المفارقة في بعض قصص السعيد بوطاجين

الأستاذ عبد القادر بوزيدة
لن أستطيع تقديم دراسة حقيقية في هذه المناسبة المتميزة. فقد تراكمت علي مهام وأعمال لم استطع الفكاك منها. ورغم أن التفكير في تقديم مداخلة للملتقى لم يبرح ذهني، إلا أني لم أتمكن للأسف من تخصيص الوقت اللازم في الوقت اللازم لإنجاز دراسة تليق بمقام الملتقى وبمقام كاتبنا الكبير المرحوم عبد الحميد بن هدوقة . لذا فإنني اعتذر على التقصير. لكنني رغم ذلك استطعت أن أسرق بعض الوقت لأدون بعض الملاحظات حول موضوع " المفارقة في بعض قصص السعيد بوطاجين ".
والواقع أن هذا الموضوع لم يتشكل نتيجة اهتمام خاص كان يوجه طريقة تفكيري والطريقة التي اقرأ بها هذه القصص أو محاولة اختبار منهج معين والبحث في القصص عما يؤكد الطروحات المنبثقة عنه أو يعدلها أو يطورها ... بل إني بدأت أقرأ هذه القصص قراءة فضولي، وكنت في الواقع نفسه ابحث عن شيء من المتعة التي تمنحها الأعمال الفنية. ولفت انتباهي ن وأنا أسترسل في قراءة هذه القصص أن العالم الذي تصوره عالم غير عادي، عالم غريب يكاد يشبه أحيانا عالم كافكا أو ضيع الله إبراهيم خاصة في "الجنة" و"تلك الرائحة". هي إذن قصص خارجة عن المألوف، نرتطم فيها على الدوام قد تكون هي السبب في حصول ذلك الانطباع لدي.
والواقع أن المفارقة لصيقة بالأقصوصة والقصة NOUVELLE)) وهي إحدى الأدوات التي تسعى بواسطتها إلى إحداث الأثر المرجو، ولكن بدا لي أن حضور المفارقة في أقاصيص بوطاجين وقصصه حضور لافت مهيمن نجده في كل شقوق النص وتضاريسه، ومن هنا نبتت فكرة هذه المداخلة.
01) لن استخدم منهجا محددا ولا يعني هذا طبعا الغياب الكلي لأي منهج، فالمنهج أو المناهج تظل دائما تستغل في الخفاء وتوجه القارئ، وتحدد مناطق اهتمامه، وتجعله يطرح أسئلة ويهمل أسئلة أخرى. لكن ما أقصده هو أني لن أستخدم منهجا معينا استخداما صارما، بل سأترك فسحة لنفسي كي تتسكع بقدر من الحرية في عالم بوطاجين الفسيح.
02) ما أقدمه في هذه المداخلة لا يعدو أن يكون مجرد ملاحظات ونقاطا لفتت انتباهي فدونتها ن وأعرضها عليكم اليوم علها تثير فكرة ما أو تدفع إلى دراسة هذا الجانب أو ذاك من أقاصيص بوطاجين وقصصه دراسة منهجية متأنية. وهي ملاحظات أولى لا تعد قراءة مؤسسة بل محاولة لاستخراج عناصر يمكن أن نضع قاعدة لقراءة أكثر عمقا لهذه القصص والأقاصيص.
المفارقة إذن هي العنصر الذي بدا لي مهيمنا في العديد من القصص والأقاصيص التي قرأتها. وهو عنصر يفجؤنا من الوهلة الأولى، وتحديدا من العنوان: "ما حدث لي غدا" هو عنوان المجموعة الأولى التي صدرت 1998 عن الجاحظية: "وفاة الرجل الميت" هو عنوان المجموعة التي صدرت في ماي 2000 عن منشورات الاختلاف. وواضح ما في صيغة العنوانين من مفارقة حيث تبدو والأمور موضوعة في غير وضعها الطبيعي، فيقرى الغد (أي المستقبل) بفعل ماض على غير العادة في المجموعة الأولى، بينما يسند حدث الوفاة في المجموعة الثانية ، ليست غلى الرجل، بل إلى الرجل الميت الذي لا يصبح هكذا من معنى لوفاته مجددا على الأقل في الكلام العادي والأوضاع الطبيعية. هذا الاقتران لأمور لا سبيل إلى اقترانها في وضع طبيعي، أو فيما جرت عليه العادة، نجده مبثوثا في معظم القصص والأقاصيص إن لم يكن في كلها. وهو يتخذ أشكالا ووجوها مختلفة (أقدم هنا بعض الأمثلة عنها لا غير) تبدأ من استخدام الصيغ الفعلية في غير وضعها العادي، واجتماع عناصر لا يوجد ما يجمعها، واقتران مسند بمسند إليه غريب عنه: نعت لا علاقة له بالمنعوت أو مضاف لا علاقة له بالمضاف إليه الخ ... وصولا إلى أوضاع مكونة من عناصر متباينة لا يمكن أن تقوم عليها هذه الأوضاع في الحالات العادية.
جاء في "الوسواس الخناس" من مجموعة "وفاة الرجل الميت" أن " السلطان طبق سياسة التقشف في السنة القادمة وقد أعلنت الصحف- في السنة القادمة أيضا - أنه سيقضي على عنصر الألم(...). في العام الماضي - إن شاء الله - سيصبحون في حجم الأرانب ( ص 16 ). وفي " ما حدث لي غدا " يتحدث الراوي عن عودته من حرب لم تقع بعد ( 9 ) . وفي مكان ىخر من القصة نفسها يقرن الحالة الماضية بفعل مضارع ويقرن الحالة المستقبلية بفعل ماض: " في الأسابيع الماضية ستظل جيوبي محفوظة بالصدى (...) كما حدث في الشهور الآتية تماما ". وقد يكون هناك انسجام في استخدام الصيغ الفعلية ( الأزمنة ) ولكنها تقرن بتواريخ تؤدي إلى تحطيم ذلك الانسجام وتخلق حالة المفارقة: في " الوسواس الخناس " يتجول عبد الوالو بين المقابر، وعلى إحدى الشاهدات يقرا: يوم 6-3-1957 دفن المدعو عبد الوالو الذي ولد يوم 6-1-1958. وقد تبرز المفارقة في طريقة تركيب أو استخدام بعض الكلمات أو الصيغ أو التعابير الرائجة. الأسماء قليلة في قصص بوطاجين وأقاصيصه لكنها دالة دائما، وهي توضع اغلب الأحيان لتجسيد المفارقة. ولنأخذ بطل قصة " الوسواس الخناس ": اسمه عبد الوالو. وهو اسم غير مألوف أولا، ومن هنا عناصر الغرابة فيه ولكنه في الوقت نفسه يحمل تناقضا في داخله يولد إحساسا بالمفارقة : فالعبد عادة يكون عبد القوة ما، وهي أغلب الأحيان قوة كبيرة تستطيع أن تستبعد أو يقبل الناس بعبوديتهم لها: مثلا عبد الجبار ن عبد القهار، عبد القادر ...الخ أما أن يكون الواحد عبد الوالو، عبد اللاشيء فتلك هي المفارقة .
وقد تكون المفارقة التي يحتويها الاسم اقل بروزا واقل بداهة في بعض الحالات، ولكنها رغم ذلك يمكن أن تتجلى بعد شيىء من إمعان النظر: " سيجارة أحمد الكافر " هو عنوان آخر قصة من مجموعة " ما حدث لي غدا ". واسم الشخصية الأساسية مكون من أحمد، وهو الاسم الحقيقي للشخصية التي جعلها بوطاجين مدار القصة، ولكنه في الوقت نفسه هو أحد أشهر أسماء الرسول الكريم، نبي الإسلام، أي أنه في هذه الحالة اسم مقترن بالإيمان، لكنه في القصة اقترن بالنقيض ممثلا في الجزء الثاني من الاسم :الكافر. ومن هنا المفارقة الخفية التي قد يتضمنها هذا الاسم.
ومثل عبد الوالو التي جسدت مفارقة الجمع بين شيئين متناقضين، نجد تعابير كثيرة أخرى من هذا الصنف من هذا الصنف مثل ذلك الذي كان يرى أنه ليس أكثر من " قطعة من الصفرة (ص15)، أو الذي يسخر من ذاته الآنسة حد التحول ( ...) إلى نصف لا شيء " ( ص 104 )، أو أيضا " قطعة من لاشيء " ( ص47 ) ( من مجموعة " ما حدث لي غدا " ).
أحيانا أخرى لا نجد استخداما غير عادي للأفعال والأزمنة بل للضمائر، حيث يستبدل ضمير مناسب بغير مناسب للفعل أو الاسم الذي يشير إليه الضمير: في " ما حدث لي غدا " يستخدم فعل في صيغة الغائب ولكن الضمير الذي يقرن به هو ضمير المتكلم فنقرأ : " ردد أنا " (ص47). وفي قصة " لاشيء " نقرا: " حذار، هنا يسكن أنا " (ص99).
وفي " الوسواس الخناس " نجد الصيغة التالية: " يجب أن نتفاهم، أن نقف عشر دقائق صمت ترحما علي " ( ص23) أو " وانهال علي بلا ادري حتى أغمي عليه " ( ص84)
وقد يجيء الإحساس بالمفارقة من إلصاق نعوت بمنعوتات لا تصلح لها، أو انتزاع نعوت من مكانها الطبيعي أو المتعارف عليه وإضفائها على منعوتات لا علاقة لها بها أو لا تتماشى وإياها تماما . فتعنت مدينة العميان (...) التي ضلت فاتحة ساقيها للغرباء بالمدينة الشامخة" ( ص8). وتصبح القمامة " قمامة مزدهرة (..) قمامة حلوة تألقت فيها جماعات الجرذان والقطط الميئوس منها " بحيث استوجبت وقوف عبد الوالو مندهشا أمامها " أمام تلك اللوحات الفاتنة " ( ص 29). ويصبح الكسل متعبا يستوجب الركون إلى الهدوء بعد ممارسته ( ص 13 ) والكذبة راقية مرة (ص15) ورقراقة مرة أخرى ( ص20). وتتجول طبيعة الأشياء وألوانها: " فالثلج ازرق، والأشجار حافية ، والمطر يابس " ( ص28 )، وهو، أي المطر، " يصعد من الأديم " ( ص87)، و" نهر الحياة ممدد على الرمل يبحث عن قطرة ماء " ( ص 28 )، وتنطح الناطحات ليس السحاب بل الأرض: " وأحلف أني كنت ألملم عمري قطعة قطعة وأخبئه في العراء وناطحات الأرض (51) و " المصابيح (...) تنز ظلاما " (ص 40) و " السعادة تعبر مكشرة " ( ص 76) وتنزع النعوت أحيانا من مكانها الطبيعي وتفصل عن منعوتات أصبحت ملازمة لها في صيغ مشهورة متعارف عليها، وتقرن بمنعوتات لا علاقة لها بها. هكذا يصبح النعش فسيحا " ( ص 8-13 ) والجحيم فسيحا أيضا.
جاء ما يلي في " الوسواس الخناس " في معرض الحديث عن " القضاء عن أزمة
الحزن والسكن والخناق الاقتصادي الذي تفرضه الدول الامبريالية قبحها الله
وأسكنها فسيح نيرانه " ( ص16 ) .
وتتكرر الصيغة نفسها أحيانا حيث يكتب أحمد الكافر الذي بلغه نبأ وفاته، التعزية التالية :
" بمزيد من الأسى والفرح بلغني نبأ وفاتي تغمدني الرحمان الرحيم وأدخلني فسيح نيرانه " ( ص92 ) - وقد تستخدم صفة الفسيح في موضعها العادي، أي مقرونة بالجنة، ولكن المفارقة تأتي في التناقضات المتضمنة في الجملة التالية مثلا: " منذ قتل إبليس لعنه الله وأدخله فسيح جناته " ( ص45) . بل أن إبليس يتحول من كائن شرير بشع مثير للخوف، كما هو متعارف عليه في الكتب والمعتقدات الشعبية منذ القدم، إلى كائن وديع جميل يثير العطف: " لأول مرة في حياته يرى الشيطان يعبر أمامه مشيا، كان نحيلا بهيا يحمل خبزة من الشعير وقليلا من الخبز والزيتون وكان يحمل في اليد اليسرى علبة من مربى الموز الهندي وأخرى من السردين والزيت. حتى إذا دنا منه دعاه إلى وجبة خفيفة... عاديا متقدا كان بسيطا كالقنديل، لا ذيل له ولا قرنين ولا شعر كثيف " ( أحمد الكافر ص 87 )
ولكن المفارقة تنجم أحيانا عن وضعيات بأكملها لا تسير الأمور فيها سيرا عاديا، بل تحدث فيها أمور هي النقيض لما هو متوقع . قد تخلص هذه الوضعيات في جمل أو مقاطع وهكذا يتذكر بطل " الوسواس الخناس " بلاد الغربة والكفار التي آوته" (ص 12 ) بينما لم تأوه بلاده، ولذا " مازالت مشاريع التشرد مصطفة أمامه " ( ص12 ). أما أطفال حومة بن طينة فلم تأوهم منازلهم أو بلدهم ، وإنما آوتهم الشوارع والخمارات ومدن الكفار الفاتحة صدرها للمطر والأحلام وقوس قزح " (ص25). الأمور إذن ليست في وضعها الطبيعي:
" في الخمارة المحرومة يلتقي الشباب والشيوخ والمحرومين وممثلوا الله " ( ص36 )، والإمام يتقلد السوط، والجلاد يحمل السجادة، واللص المسبحة، والقاضي يلوح بالعصا لمن عصى ( ص 13 ) وأعجبت المزبلة المزدهرة التي تجتمع فيها القطط والفئران عبد الوالو، فقصدها كثيرا يسمع الآذان والآيات القرآنية ويتللذ بتلك المشاهد ويأخذه الحماس فيعلق " ياله من وئام إنه لشيء ممتع وإنساني " ( ص 30 ).
وقد يبلغ هذا الاختلال درجة مرعبة حيث تفقد الأشياء طبيعتها، فيرى عبد الوالو " مرة الكراسي تدخن ومرة يسمع التماثيل تعوي " ( ص 15 ). لكأنها في محضر عالم الرعب والغرابة التي جسدته بعض قصص جي دي موباسان حيث يتجمد عالم الأحياء، بينما تدب الحياة في الأشياء الجامدة، فتخير الكراسي والطاولات والخزائن أماكنها، وتتحرك وتمشي وتفتح الأبواب وتركض متسابقة على مرأى من الإنسان المستمر في مكانه كالحجر.
وقد تتجسد المفارقة في الوضعية بأكملها التي تحكي عنها القصة، وتخترق القصة من أولها إلى آخرها، في " الوسواس الخناس " سلطان ومدير خير وفقهاء وأئمة وقضاة وشرطة يدعون إلى حماية الناس من الوسواس الخناس، وبلا حقون السكارى وأبناء الحرام والعاقين بالوراثة لأنهم، كما يعتقد، واعون تحت سيطرة الوسواس الخناس. وحين يتقدم أحد العاقين بالوراثة ويعلن: " أخبركم بأننا قتلنا الشيطان، قضينا عليه وبدلنا تبديلا " يكون أول رد فعل مدير الخير أن يسأله ممتعضا: " من قال لكم أقتلوه ؟ " ( ص40 ). لكن السلطان بعد ذلك يسند عملية قتل الشيطان إلى ذاته العلية، وتخصص القنوات، والجرائد والمجلات التي تصف بطولة جلالته: " كان إبليس يستعد لتوزيع منشورات خطيرة قصد الإخلال بالتوازن العام، من حسن حظ الرعية أن السلطان ساهر على أمنها ولا ينام أكثر من عشرين دقيقة " لكن السلطان بعد ذلك استيقظ من غيبوبته فبدا له قتل إبليس مؤامرة خطيرة دبرها عبد الوالو، خاصة بعد أن جاءه الساهرون على حماية الناس من " الوسواس الخناس فأصبحت الرعية مثل قطيع الخراف لا أحد يسرق - لا أحد يزني - لا أحد يكسر، لا أحد يشتمك .. فماذا أفعل أيها المبجل ؟ يا واهب الحياة والموت إننا بلا عمل .. " وجاء القضاة والمحامون والمشرعون والأئمة والعلماء والفقهاء الخ... يشكو إليه حالهم بعد مقتل إبليس: " لقد هدنا الجوع، مكاتبنا ومحاكمنا أصبحت فارغة كنا نعيش بفضل السكارى وأبناء الحرام والعاقين، أما اليوم فقد تغيروا ولا ذو بالمساجد. لقد قضوا على الجرائم والمعاصي وقتلونا ... من نعظ الآن أيها الزعيم ومن ننصح ؟ آه يا سيدنا ماذا عسانا ؟ هل نتحول إلى إسكافيين أو بنائين أو حطابين أو حواتين ؟ " ولما كثرت شكاوي الساهرين على حماية الناس من الوسواس الخناس بعد مقتل إبليس أمر السلطان بالذهاب إلى الخارج لإحضار شيطان وسيطانة لإعادة التوازن للمدينة وأوصى الرعية بالخروج إلى الشوارع للترحيب بالضيفين الجديدين.
تأتي المقارنة هنا من هذا التحول في الأدوار وفي طبائع الأمور وهو تحول يمثل نوعا من المسخ في أحيان كثيرة. والمسخ تيمة تكررت في العديد من قصص السعيد بوطاجين، وعبر عنها أحيانا بطريقة مباشرة ، بل استخدم المصطلح ( ولا شك أن دراسة موضوع كهذا ستكشف جوانب هامة في عالم بوطاجين القصصي.
تحدث عن مسخ الأمهات بحيث " أصبحن يبضن مثل الدجاج " ( ص 11 ). وشكا عبد الوالو بكوعة من المسخ : " متى يتوقف هذا المسخ ؟ ( ص20). وإنه ليخشاه أيضا: " أواه يا عبد الوالو، عندما خرجت من رحم أمك وجدت حافلة الغد المظلم بانتظارك، علماء النفس والفقهاء ... فسروا صرختك الأولى حسب هذا مبهم واجتهاداتهم، والحقيقة أن صرختك كانت تعبر عن بداية موتك، عن دخولك المرغم في شبكة المسخ " (ص25) العالم الذي يتحدث عنه بوطاجين إذن هو بصورة من الصور مسخ. عالم لا يفهمه الإنسان: " أقرأ الجريدة مقلوبة علني افهم شيئا " ( ما حدث لي غدا، ص 50 )، عالم لا يتعرف فيه الإنسان على نفسه ولا يحقق ذاته، بل هو مهدد بفقدها. من هنا تصبح حماية الذات في مواجهة هذا العالم المسخ هاجسا أساسيا في قصص بوطاجين: " كم من جيل سيفنى لأصل إلى ذاتي، لأعرف من أنا ؟ " ( ص 93 ). مدينة العميان، المدينة المسخ لا يمكن فيها الالتحام بالذات، لذا يواجهها المؤلف بالسخرية أو المحاكاة الساخرة، ويلعب إبراز المفارقة دورا أساسيا في ذلك، ويشكل أداة نقدية لفضح عالم المدينة - المسخ ومقاومته.
كما يمكن أن تلعب المباعدة بين الذات والمدينة المسخ وسيلة من وسائل درء خطر الذوبان فيها والإصابة بالمسخ. لذا كثيرا ما يلجأ المؤلف أو الراوي .. إلى فضاء آخر ويحتمي به ويذكرنا في هذا بصنيع الرومنتيكيين فهو عندما يتحدث عن الطبيعة تتغير لغته ويترك النقد الحاد والسخرية مكانهما لعلاقة حميمية: " تمتد يده لمداعبة الرمل فيحس الاطمئنان يعبر وجدانه 3 3 مع البحر والصخر أقام علاقته، هناك صام وسكر وصلى " " خذني معك يا بحر، أنا ضال ومستوحش، خلصني من مدن الجرب (...) روحي الطاهرة مهددة بالنمذجة " " سأعدو باتجاه نفسي عاريا كما ولدت وكما أموت، الغابة والصحراء والبحر وطني، الشجر والعقارب والحيتان شعبي ن وقلبي العالم والعالم القلبي " ( ص 41 ). شنفرة العصر الحديث ؟
لكن هناك طريقة أخرى في مواجهة العالم- المسخ، وهي طريقة قد لا يتبناها " المؤلف " ولكنه لا ينكرها بل يتعاطف معها، إنها طريقة الذي يرفض العالم - المسخ فيصطدم به ويثور عليه ويرفض قيمه ونظامه ويختار الفوضى التي يحقق بها ذاته ولو قاس الأهوال بسبب ذلك.
إنها طريقة أحمد الكافر: " اتخذت قراري الذي لا رجعت فيه وأتممت لنفسي نعمتي ورضيت لها الفوضى مذهبا لا يتزعزع " قد لا يعارض " المؤلف " هذه النعمة، لكنه يسلك لبلوغها طريقا غير طريق المواجهة المباشرة. طريق السخرية أو المحاكاة الساخرة.