الكتابة الروائية في "الجازية والدراويش"

عمر أوهادي ترجمة: عبد الحميد بورايو
1) الرؤى السردية:
إن القارئ وهو يقرأ الرواية يشعر أنه مدعو للحكم، لأن الأحداث تم تقديمها بشكل معين وبرؤية معينة. هل هذه الرؤية التي يقدمها النص للقارئ، هي رؤية الشخصية الرئيسية؟ إن المشكل المطروح هنا يتعلق بالعلاقة بين من يتحدث ومن يقوم بالفعل.
إن القصة تقدم نفسها باعتبارها رواية (أو حكاية). نجد مستويين سرديين: المستوى الأول هو مستوى المسمى "الزمن الأول". أما المستوى السردي الثاني فهو مستوى الراوي الغائب الذي يوكل له التبئير، بغرض متابعة عائد، الشخصية المركزية للقسم الثاني من الرواية المسمى الزمن الثاني.
على مستوى القصة المروية، يرتبط القسمان ببعضهما عن طريق علاقة تكامل بدون الزمن الأول والثاني، تبقى الحكاية غير مكتملة. نحن إذن أمام راويان: الأول راوي من داخل القصة المروية (الطيب)، والثاني راوي من خارج القصة (إنه "هو" الغائب).
يؤدي الكاتب- الراوي وظيفة أساسية، تتمثل في إدخال الشخصيات وتوزيع مختلف مستويات التبئير والرواية. إذن يبقى الكاتب ظاهرة تحتاج إلى تحليل، رغم أنه يمثل عنصرا خارجا عن النص.
حتى وإن كان المؤلف- الراوي يقيم مسافة بينه وبين شخصياته، فإنه يستطيع أن يؤازر هذه الشخصية أو تلك، بشكل أو بآخر. من خلال رؤية المؤلف، نستطيع أن نتعرف إذا ما كان يؤازر طرف المحافظين (الأخضر)، أو الاصلاحيين (الطيب)، أو الثوريين (الأحمر).
إن لتحليل الرؤية أهمية في تحليل " التقنية السردية" في الجازية والدراويش، فوصف الأحداث لم يكن حياديا، إذ تم عكس أحداث الرواية من خلال من يرويها.
تبدأ الرواية بضمير "هو" الغائب: "أدار السجان المفتاح في القفل (ص:7). إن القائم بالفعل هنا هو السجان، غير أن الراوي غائب عن مسرح الأحداث. إنه غير مرئي، إنه المؤلف-الراوي: يختفي فجأة في السطر الثاني من الصفحة السابعة، دون أن يخلف أثرا. يحيل القول لإحدى الشخصيات. ينتقل إذن إسناد السرد من راو غائب إلى "الأنا" الحاضر، فالشخصية التي أصبحت تتحدث هي راو من داخل القصة، وبذلك يكون ركن النص الذي ينتجه مختلفا تماما عن ركن النص السردي الذي يندرج فيه. يصبح نص الشخصية الراوية حدثا في مستوى قصة الرواية: أدخل، أجلس، لا أفكر (ص ). يحيل "الأنا" على الطيب، الذي يقدم نفسه كمسجون. ننتقل من السرد في المستوي الأول، أي من قصة الشخصية، إلى ما يحيكه هذا السجين نفسه، وذلك عن طريق إجراء يمكن أن نطلق عليه "انزياح سردي": كيف وجد نفسه مسجونا ولماذا؟ تقوم الذكريات في نفسي(ص9)، قصتي تحكي بكلمة، لكن أنا أحكيها بآلاف الكلمات (ص18).
هذا التغيير للركن السردي هو أيضا تغيير لركن التبئير. لقد تم تبئير الطيب من طرف الراوي – المؤلف في المستوى الأول، غير أن الطيب ما إن يأخذ الكلمة، يتكفل بتبئير فضاء السرد الذي هو الزنزانة. تبدأ رواية القصة عن طريق تبئير داخلي. لقد تم تقديم الشخصيات والأماكن والأحداث عن طريق الطيب، إنه القائم بعملية التقديم: " أتأمل الجدران، السقف... على الجدار المقابل لسريري نقشت أرقام وصور، وعصى صغير: الأليفات" (ص8). وبعبارة أخرى، إننا نرى الطيب في السجن من خلال نظرة الراوي، ومن خلال نظرة هذا الأخير نرى حجرة السجن. على الصعيد الأول نجد أنفسنا إذن قد انتقلنا عن طريق الارتداء إلى ماضي الطيب، مع تضييق مجال الحياة داخل السجن وغياب كل استشراق للمستقبل، يظهر توسيع للمجال السردي عن طريق اللجوء الى الماضي: "المستقبل هنا، هو النظر الى الوراء" (ص8) يتمثل هذا الماضي في قصة الطيب المتهم بجريمة قتل لم يرتكبها.
رغم أن المستويين السرديين غير منفصلين عن بعضهما، يمكن للمتلقي أن يميز بين المستويين التاليين:
1/الطيب وهو في السجن ومناقشته مع الشاعر الذي يقاسمه الزنزانة.
2/يتم استحضار قصة الطيب على شكل استذكار.
هذان المستويان حاضران في أقسام ما سمي بالزمن الأول. وفي أقسام ما سمي بالزمن الثاني. تم التكفل بالركن السردي من طرف راو غائب. هذا الراوي الغائب لا يستند السرد أبدا إلى شخصية أخرى، غير أنه يدفع شخصياته إلى التصرف عن طريق الحوار. يضم "الزمن الثاني" قصة عائد، الشاب المهاجر الذي يعود إلى قريته، لكن بيئته الثقافية الأصلية عن طريق الزواج بفتاة من نفس القرية. تم إسناد هذه القصة إلى الضمير الغائب، وهي تحتوي كثيرا على حوارات شديدة الحيوية تمثل لحظات مريحة تخفف من توتر متن الحقل السردي. تتوزع الرواية إلى قصتان، قصة الطيب، مروية ومبأرة من الطيب نفسه، وقصة عائد المروية والمبأرة من طرف الراوي الغائب. أمامنا إذن حقلا منظورين، حقل وجهة نظر الطيب، وحقل وجهة نظر الراوي.
وجهات نظر الطيب:
الطيب/ الأحمر.
يتساوى الطيب الشخصية الرواية مع شخصية الأحمر، من حيث ما يعرفانه من أشياء ومن أفعال: المعلومات عن الجازية، مشاريع الشامبيط، إلخ... يدل على ذلك قول الطيب: "يقيدا هذا الطالب على علم بكل الخفايا" (ص69). يعرف الشخصية الراوية كل شيء عن الأحمر، يعرف أفكاره ومشاريعه:"جاء من أجل الجازية" (ص134)، "كان يود قرية أخرى من نوع آخر" (ص134). ليس هناك سر يتعلق بالأحمر لا يعرفه الطيب. هذا المنظور لا يستبعد وجود غموض في حديث الطيب عن الأحمر: فهو يتحدث عنه أحيانا كطرف من أطراف الصراع يشترك معه في نفس الأفكار: "أعاهدك يا رفيقي، سأرسم لك قوس نصر في جدار من جدران هذا السجن بأظافري (ص128). في أحيان أخرى ينظر الطيب إلى الأحمر على أنه خصم: لماذا لا أقتله؟ (ص136). لهذا الغموض تفسيران:
1) لما أصبح الطيب في السجن تشكل وعيه الثوري، وفهم بأن الأحمر يريد القضاء على الماضي من أجل بناء مجتمع جديد.
2) هذا الغموض يعكس التناقض الذي يعيشه الفرد في مجتمع ضاغط، فهو يخشى اتخاذ موقف، لأنه فاقد لحرية التعبير والفكر.
الطيب/ الأخضر:
نفس الشيء الطيب الشخصية الراوية لا تعرف أقل أو أكثر من الأخضر، فهو يعرف ردود فعله وطريقة تفكيره: "من يستطيع نزع الأبوة من عقله، أنا يقدر رأيي لسبب بسيط، لأني أخالفه" (ص73)، "أبي على علم بكل شيء" (ص74). ليس هناك شيء يفعله الأب أو يفكر فيه أو يقوله دون أن يعرفه الطيب.
هنا أيضا نلاحظ تناقضنا: ينظر الطيب أحيانا إلى أبيه كرجل يدافع عن ثقافة الأسلاف: "أبونا عندما يتحدث عن المدينة، يقول: "نهبط، يعني نتضع، دشرتنا جد عالية، أبي صادق في كلامه (ص17)، أحيانا أخرى ينظر إليه على أنه محافظ يقدس الماضي الذي فقد مبرر وجوده: "لأول مرة أحسست أن صوت أبي يصل إلي من وراء قرون بعيدة" (ص143).
الطيب/ الشامبيط:
عندما يتحدث الطيب الشامبيط، يراه بوضوح. يعرف مشاريعه، مصالحه وتأمرهمع الشركة الأمريكية: "كل آماله أن تدرك الجازية أن ابنه ليس كالآخرين، إنه يقرأ في أمريكا... وأن أساتذته يملكون الأرض والقمر."(26). إن تبئير الطيب اتجاه الشامبيط يجعله معارض له. يرى الطيب في الشامبيط الاضطهاد والظلم: "لقد مني الشامبيط للدركي، وضع القيد في يدي" (ص20).
إن غموض وجهة نظر الطيب في رؤيته للشخصيتين المشار إليهما سابقا (الأحمر والأخضر)، تجعله في موقع وسيط بين ماضي موروث (الأخضر) وثورة مجددة. وهذا ما يؤكد اتجاهه الإصلاحي، إنه لا ينكر الماضي كما أنه لا يرفض المستقبل: " لم أكن من أهل الماضي ولا من أهل المستقبل، كنت الصفر الذي تلتقي فيه الأزمنة" (ص137).
في حديثه عن الشامبيط يعبر الطيب بدون لبس عن موقف إصلاحي يدين الظلم والاضطهاد.
منظورات الراوي الغائب
الراوي/ عائد
نتعرض هنا للجزء المسمى: الزمن الثاني، يرتكز السرد فيه على عائد وعودته إلى القرية. إنه من خلال صلات عائد مع الشخصيات الأخرى نتعرف على بقية الأحداث المروية من طرف الطيب. تتم رؤية عائد من طرف الراوي غير المرئي. هذا الأخير يعرف أهداف الأول، وعلة عودته للقرية.
"لم يفكر... رجع، الجازية حلم وهو الحالم" (ص29).
هذا الراوي غير المرئي لا يتوقف دوره عن مجرد مشاهد محايد: إنه يقيم ايجابيا عائد "شاب وسيم ومثقف" (ص26). من جهة أخرى نفس الراوي يرى في شخصية الأخضر الرجل الذي يدافع عن ثقافته: "رجل البارود"(ص169).
هكذا يأخذ الراوي غير المرئي موقعه مع الجيل القديم الذي يدافع عن الماضي، وكذلك مع الجيل الشاب الذي يلفت إلى الماضي، يتأكد ذلك عندما يصف الراوي القرية كفضاء نقي لم يتلوث بالصناعة: "الحياة هنا لم بفقدها بكارتها محرك ولا آلة" (ص39).
يقف الراوي غير المرئي أيضا ضد الشامبيط، مثل الطيب، يرى فيه الرجل الظالم: "لماذا يرضى السكان بضغوط هذا الشامبيط" (ص160)
يتحدث هذا الراوي غير المرئي كمدافع عن ماضي الاسلاف مدينا الاضطهاد والظلم.
إن رواية الجازية والدراويش قصة ذات صوتين. في فصول الزمن الثاني يلاحظ هيمنة للقصة الذاتية المسندة لضمير الغائب، ونعثر في فصول الزمن الأول على مداولة بين القصة المسندة لضمير المتكلم (أنا الطيب الشخصية الراوية) والقصة المسندة لضمير غائب، يمحى المؤلف أمام شخصياته، ويسمح هذا الامحاء للقارئ أن يصبح طرفا في العالم الداخلي لهذه الشخصيات بدون أن يعني ذلك الحياد.
إن المؤلف هو وحده الذي قام بتنظيم العالم الخيالي للرواية، من أجل أن يكون الطيب في السجن، وأن يغتال الأحمر، وأن يتزوج عائد حجيلة، وأن تبقى الجازية في القرية عند الأخضر، يقف المؤلف إلى جانب من يدافع عن الماضي، ويدين الظلم عن طريق الطيب والشاعر.
المستوى الأول: تكفل بالسرد راو مجهول (من خارج المحكي)= هو الغائب
المستوى الثاني: تكفل بالسرد شخصية – رواية (من داخل المحكي) =أنا الحاضرة
الزمن الأول = قبل موت الأحمر.
الزمن الثاني = بعد موت الأحمر.
2) البنية السردية:
يقول "آلان روب جريي": "إنه لشيء غير مقبول القول بإقامة نظرية أو قالب قابل لأن تحشر فيه جميع المؤلفات في المستقبل. على كل روائي أن يكشف شكله الخاص به" (من أجل راية جديدة). يعرف السرد صيغا كثيرة، يستخرج من بينها كل نص أدبي صيغة أصيلة ذات معاني غنية.
تملك رواية الجازية والدراويش منطقها الداخلي، الذي سنحاول تفكيكه فيما يلي من دراستنا. تتوزع الرواية على ثماني فصول. تم التقطير السردي للرواية على أساس وجود قسمين، الزمن الأول (4 فصول) والزمن الثاني (4 فصول).
يمثل هذا التقطيع وسيلة مستعملة من طرف المؤلف ليجعلنا نستقبل الأحداث الخيالية بطريقة تعتمد على بناء العقدة. ثم استيحاء الطريقة المستخدمة من التقنية السينمائية، التي تسمح باستحضار الطيب وهو في السجن، وعائد وهو في القرية. في نفس الوقت، أثناء وقوع الأحداث، يقع الرجوع إلى الوراء عن طريق الارتداء المستخدم في الشاشة.
ينمو الفعل الروائي من خلال حدثين:
الحدث الأول للرواية
القصة المستذكرة من طرف الطيب
الطيب في السجن
الحدث الثاني للرواية
قصة عائد في القرية
على مستوى المحكي تقوم العلاقة بين القصتين على التنافس، تقدم قصة الطيب الوقائع دون أن تفسرها. قدم لنا الطيب وهو في السجن، ولم نعرف السبب إلا من خلال قصة العائد. هناك مثال آخر، في قصة الطيب (الفصل الأول) نجد أنفسنا أمام أسماء شخصيات، لا نعرف وظائفها في الحكاية، غير أنه في الفصل الثاني (قصة عائد) نستخرج وظيفة كل شخصية.
هناك إذن تواصل حدثي تم كسره في السرد لأنه يقع بين زمنين متخيلين:
قبل موت الأحمر
< >بعد موت الأحمر
وبين فضائين:القرية والسجن
ينبثق على ذلك وظيفة تعقيد الحدث. يتم تأكيد هذا التعقيد عن طريق تقنية "الابتداء بالنهاية": يقدم المؤلف الطيب وهو في السجن في الصفحة الأولى، لكننا لا نعرف السبب إلا في الفصل الثاني، نكتشف الأحمر، وبعد ذلك نتعرف على العلة، نفس الشيء بالنسبة لموت الشمبيط.
يجد القارئ نفسه وهو يتابع أحداث الرواية موزعا بين حاضر عائد وماضي الطيب، ماعدا في الفصلين السابع والثامن حيثيلتقي الزمن الأول والثاني في نفس الوقت الذي هو الحاضر التخييلي، من أجل تفسير متن الحكاية والايضاح والغموض. هكذا يذكر المؤلف عدة وقائع دون أن يفسرها، وذلك بغرض تهيئة القارئ لكي ينتظر البقية من أجل أن يتلقى معلومات أكثر تتعلق بالوقائع المذكورة، يلتقى الفصلان الأخيران من أجل استخراج نهاية الحكاية: موت الشمبيط وزواج عائد بحجيلة.
يعطي الفصلان أجوبة لجميع تساؤلاتنا.
هذه المراحل بين المستويين زمنيين ( الزمن الأول والزمن الثاني)، بين الحاضر والماضي والتخييلي، تحيل القارئ إلى موقف الإنسان في مواجهته للزمن.
إن حكاية الجازية والدراويش تعرضت في شكلها للانكسار قبل أن تجري وقائعها لأن العبور من صعيد معين للوعي إلى آخر يتم عن طريق خط منكسر مشكل من عدم استقرار الشخصية: الطيب مع وضد الأحمر، مع وضد أبيه يبحث عائد عن أصوله، لكنه يبقى دائما متعلقا بالغرب.
ماذا تعني هذه البنية القائمة على الانكسار؟
إنه يمكن تبرير بنية الرواية عن طريق معطيات نفسية اجتماعية: صعوبات مجتمع تعرضت بنيته للهدم. من ناحية هناك جيل قدير يريد المحافظة –على حياة تقليدية- ومن ناحية أخرى هناك شباب ثوري، وما بينهما هناك شباب إصلاحي. الجيلان (القديم والثوري) عرضه للاضطهاد والظلم الإداري. وأخيرا هناك شباب مهاجر طغت عليه الثقافة الغربية، يبحث عن استرجاع هويته. هو في حاجة إلى استرجاع الماضي، إلى الارتباط بالأصول وإعادة استكشاف قيم الأجداد من أجل التمكن من تحقيق تحولات بتطلبها المستقبل.
إن الرواية في عدم تواصلها هي سرد لحركتين متداخلتين في حاضر وماضي متخيلين (قبل وبعد موت الأحمر). على الرغم من هذا الانقطاع السردي، الحاضر المتخيل (بعد موت الأحمر) للطيب ما هو سوى امتداد للماضي (قبل موت الأحمر) في مظهره السلبي: الحاضر في سلبيته (الطيب في القرية قبل موت الأحمر): ضغط الشامبيط، فشل عشق الجازية، ضغط المجتمع التقليدي.
يظهر عدم التواصل السردي أيضا على المستوى المعنوي لأن هذا الشكل السردي ما هو سوى حامل ممثل لمجتمع يعيش صراعا، لمجتمع في حالة تحول.
إن عدم تواصل القصة ما هو في الحقيقة سوى مظهر سطحي، إذ أن إعادة قراءة الرواية تصبح أمرا ضروريا لأنها تسمح بالكشف عن وجود تواصل، هو تواصل داخلي، يندرج ضمن اللاتواصل نفسه. إن الانقطاع الشكلي أصاب مصير الشخصيات التي تصف الرواية مأساتها. يستخدم المؤلف وسائل مختلفة في نطاق هذه البنية السردية من أجل تأكيد دلالة الرواية. نذكر من بينها الأساطير والرموز والأمثال والأقوال المأثورة.
- استخدام الأساطير والرموز:
إن أول عبارة في النص، تمثل مدخله الحقيقي، هي عنوانه. وعنوان رواية "الجازية" و"الدراويش" يهدف بوضوح عن طريق اسم الجازية إلى موضعة الرواية في سياق أسطوري. لقد سمحت صورة الجازية المشكلة في الرواية للمؤلف أن يعبر عن تعقيد الصراعات الفردية والأحاسيس الجماعية. لقد رأينا في الفصل الخاص بالشخصيات، كيف كانت الجازية مرغوبة من طرف عدة ذوات، وكيف أن ذات تختار طريقتها في البحث للوصول إلى هدفها. إن هذه المرأة الإمبراطورية، الغريبة والمعقدة تجسد الجزائر، لقد اختار المؤلف "الجازية"، اسم بطلة السيرة الهلالية، من أجل أن يظل في نطاق ثقافة عربية إسلامية. في محيط أسطورة الجازية (المركزية) يستدعي المؤلف أسطورة الدراويش والآخرين من أجل تفسير بعض المواقف المتخيلة.
استخدم المؤلف في الصفحة (23) أسطورة "إساف ونائلة"، إنه الثنائي المعروف عند العرب بعلاقة الحب التي تسببت في مسخهما، وقد تم هذا الاستخدام عند الحديث عن علاقة الأحمر بالجازية. تم ذلك عن طريق الطيب أو عن طريق الراوي غير المرئي: "أبحث في ذكريات الماضي البعيد، تختلط الصور في ذهني...أرى "زردة" مزدحمة حول زمزم، الدراويش يحتفون بنائلة وإساف العاشقين اللذين كتب عليهما المسخ ثم القداسة، وتبدو لي نائلة في صورة الجازية، وإساف في صورة الأحمر،(ص121)
يستخدم المؤلف أسطورة إساف ونائلة، لكي يعبر عن إدانة المجتمع لعلاقة فتاة (الجازية) بشاب (الأحمر)، وهو مجتمع يعيش في العصر الحاضر بأخلاق موروثة، لا يقبل بغير العلاقة الشرعية بين الرجل والمرأة. كل علاقة خارجة عن علاقة الزواج هي عار يمكن أن تؤدي إلى نتائج خطيرة (مقتل الأحمر).
إن استعمال الأسطورة يمثل محاولة لإعطاء دلالة أكثر وزنا للرواية. هذا يعني أن الرواية موجهة لقارئ منتبه يجب أن يكون على علم بالأساطير المستخدمة من أجل أن يفهم العمل في مجمله.
خلافا للأسطورة، يعطي الرمز للرواية دلالة أخرى، من سمات الرمز في "الجازية والدراويش" تطوين بناء ذي دلالات متعددة. هذا يعرض النص الروائي إلى تأويلات مختلفة: لقد رأينا في الفصل المتعلق بالشخصيات كيف أن اسم الشخصية يمثل نقطة الالتقاء بين الرمز والوظيفة الروائية. غير أن الاسم قابل لأن يؤول تأويلا مختلفا من قارئ لآخر. بينما مفهوم الرمز لا يتحدد بشيء معين، لأنه يعني مجمل الرواية، حيث الدلالة غير معطاة بشكل جاهز ولكنها مؤولة.
مما يستلفت الانتباه أيضا استخدام العدد سبعة. لقد استخدم هذا العدد عشرون مرة في الرواية، في الصفحات:5، 7، 24، 31، 33، 42، 55، 60، 69، 101، 157، 175، 199. نعثر في قاموس الرموز ل"شوفاليي" و"غير بران" هذا التفسير يتفاءل المسلمون بالعدد سبعة، فهو يرمز إلى النعمة. إنه عدد مقدس، والعدد سبعة عندما يرمز في الرواية إلى شيء ما، ليس لأنه يستدعي هذا المعنى أو ذاك في ذاكرة القراء، بل لأنه يأتي مصحوبا دائما بكلمة تحيلنا على ما هو مقدس: "سبع أولياء" لأن أولياء القرية مقدسون يمثلون الواسطة بين الناس والله.
"جامع السبعة" هو الموضوع المقدس بالنسبة للمسلمين، وهو يحظى بكل تبجيل عندهم. يبعث "الشامبيط" ستة خرفان وثور، أي أن المجموع سبعة، وذلك من أجل تهيئة طعام "الزردة" ويعتبر القرويون الزردة شيئا مقدسا يلتزمون بحضورها، هكذا يضع العدد سبعة الرواية في سياق دين وأسطوري.
نجد أنفسنا أمام الرمز ابتداء ن الصفحة الثامنة عن طريق الطيب الذي يصف الزنزانة، عندما يذكر الألف المنقوش على الجدار من طرف أحد المساجين: "على الجدار المقابل لسريري نقشت أرقام وصور وعصي صغيرة كالألفات، معلم الكتاب قال لنا ذات يوم: الألف عصا لمن عصى!، إن المؤلف يؤكد السياق الثقافي العربي الاسلامي عن طريق الألف (أنظر الاقتباس السابق)، أو مباشرة بعد وصف الزنزانة، نجد الطيب يستحضر آية قرآنية تكررت مرتين في الرواية في الصفحتين 11 و 20: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" (القرآن سورة البقرة، الآية...286). يرمز الألف إلى السياق الإسلامي وهو تحت كابوس الضغط: الألفات منقوشة على جدار الزنزانة في السجن، يقارنها الطيب بالعصى، ويؤكد معلم الكتاب فيما بعد بأن الألف هو عصا تجعل المتمردين يسكتون، إن الألف هي عصا لمن عصى. يتأكد رمز الاضطهاد في الصفحة (120). لقد كانت الألفيات إذن منقوشة من طرف سجين متعلم، مات في السجن في مجتمع إسلامي.
إن الرمز في الرواية يتطلب إذن اتخاذ موقف اتجاه واقع ومن هنا فهو ينفي حياد المؤلف. إن هذا الأخير لا يخبر القارئ فقط، لكنه يعمل من أجل دفعه إلى المبادرة. إنه لا يريد أن يجعل منه مجرد مشاهد بل يشركه، كما ان استخدام الرمز يمكن أيضا أن يكون وسيلة لاجتناب الرقابة.
إن العمل الروائي عن طريق الأسطورة والرمز ليس مغلقا، بل هو قابل لعدة تأويلات، مما يجعل النص الروائي ثريا.
المصطلح المقابل ل ويقصد به المنظور الذي تقدم منه الأحداث والشخصيات.
Instance ترجمة للمصطلح