكلت(...) ضحكوا، فضحكت، وبانت كامل لقمتها"(55)
"واصلت التهام المجدرة والضحك"(56)
"وضحكت دون أن تتوقف عن ابتلاع طعامها"(57)
نلاحظ أن الضحك في هذا الحقل يحتل مكانة متميزة، فهو ينزاح عن معناه الأصلي وهو التعبير العادي عن السرور من مشهد لا يكون موضوعه النيل من كرامة الإنسان ليلامس السخرية من الطفلة وهي تعبر عن فعل غير عادي يقود في جميع الحالات إلى الموت. الضحك هنا وصل إلى حد النشوة في تعذيب هذه الطفلة على نحو ما نلحظ ذلك في الحقل المعجمي الآتي:
"واصل الصغار الاستمتاع المريع"(58)
" استشرى الضحك والهاتف في أشد المواقف متعة وإثارة"(59) علا الضحك صراخ (60)
" ضحكوا حتى بكت عيونهم"(60)
إن الوحدات المعجمية الموسومة في هذا الحقل والمتواترة مبنى ومعنى تحكمها علاقة انضوائية (62) وتتقاطع دلاليا مع المتعة والإثارة المجسدين في مقولة/ الحياة/ التي يرتهن وجودها إلى مقولة أخرى(/الموت/) تعد محصلة طبيعية ندركها على المستوى السردي من خلال فعل عصبة الشيطنة المسخر لصناعة مشهد يمتع ويؤلم في الوقت نفسه. ويمكن أن نضبط المقولة الثانية في العبارة الآتية:
" نزت شفتاها دما(...) واختلط الدم بالأرز والعدس والبصل والبول والزجاج.. والتراب...(...) سال كله على صدرها تبقع فستانها بما سال على صدرها"(63).
إذا كانت مفردات/ الدم/ و/تبقع الفستان النظيف/ تثير شفقة الناظر وتبعث على الحزن (الموت)، فغنها أضحت عند العصبة تشكل مشهدا يثير المتعة والسخرية. من حق القارئ ان يتساءل عن مصدر هذا الفعل الذي يفوق أي تصور. هل هو انتقام؟ يكتفي الراوي بالقول "كأنهم مدفوعون بهوس ما"(64). وإذا الاختلاط والفساد، فإنه يعمل في الوقت نفسه على تجلية نظامها الذي انهارت قيمه. وبفعل هذا الانهيار، وصلت طريقة العصبة المتعبة في تعذيب الفتاة بانتشاء إلى أرقى درجة في السرور والانشراح. إن الارتقاء التدريجي من الضحك إلى الهتاف إلى الصراخ والتصفير ثم البكاء فرحا من منظر يبعث على الشفقة يجسد سادية العصبة التي تتلذذ بإحداث الألم لدى الطفلة. إن الشعور بـ /اللذة/ يشيد على التأويل الإيجابي لمسار مجدول على مراحل تظهر في الوحدات السردية على النحو التالي:
1 قرفصت حنان
2 أكلت 3 تغمس أصابعها في الصحن 4 وتعود بها ممتلئة إلى فمه 5 وبانت كامل لقمتها 6 مضغت 7 وبلعت 8 بلعت ولم تشتك.
تشكل هذه الوحدات برنامج استهلاك الفتاة للمجدرة. إن اللافظ يصف بدقة الأفعال التحويلية المنخرطة في برنامج التغذية الذي حركته العصبة بهدف التصفية الجسدية للفتاة. وتضطلع بتفاصيل هذه التصفية مجموعة من الأفعال تعمل على نقل الصبية من/ الحياة/ إلى/الموت/. إن الانتقال من القرفصة إلى تغميس الأصابع وتحضير اللقمة ووضعها في الفم ومضغها وابتلاعها يحرك في الجهة المقابلة وبانتظام مع الحركات الجسدية للطفلة عيون العصبة لتترقب المشهد الذي يحين على وقع ضحك يتحول إلى صراخ ثم هتاف مشجع ثم انتشاء. ويتكرر هذا المشهد بانتظام مع اللقمات الأحرى التي وضعتها الصبية في فمها. ومع استهلاك اللقمة الأخيرة وفي اللحظة التي بدأت فيها صحة الطفلة تتدهور والدم ينز من شفتها تكون العصبة قد وصلت إلى درجة عالية من الانتشاء.
وفي مقابل هذا النظام، ينتصب نظام آخر ليدخل معه في علاقة تضاد، إنه النظام الذي تنخرط فيه الفتاة لتعامل عناصر العصبة معاملة تتسم بالبراءة والطيبة والحب: "حنان، الحمل الوديع(...) البشر يغمر وجهها والامتنان يصافحهم واحدا واحدا"(65). ولئن كانت الفتاة تشاركهم التمتع بحالها، فإن هذه المتعة تختلف اختلافا جذريا عن متعة العصبة المتساوقة والمتواترة مع الضرر الكبير الذي ألحقته بها. إن إقامة التواصل الإيجابي لهذه الفتاة بالعصبة، ومن وجهة نظرها، مبني أساسا على عقد انتماني يضمن (في الظاهر) قيمة الموضوعات المبدلة. إن بنية التبادل محكومة من جهة بالغذاء (المجدرة في صحن) الذي تقدمه العصبة للفتاة ومن جهة ثانية بالجو المفعم بالحياة الذي توفره لهم. الفتاة تهب لهم الحياة والعصبة تطلب لها الموت في سياق يوحي لها بالحياة. إن ظهور الأم في هذه اللحظة السردية يضع حدا لبرنامج التغذية الذي حركته العصبة، ويحدث شرخا في المتصل الانشراحي للمشهد. إن قراءة الأم للمشهد قادها لإدراك ظاهر مضطرب بين ضحك يحيل على الانشراح ودم يحيل على الانقباض والموت. إن هذا التناقض في صلب الظاهر وبين الظاهر والكينونة والمفرز للمنظر المثير حملها على الاقتناع بخطورة المؤامرة التي دبرت لابنتها. وبقدر ما كان حزنها على ابنتها عميقا، كانت انتفاضتها الشعورية عنيفة. ويظهر هذا التناسب المطرد بشكل واضح في العبارات الآتية:
"فجأة ظهرت أمها، شهقت، وضربت على صدرها ضربة أحدثت ضجيجا أخافهم وكبح ضحكاتهم"(66)
هناك ظهرت أم حنان(...) معولة،
صارخة، شاتمة كل الأوباش(67)
" لم يشاهدوا من قبل لبؤة شرسة كهذه"(68)
إن صور الضربة المحدثة للضجيج والعويل والصراخ والشتم والشراسة البادية على الملامح الفيزيولوجية للأم تجسد غضبا نعتبره استجابة لانفعال وميلا طبيعيا إلى الانتقام لا لتعويض بسيط للنقص الذي بموضع السردي على مستوى تنقل مواضيع القيمة بل لمعاقبة العصبة أولا ورد الاعتبار لابنتها ثانيا. إن برنامج الثأر الذي انخرطت فيه الأم يعكس قدرتها على مواجهة العصبة وتعطيل برنامجها وإرغامها على الفرار:
"ولكنهم تفر عطوا بحركة أسرع من حركتها"(69).
في هذه الوضعية السردية، ينزاح معنى الصحن من الحيز الذي تستثمر فيه العصبة قيمة الموت ليتحول، بشهادته على وقائع الجريمة، إلى عنصر مؤنسن تسند إليه حاستا السمع والبصر اللتين تجسدان قدرته، ومن الموقع الذي يحتله في المشهد العام الذي تعرض وقائعه على المتلقي، على إصدار حكم إيبيستيمي على ما التقطه سمعه (مضمون ما علمه) وبصره:
"الصحن الملقى على التراب شاهدا على جريمة"(70)
من الواضح أن الصحن بوصفة شيئا جامدا في هذا الموضع يضفى عليه السلوك البشري ويرقى إلى درجة الإنسان بهذه الخاصيات في اللحظة التي تنحدر فيها الأنثى إلى الدرجة الدنيا التي تغتصب فيه إنسانيتها من عصبة تتشكل أساسا من الذكور. وتنضاف إلى هذه الخاصيات قدرة الصحن على الكلام وعلى الدخول في التواصل المباشر مع الناظر إليه وسلطته في ممارسة التنويم عليه:
"انحنى نحوه كالمنوم"(71)
إن اللافظ في هذه العبارة لم يخبر القارئ عن المصدر الذي يمحت منه الصحن سلطته التنويمية على نحو ما رأينا ذلك في أثناء فحصنا العلاقة بين إلهام والصحن:
"أشارت نحوه كالمنومة"(72)
وقد أوضحنا أن إلهام أضحت كالمنومة تستجيب بشكل آلي للسلطة التي يمارسها عليها الصحن. فقدت توازنها بفعل دهشتها وحيرتها من أمر صحن يملك قدرة عجيبة في غمر الناظر إليه بالضوء. إن الضوء بوصفة تيمة مركزية تتسرب عبره قيمة/ الحياة/ المجسدة في استهلاك الدراقات/ الحلوة/ المتعارضة مع المجدرة/ المرة/ التي يقود استهلاكها إلى/ الموت/. تأسيسا على هذا، يمكن استنباط ثنائية ضدية تعمل على إبراز القيم الأساسية المستثمرة في الصحن على النحو الآتي:
الصحن (إلهام) الصحن (أستاذ التاريخ)
الحياة/ عكس/ الموت
(الضوء) (الدراقات) المجدرة
ومن هنا، يبدو من الطبيعي اختلاف علاقة أستاذ التاريخ بالصحن عن العلاقة السابقة لاعتبارين أساسيين: أولهما، مشاركة الهو في المؤامرة. إن الصحن بمناداه الهو يكون قد أضفى عليه اللافظ السمة الإنسانية وبالتالي القدرة على الكلام والقدرة أيضا على تقويم مسار الهو وجره إلى الفضاء الذي سيتلقى فيه العقوبة. بالمقابل إن الهو يستجيب بخضوع تام لنداء الصحن:
"تقدم بهدوء وانحنى نحوه"(73) لينفذ رغبته كما نفذت حنان رغبة العصبة من دون أن تعي أنها ستكون ضحية مؤامرة. إن مصدر رغبة الصحن في دعوة الهو لاستهلاك المجدرة ليس الجنون الذي أوقع العصبة في الاختلاط والفساد بل إنه وعي بحجم جريمة كان لها وقع تدميري على حنان. وحتى يدرك حدة هذا الوقع، فإن الصحن رغب في أن يعيش الهو تجربة حنان و هي تلتهم الوجبة المتعفنة. لا ينبغي أن ننظر هنا في الصحن، الذي امتثل لتعديله من انقلابه الجزئي ("عدل من الانقلاب الجزئي للصحن"(74)) على أنه المحرك الوحيد للهو سبيل إدخاله في وصلة بالمجدرة يكون الهدف منها، على المستوى المعارفي، حمله على الاقتناع بخطورة الفعل التدميري الذي اشترك في ممارسته مع العصبة على حنان. على الرغم من أن الهو كان طرفا أساسيا في المؤامرة ("كان يستطيع أن يفاخر بكونه شاهدا على المؤامرة، بل شريكا أساسيا فيها، لأنه وبشجاعة منقطعة النظير، شارك بصمته، صمت الموافق"(75)) ("متآمرا بالمشاركة، بكمشة تراب متسخة، متآثرا بالصمت"(76))، إلا أنه لم يكن يرغب في اقتراف الجريمة مع العصبة. إن الرغبة هنا لم تترجم إلى انتفاضة شعورية، إلى فعل حاسم يحرر الفتاة من اغتصاب الجماعة. ولم تترجم على أقل تقدير إلى تنفيذ برنامج ملموس بقطع النظر عن نجاحه أو فشله فيه. إن السطوة التي تمارسها الجماعة عليه )إنها تلك السطوة الجماعية التي لا تعرف الرحمة..."(77)) أضعفت رغبته التي توارت عن الرغبة الجماعية في النيل من حنان وتراجعت أيضا أمام قدرة العصبة وتصميمها (وجوب القيام بالفعل) على تصفية الفتاة.
من هذه المنطلقات، نلاحظ أن جهاز كفاءته تعطل وأضحى مشلولا وغير قادر على أن يستقل بنفسه أو يفرض أناه. إن الأنا، في هذا السياق، وعلى المستوى الشكلي للخطاب، امحى ولم يظهر في أي سياق نصي تسند له فيه الكلمة ليعرب عن موقفه. ذاب في الأنا الجماعية، ولم يتأسس ولم يبرز إلا من خلال ضمير الغيبة هو، وعلى أساس الاختيار الذي تمليه عليه الجماعة ("لكنه منهم، هل كان من الممكن أن يكون لأيهم خياره؟"(78). وما أن استرجع أناه الضائع حتى امتثل من جديد لأوامر الصحن كما أوضحنا ذلك سلفا وبعد اقتراف الجريمة، ولكنه امتثال صادر عن قناعة واختيار.
ولئن كان الهو يدرك الخطورة الناجمة عن استهلاك المجدرة، فإنه في توحده مع الصحن وخروجه عن العصبة ونظامها، قرر التهام بقايا الوجبة في جو مفعم بـ الحياة ("همهموا حوله وتهامسوا، ثم ضحكوا وتصايحوا"(79)).
إن العصبة الشيطانية التي عبر عنها اللافظ بضمير الغيبة/ هم/ لم يرق انشراحها إلى درجة التلذذ والتمتع لأن الهو يدرك تعفن الوجبة، وبالتالي فإنه يشترك معهم في معرفة عناصرها والآثار الناجمة عنها بعد الهضم. لقد أبطلت هذه المعرفة عنصر المفاجأة الذي تنتظره العصبة والذي يشكل مصدر تلذذها وعنصرا هاما في الديكور العام للمشهد المفتقد أيضا إلى ذلك التجاوب (لم يشاركهم التمتع بحاله، ولم يضحك) الذي لحظناه في أثناء تناول حنان الوجبة. إن الطريقة التي قدم بها اللافظ الهو، وهو يقبل على بقايا وجبة حنان، تنضوي تحت برنامج يحتكم إلى تسلسل منطقي:
عدل من الانقلاب الجزئي للصحن لم بقايا وجبة حنان أعاد لمها في منتصف الصحن تماما وغمس أصابعه في المزيج ثم رفعها بمزاج عال إلى فمه راح يلتهم بقايا المجدرة(80).
من الواضح أن الهو في أثناء تنفيذ هذا البرنامج لا يخضع لقيود ولا لإكراهات من أية طبيعية كانت، فهو على عكس حنان يعرف معرفة جيدة العناصر المكونة للوجبة وخطورتها على الجسم التي قد تثنيه عن التهامها ومع ذلك فإنه لا يسرع في تناولها. ومن هنا، فإن عنصر الإبطاء هو في الواقع تعبير عن حالة شعورية هادئة وواعية ومتوازنة في الوقت نفسه. يتضمن هذا العنصر الذي يغطي التفاصيل الجزئية لتناول الوجبة رسالة مجدولة على فترات متصلة سترغم أعضاء العصبة من حيث لا يشعرون على الإحساس بالجريمة التي ارتكبها معهم وبالتالي الافتقار الذي ولدته لديهم. يتصدر تنفيذ الفعل الحاسم (التهام المجدرة) إعادة توازن الصحن وتحضير الوجبة في فضائه: فهو يعيد توازن الصحن ويلم بقاياه المتفرقة في فضائه ثن يعيد لمها بدقة متناهية في منتصفه ويغمس أصابعه في المزيج ويرفعها إلى فمه. إن تنفيذ الفعل الحاسم يهدف إلى تعويض الافتقار والتخفيف عن معاناته الناتجة عن المشاركة في المؤامرة بإنزال العقوبة على نفسه حتى "خط الدم شفتيه"(81). يشكل الدم في هذا السياق علامة على انتصاره وتحقيق أدائه بتجاوز البعد المادي لاستهلاك المجدرة التي تعد معبرا إلى عالم آخر. ولئن كان بهذا الفعل قد انصرف انصرافا كليا عن عالم عصبة الشيطنة، فإنه انتقل عبره إلى عالم آخر، عالم حنان والبراءة ليدخل في وصلة غرامية بحنان. ومن هنا، فإننا نلاحظ جيدا كيف أن الصحن مسخر للحديث عن شيء آخر غير هذا الحيز الذي يوضع فيه الغذاء. ويمكن أن ندرك هذه المسالة إذا انتقلنا إلى المستوى العميق للقصة التي تروي الوقائع التي حدثت لحنان. إن الهو شارك في المؤامرة مشاركة لم يرغب فيها أصلا. ولم تكن لديه لا القدرة ولا الحزم الذين يرشحانه للقيام بالدور البطولي المنقذ لحان. وقد عطل الاضطراب الملحوظ على مستوى كفاءته فعله وعمق شعوره بهول ما ارتكب. وبدأ يخرج تدريجيا من عالم العصبية. في هذه اللحظة السردية، تحرك الصحن ليحرك الهو في اتجاه استهلاك المجدرة تخفيفا عن آلامه ومعاناته أولا، واقتناعا ثانيا بانحلال قيم العصبة الذي قاده في نهاية الأمر إلى التخلي عنها بنفي ورفض قيمها والانخراط في عالم حنان.
الإحالات
الصحن، دار الأزمنة للنشر والتوزيع، عمان، سميحة خريس(1)، 2003.
(2) محمد عبد الله القواسمة، رواية الصحن: قراءة من خلال العنوان في: أفكار، مجلة ثقافية تصدر عن وزارة الثقافة، الأردن، عدد186، نسيان 2004، ص.71/787.
"الصحن" حكمة النوايسة، الحلم والواقع: قراءة في رواية (3) المرجع نفسه، 98/103.،
(4) A.J.Greimas, J. Courtés, Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Hachette/ Université, Paris, 1979, p.206.
(5) يلقى القارئ تحليلا معمقا لمصطلحي المنظور والتأويل في البحثين الآتيين:
- J. Courtés, Analyse sémiotique du discours, Hachette, Paris, 1991.
-J. Courtés, L'énonciation comme acte sémiotique, Nouveaux actes sémiotiques, Pulim, Université de Limoges, n°58-59, 1998,
(6) الصحن، ص.10.
(7) المرجع السابق، ص.11
(8) نفسه، ص.12
(9) نفسه، ص.27
(10) نفسه، ص.109
(11) نفسه، ص.12
(12) نفسه، ص.109
(12) نفسه، ص.12
(14) Roland Barthes, S/Z, Seuil, Paris, 1970.
(15) Claude Duchet, La Fille abandonnée et la Bete Humaine, éléments de titrologie romanesque, in revue Littérature n°12, Paris, 1973, pp.49/73.
(16) Claude Duchet, op, p.52.
(17) (18) J.Ricardoux, Nouveaux problèmes du roman, collection Poétique, Seuil, Paris, 1978, pp.148, 284.
(19) Josep Besa Camprubi, Les fonctions du titre in Nouveaux actes sémiotiques, n°82, 2002, Pulim, Université de Limoges.
(20) سميحة خريس، الصحن، دار الأزمنة للنشر والتوزيع، عمان، 2003، ص.64. من الآن فصاعدا ستكون إحالتنا على الرواية بعنوانها.
(21) ص.41/42.
(23)(22) الصحن، ص.42
(24) ص.49، الصحن
(25)(26) ص.51، الصحن
(27)(28)( 29) الصحن، ص.52
(30)(31)، الصحن، ص.52
(32) الصحن، ص.54
(33) الصحن، ص.55
(34)(35) الصحن، ص.56
(36) إبراهيم مصطفى، أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر، محمد على النجار، المعجم الوسيط، دار الدعوة، استانبول، 1989، مادة: مل.
(37) نفسه، مادة: اختنق.
(38) الصحن، ص64
(39) الصحن، ص65
(40) الصحن، ص65
(41) Albert Aasaraf, Quand dire c'est lier/ Pour une théorie des ligarèmes in Nouveaux actes sémiotiques, n°28, 1993, PULIM, Université de limoges.
(42) الصحن، ص65/ 66
(43) الصحن، ص66
(44) A.J.Greimas, Du sens II, Seuil, Paris, 1983, p.230
(45) الصحن، ص.69
(46) الصحن، ص76
(47) إبراهيم مصطفى، أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر، محمد علي النجار، المعجم الوسيط، دار الدعوة، استانبول، تركية، مادة:/نار/(النور).
(48) ص.76، الصحن
(49) ص.76، نفسه
(50) نستعمل مصطلح الحدث للدلالة على تغيير الوضعية الإستراتيجية للشخصية. وسوف نلاحظ في أثناء دراستنا، وكما اشرنا إلى ذلك سلفا، أن مضمون عنوان يتغير بتغير الوضعيات الحديثة.
(51) الصحن، ص.80.
(52) الصحن، ص82.
(53) ص80، الصحن
(54) نفسه، ص83.
(55) نفسه، ص83.
(56) نفسه، ص83.
(57) نفسه، ص83.
(58) نفسه، ص80.
(59) نفسه، ص80.
(60) نفسه، ص82.
(61) نفسه، ص83.
(62) جورج موراند، الغراب والثعلب، مقاربة سردية خطابية، منشورة ضمن وثائق البحث لفريق البحوث في السيميولسانية، مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، والمنتمي للمركز الوطني للبحث العلمي، العدد 17، 1980، ترجمة عبد الحميد بورايو، 2005، ص.5 مخطوط قيد الطبع.
(63) الصحن، ص82.
(64) نفسه، ص80.
(65) الصحن، ص83.
(66) نفسه، ص82.
(67) نفسه، ص79.
(68) نفسه، ص83.
(69) نفسه، ص83.
(70) الشاهد: من يؤدي الشهادة. والشهادة: أن يخبر بما رأى. وأن يقر بما علم (المعجم الوسيط، مادة شهد).
(71) الصحن، ص83.
(72) نفسه، ص65.
(73) الصحن، ص83.
(74) نفسه، ص83.
(75) نفسه، ص79.
(76) نفسه، ص81.
(77) نفسه، ص79.
(78) الصحن، ص79.
(79) نفسه، ص84.
(80) نفسه، ص83.
(81) نفسه، ص84.
البيبليوغرافيا
1- المراجع العربية
- سميحة خريس، الصحن، دار الأزمنة للنشر والتوزيع، عمان، 2003
- محمد عبد الله القواسمة، رواية الصحن: قراءة من خلال العنوان في : أفكار، مجلة ثقافية تصدر عن وزارة الثقافة، الأردن، عدد 186، نسيان 2004، ص71/78.
- حكمة النوايسة، الحلم والواقع: قراءة في رواية "الصحن"، المرجع نفسه، 98/103.
- إبراهيم مصطفى، أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر، محمد علي النجار، المعجم الوسيط، دار الدعوة، استانبول 1989.
- جورج موراند، الغراب والثعلب، مقاربة سردية خطابية، منشورة ضمن وثائق البحث لفريق البحوث في السيميولسانية، مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، والمنتمي للمركز الوطني للبحث العلمي، العدد17، 1980 ترجمة عبد الحميد بورايو 2005، ص5، مخطوط قيد الطبع.
2- المراجع الأجنبية:
A.J.Greimas, J.Courtés, Dictionnaire raisonné Hachette, de le théorie du langage Université, Paris,/
- J.Courtés, Analyse sémiotique du discours, Hachette, Paris, 1991.
- J.Courtés, L'énonciation comme acte sémiotique, Nouveaux actes sémiotiques, Pulim, Université de Limoges, n°58-59, 1998,
- Roland Barthes, S/Z, Seuil, Paris, 1970.
- Claude Duchet, La Fille abandonnée et la Bête Humaine, éléments de titrologie romanesque, in revue Littérature n°12, Paris, 1973.
- J, Ricardoux, Nouveaux problèmes du roman, collection Poétique, Seuil, Paris, 1978.
- Josep Besa Camprubi, Les fonctions du titre in Nouveaux actes sémiotiques, n°82, 2002, Pulim, Université de Limoges.
- Albert Aasaraf, Quand dire c'est lier/ pour une théorie des ligarème in Nouveaux actes sémiotique, n°28, 1993, PULIM, Université de limoges.
Seuil, Paris, 1983. A.J.Greimas, Du sens II.