الفضاء النصي في الرواية قراءة في غلاف "ذاكرة الماء" لــ "واسيني الأعرج"

الأستاذة: إلهام علول أستاذة مساعدة بالمدرسة العليا للأساتذة - قسنطينة -
الأستاذة: إلهام علول أستاذة مساعدة بالمدرسة العليا للأساتذة - قسنطينة -
يثير مفهوم الفضاء في الرواية مجموعة من التصورات النظرية التي توسعه أحيانا ليشمل البناء الروائي ككل، في جميع تمظهراته اللفظية، وتضيقه أحيانا أخرى لينحصر في البحث عما يميز الكاتب، من خصائص شكلية سلعة تخضع لقانون العرض والطلب(1)، يحاول الروائي من خلالها أن يوصل خطابه إلى القارئ، ابتداء من الغلاف الذي يشده غلى اقتناء الكتاب أم لا.
إن "الفضاء النصي" الذي يقصد به كيفية إخراج الرواية مهم جدا في توضيح بنية الخطاب الروائي، ذلك أنه الواجهة التي يعرض فيها الكاتب روايته، ويدعو القراء إلى قراءتها، ابتداء من العنوان، شكل الكتاب، عدد الصفحات، تنظيم الفصول، البياضات....
وعليه فإن الرسالة الخطابية التي تربط بين القارئ والروائي من الوهلة التي يلمح فيها القارئ الكتاب، فيقرأ العنوان، ويتمعن الغلاف، ثم يتصفح الرواية في عجالة ليقرر بعدها ما إذا كان سيقرؤها أو أنه سيضعها جانبا في رف من رفوف المكتبة.
فالروائي يخطب روايته أيضا حين يجعلها شكلا ملموسا، له ملامح معينة، يمكن تحديدها بدقة نسبية تختلف باختلاف القراء ومستوياتهم. وانطلاقا من هذا التصور يكون إهمال الجانب الشكلي للرواية، مؤديا دون شك غلى إهمال جزء مهم من خطاب الرواية ككل.
ما هي مميزات الغلاف الأمامي لــ "ذاكرة الماء"؟
(1) voir Barthes Roland L'aventure sémiologique Edition de seuil, France 1985 P355. 292
قبل الولوج إلى الإجابة عن هذا السؤال يجدر الوقوف على جزئية هامة فيه وهي إشارة الكاتب إلى أن الغلاف من تصميمه وأنه يمثل بابا من أبواب تلمسان القديمة(2). ويبدو أن لهذه الإشارة أهمية بالغة في التحليل، إذ يؤكد المؤلف أن الغلاف جزء من خطابية الرواية فيصبح الاهتمام به وقراءته ضرورة منهجية لا غنى للدراسة عنها تظهر الرواية كسلعة معروضة في المكتبات بشكل طولي وعلى غلافها تظهر أطر بشكل عرضي وهي تشغل بنظرة رأسية أمامية فراغا مكانيا يحده طولا (20سم) وعرضا (14 سم) من طولها وداخله يتموضع إطار آخر بشكل مستطيل أيضا يتراوح عن الأول بحوالي (4 ملم) من جانبيه الأيسر والأيمن و (6 ملم) من جانبه العلوي والسفلي وفيه يظهر الجزء العلوي لباب من أبواب تلمسان القديمة.
لعل هذه الأطر المتداخلة تشير إلى أن الرواية تتداخل موضوعاتها وتشتبك قضاياها، بحيث يكون على القارئ أن يتسلح بالدقة وأن يغوص إلى عمق الأشياء لفهمها، لأن النظرة السطحية البسيطة كثيرا ما تكون خادعة. كما أنها أيضا تدل على أن الروائي يعالج موضوعة بنظرة مزدوجة: طولية تذهب في عمق الماضي للتفتيش عن الحقيقة فيه، فما الآن إلا انعكاس وتطور لما مضى، وأفقية تتبع أهم ملامحه في الحاضر مع التركيز على كل دقائقه وتشعباته.
ويظهر اسم المؤلف "واسيني الأعرج" في أعلى الصفحة وتحته بتشكيل أكبر العنوان الرئيسي للرواية " ذاكرة الماء. وتحته التأطير الموجود فيه صورة الباب ثم العنوان الفرعي "محنة الجنون العاري" بتشكيل أصغر من تشكيل "واسيني الأعرج" وتحته بتشكيل متدرج في الصغر "رواية " ثم تحتها "منشورات الجمل".
ويبدو أن أهم ما يشد المتلقي في الغلاف الأمامي هو صورة "الباب" وكذا التشكيلات التيبوغرافية لاسم المؤلف والعنوان.
يقف الباب من البداية في وجه المتلقي متحديا، مغريا، حتى تتحول القراءة لديه إلى هاجس فتح الباب الذي يحلم منذ البداية أن يلج عالمه، إنه مثل باب "اللحية الزرقاء" الذي يقدم لأزواجه دائما جميع مفاتيح القصر ويمنعهم من اقتحام باب بذاته، فيغريهم لذلك به، خاصة أن العنوان الفرعي قد كتب أسفل منه وكأنه عنوان له: "محنة الجنون العاري" إنها محنة - إذن- اقتحام هذا الباب لأنه باب مغلق على كل ما هو محظور وإذا تم فتحه، فستتعرى جميع الحقائق التي كانت خفية. ثم يقدم الروائي للمتلقي - كما اللحية الزرقاء - المفتاح بعد أن حذره منه وهو "رواية" ليصبح تحدي هذا الباب المحنة يمكن في قراءة الرواية.
(2) ينظر: الرواية ص7.
يضع الروائي القارئ بإزاء معرفة مخبوءة يغري بها فتح الباب في لحظة تأزم قصوى بين اختياري القراءة أو اللاقراءة وإن كان وضعه الباب المقفل في وجهه إغراء كافيا بالقراءة، مادام الحظر دائما مسكونا بالرغبة في تجاوزه.
يبحث المتلقي يعن سبيل لمعرفة سر هذا الباب دون أن يلجه، فيجد أعلى الصفحة اسم الشخص الذي يعرض عليه هذه المعرفة المشروطة بالمحنة، "واسيني الأعرج" وبعده العنوان الرئيسي "ذاكرة الماء" الذي يحتوي "واسيني الأعرج" بتشكيله الأكبر منه، فيدرك أنه بإزاء ذاكرة تفوق ذاكرة الكاتب ثم يعاود قراءة عنوان الفرعي الذي تندرج تحته مباشرة لفظة "رواية" - المفتاح- بذلك- اقتحاما لعالم الجنون الذي يهزأ بالطابوهات الاجتماعية، الدينية والسياسية، ثم تأتي بعد ذلك عبارة "منشورات الجمل" بين خطي ألف الجنون وألف العاري وكأنها بين حاجزين يحددان دورها، وهو نشر الجنون وحمايته ثم يعرف المتلقي بتصفح سريع لأولى صفحات الرواية أن الباب هو باب من أبواب تلمسان القديمة، وتقف هذه الجملة كالغصة في حلقة، لأنه لا يعرف من أمر هذا الباب شيئا، هل هو باب بيت، أم قصر، أم مسجد أم سجن أم مدينة أم هو باب ينفتح على تلمسان التي تنفتح على الجزائر.
لماذا "تلمسان" بالذات؟ هل لأنها مسقط رأس الروائي وبالتالي ربما كانت الرواية عودة إلى مرابع طفولته المبكرة فيها. لكن الروائي قد جعل تشكيل "ذاكرة الماء" "أكبر من تشكيل" "واسيني الأعرج" وبالتالي فالباب أكبر منه لأنه يعود غلى تلمسان القديمة التي نشأت قبل مولده بآلاف السنين.
وكلمة تلمسان ذاتها، تحرك في القارئ مجموعة من الدلالات التي لا تخرج في مجملها عن إضاءة سبب اختيار الكاتب لباب من أبواب تلمسان ليضعه في مقابلة أولى مع القارئ يتوسط غلاف الرواية وتتحول لديه غلى علامة لغوية، تعود به للبحث في معنى القارئ يوسط غلاف الرواية وتتحول لديه غلى علامة لغوية، تعود به للبحث في معنى لفظة "تلمسان" ذاتها التي اضطرب المؤرخون(3) واختلفوا في بيان سبب تسمية المنطقة بهذا الاسم فيرى بعضهم أنها كلمة عربية مركبة من تلم أي تجمع وسان أي الإنسان حذف منها التعريف والهمزة والنون اختصارا. ويرى بعضهم أنها زناتية مركبة من تلم أي تجمع وسان أي اثنين أي أنها تجمع بين السهل والجبل أو بين البر والبحر أو هي لفظة زناتية أصلها ثلمسين. بمعنى عين، أي ينبوع الماء الذي تحيط به الأشجار.
(3)- ينظر: محمد بن عبد الرحمن، شاوش: باقة السوسان في التعريف بحضارة تلمسان.
- عاصمة دوتلة، بني زيان. ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر. 1995 ص49-50.
ولا يهمنا في هذا الصدد، ترجيح واحد من هذه الآراء والاستناد إليه في تحديد معنى كلمة "تلمسان" إنما إطلاق هذه الكلمة كإشارة حرة تثير معان مختلفة في نفس القارئ تؤكد له أنه ليس بإزاء مدينة واضحة المعالم والحدود، بل هو بصدد اكتشاف شكل الحياة ومعناها في مجتمع تختلف فيه علائق أفراده على مر التاريخ باختلاف ارتباطهم بالبر أو البحر بالسهل أو بالجبل، فيتحدد بذلك موقفهم من الأرض - الوطن/ الغربة الملاذ، أو القاعدة/ القمة.
إن الباب - إذن - يحجب هذا العالم، ويغري بولوجة ويعد بكشف أسراره وخباياه، وحماية ذاكرته خاصة من خلال التأطيرين المتداخلين. الذين - ربما - يشيران إلى سورى تلمسان القديمة الداخلي والخارجي الذين شيدا خصيصا لحماية المدينة والدفاع عنها.(4)
وبالتالي كان وجود الباب ضمن هذه الأطر تأكيدا واضحا على الرغبة في حماية الذاكرة - ذاكرة تلمسان- التي ليست إلا ذاكرة حياة التجمع الإنساني في أرض الوطن.
يصبح الباب بذلك أكثر إغراء أكثر إغراء... ولا غنى عن القراءة إلا بالقراءة
أولا: الألوان Les couleurs
الألوان سحر الوجود وسبيله للخلاص من الشحوب الباهت إدراكه بالشكل الأمثل، وقد اكتسبت بمرور الزمن دلالات معينة لاقترانها بإشارات ترتبط في النفس بمعان خاصة، تثير فيها أحاسيس متباينة ومتعدد.
ومن بين الدلالات الخاصة بالألوان نجد أن: الأزرق: يرمز للهدوء والامتداد اللانهائي، الأبيض: الصفاء، الأحمر: الأمل، البنفسجي: القلق والحيرة، الأسود: الحداد، الأصفر: النبل، البني: الذاتية والشخصية...
لكن الألوان تكتسب بتداخلها بعضها ببعض عن طريق ريشة الفنان دلالات جديدة إنها مثل اللغة، تحمل ألفاظها معنى خاصا في معجميتها فإذا ضمها السياق على معان مختلفة (5) و"واسيني الأعرج" أديب يتقن الصنعة الروائية، لأنه ناقد أيضا، ويدرك- من غير شك- دلالات الألوان فكيف لون الغلاف الأمامي لروايته؟
(4)- ينظر لمزيد من التوسع في معرفة أسوار تلمسان القديمة والحديثة: م.ن.ص 194-200
(5)- لمزيد من المعلومات حول دلالات الألوان، تدرجاتها، نغمتها الهارمونية، وقدرتها على عكس العمق، القرب أو البعد، وكذا أبعاد أخرى للألوان ينظر: parramion, José Haria: La couleur et le peintre. Bordas, paris 1970
يلاحظ أن الألوان التي تظهر في الغلاف هي:
- أزرق لازوردي bleu azure: يلون "ذاكرة الماء" و "الرواية" وكذا التأطير الموجود داخله صورة الباب.
- أحمر آجوري (قاني) grenat: ويلون اسم المؤلف "واسيني الأعرج" العنوان الفرعي "محنة الجنون العاري"، و"منشورات الجمل" وإن كان اللون يخفف في كل مرة تدريجيا.
- الأحمر: ويلون الخطان المتوازيان اللذان كتب بينهما اسم دار النشر "منشورات الجمل"
- الأصفر مخضر verre jaunâtre: ويمثل اللون الحائطي لمكان وجود الباب
- بني Marron: يتغمق بفعل الظلال حتى يصبح أسودا، ويمثل لون الباب ويبقى بقية الغلاف أبيض مشرقا، يلون الفراغات الباقية أما داخل الرواية فلا وجود للألوان، إذ يخط الروائي نصبه بالأسود على امتداد الصفحة البيضاء.
ما هي الدلالات الممكنة لهذه الألوان؟
يوحي اللون الأزرق بالامتداد واللانهاية "يعكس الثقة والبراءة والشباب ويوحي بالبحر الهادئ"(6) وهو إذ يلون "ذاكرة الماء" و"رواية" فهو يمنحها هذا البعد الامتدادي، فتصبح قراءة الرواية إبحارا عبر فضاء ممتد في زمن ممتد أيضا هو الذاكرة، فيمتلأ القارئ برغبة في ملامسة "الماء" المتدفق عبر اللون اللازوردي، الذي يزيد من شدة الإحساس بـ "الماء" وبمعرفة ذاكرته التي تتيحها الرواية، التي تكتسي بدورها مع هذا اللون صفة المطلق والتجدد والحياة، وتعد القارئ في هدوء أن تستعرض معه "ذاكرة الماء" ويصطدم المتلقي باللون الأحمر القاني الذي يعمق لديه الإحساس بالفجيعة لأنه يشبه لون الدم المتخثر، وهو إذ يقترن باسم المؤلف، وبالعنوان الفرعي ودار النشر، فإنه يؤكد هذا الإحساس أكثر، فهذا الامتداد اللانهائي لــ "ذاكرة الماء" ليس إلا محنة مجنونة للغوص في الأعماق المؤلمة الممنوعة في حياة رجل طقوسا كثيرة من الموت، فجاءت تحمل لونه.
أما بالنسبة للخطان الأحمران اللذان كتب بينهما اسم دار النشر فيشيران إلى الموانع ويوحيان بالطابوهات التي تحاول دار الجمل أن تكسرها بأن تشجع جميع الكتابات التي تهتم بتحطيمها*
(6) أحمد مختار، عمر: اللغة واللون. عالم الكتب، القاهرة. ط2. 1997. ص183.
* يرتبط الأحمر بالمزاج القوي وبالشجاعة والثأر وكثيرا ما يرمز غلى العاطفة والرغبة البدائية والنشاط الجنسي وكل أنواع الشهوة. ينظر: أحمد مختار، عمر، اللغة واللون ص189.
أما بالنسبة لصورة الباب فإنها تجمع بين ألوان ثلاثة: أخضر مصفر، بني مغمق بالظلال السوداء صمن إطار أزرق وهي بذلك تعطي للباب مع اللون البني طابعا ذاتيا يغوص في عمق الذاكرة إذ "يدل على الأهمية الموضوعة على (الجذور) على الأرض والوطن والشركة من النوع الخاص أو الأسري"(7) لكن هذه (الجذور) ذاتها محوطة بالأصفر المخضر وهو "من أكثر الألوان كراهية، وهو بدرجاته المتعددة يرتبط بالمرض والسقم والجبن والغدر والبذاءة والخيانة والغيرة"(8) بذلك تحتاج غلى رؤية جديدة وموضوعية لها حتى يتم تخليصها من جميع أوهامها مهما كان في ذلك ملامسة لبعض الجروح التي لم تندمل ومازالت تترف ألما، وهو ما توحي به الظلال السوداء.
أما الإطار الأزرق فإنه يدعو إلى بحث الذاكرة بكل ثقة وهدوء وتسامح أيضا رغبة في العودة إلى البراءات الأولى، واستعادة قوة الشباب وحيويته.
من ثم يصبح الغلاف موحيا بدعوة مغرية بالولوج إلى امتداد زمكاني في ذاكرة رجل يحمل في جوفه مدينة تحلم بغد أفضل، رغم كل الآلام التي مرت بها، والأحزان التي تترصد لها، والفجيعة التي تعيشها.
ثانيا: العنوان le titre
يعد العنوان *أهم ما يميز الغلاف، بل أهم ما يميز الكتاب، باعتباره سلعة يتم تعيينها بعلامة ليست منها، جعلت للدلالة عليها(9). وقد استرعى اهتمام الدارسين، فتناولوه في دراسات متعددة ** من جوانبه اللسانية والإيديولوجية والسوسيولوجية رغبة في الإحاطة بقدرته على الإحالة على النص الذي يعلوه من زوايا مختلفة.
(7) م.ن.ص 184.
(8) م.ن.ص 184.
* يرجع العنوان إلى مادتين "عنن" وعنا"، فلأولى تعني "الظهور" والاعتراض، والأخرى المعنى والقصد والعنوان وسم الشيء. ينظر لمزيد من الإيضاح: ابن منظور، لسان العرب. دار المعارف. القاهرة. م40. ص3139-3148.
(9) محمد فكري، الجزار: العنوان وسيميو طبقا الإتصال الأدبي ص15.
** التي قد نذكر مما ذكره منها هنري ميتران دراسات كل من: Francis feret et Andre Fontana Histoire et linguistique, les titres d'ouvrage aux VII siècle Publié dans le N°11 de langages en septembre 1968, Charles Grivel: "puissance du titre" qui forme un des chapitres de : production de l'intérêt romanesque, 1870-1880 Ed Monton 1973. Leo Hoelk pour une sémiotique du titre, documents de travail et prépublication du centre international de sémiotique N°20-21. Janvier 1970. etc... Voire : Mitterand, Henri- Les titre des romans de cuy des cars p90 Voir : Mitterand, Henri: les titres des cars p90.
ويشير "هنري ميتران" في هذا الصدد غلى مجموعة من الدراسات المتميزة للعنوان التي استعار منها المنهج والمصطلح ليقدم نظرية في تحليل عناوين الرواية بحيث يعين أهم الوظائف التي يضطلع بها العنوان كالآتي (10)
أ- الوظيفة التعينية (التسمية) (Dénominative): فالعنوان يحيل على مجموع العمل الروائي.
ب- الوظيفة التحفيزية*** (Incitative): وفيها يتحدث "ليوهوك" léo Hoélk، عن الوظيفة الذرائعية للعنوان والتي تتجلى في دورين له بإزاء الجمهور:
ب1- يثير العنوان الفضول، التصفح، الشراء أو الاستعارة ويجري بينه وبين القارئ المستقبلي عقدا يعده فيه بمعرفة ولذة من خلال كلمة الرواية، من ثم يبرز دوره الاستباقي والإيهامي، فهو يقول ولا يقول.
ب2- يوجه سلوك القارئ نحو نوع ما من فك التشفير، يستمر مؤثرا عليه طوال فترة القراءة. من ثم فهو يعلم كيفية قراءة النص.
ج- الوظيفة الإيديولوجية (Idéologique): بتقديم شبكة قراءة تساعد على تحديد البعد الإيديولوجي الذي يوحي به العنوان.
د- تناصية العنوان (L'intertexte des titres): فالعنوان مرتبط بنصه وكذا ببقية العناوين التي تنتمي معه إلى نفس الكاتب أو النوع أو الحقبة.
هـ- نموذج بينه العناوين (Le modèle de structure des titres): ويتمثل مجموع الملامح الوظيفية، التي تسمح للدارس بتحليل البنية المورفو- نحوية، والبنية الدلالية لعدد من العناوين التي يمكن إدراجها ضمن مجموعة واحدة.
وتبقى وظائف العنوان كثيرة ومتعددة وتظل طرائق دراسته متنوعة حسب زاوية تناوله سواء أكانت لأغراض سوسيولوجية، لسانية أو تواصلية.
(10) voir: Mitterand, Henri : les titre des romans de Guy des Cars pp90-94
*** يرى رولان بارت أن العنوان يعين الكتاب باعتباره سلعة تحدد بملامح معينة كما أنه يشتهي القارئ لتناوله واقتنائه، وقراءته طبعا. ينظر: Sémiologique p335.. Barthes, Roland: L’aventure
لذلك كان اختيار العنوان أمرا بالغ الأهمية عند الكاتب، وبالغ التعقيد والحساسية عند الدارس يخضع لقدرة عالية لاختزال الرواية في تشفير معين، يحاول الدارس أن يفكه ليقرأ الرواية في ضوئه، ثم يقرأ الرواية ليعاود فك تشفيرة من أجل إعطاء الرواية بعدها الدلالي وعلاقتها المشيمية بعنوانها في مرحلة تالية. وذلك بالاستعانة بجميع وظائف العنوان التي أشير إليها من قبل.
كيف اختار "واسيني الأعرج" عنوان روايته؟
تتيح رواية "ذاكرة الماء للقارئ أربعة عناوين:
- ذاكرة الماء: العنوان الرئيسي.
- محنة الجنون العاري: العنوان الفرعي.
وأمام هذا التعدد في العنوان مشكلة رئيسية تتمثل في بيان العلاقة الرابطة بين هذه العناوين.
إذ يواجهنا في صفحة الغلاف عنوانان، أحدهما رئيسي (ذاكرة الماء) والآخر فرعي (محنة الجنون العاري) نجد صعوبة في تحديد الوظيفة الإعرابية لهما:
أ- يمكن اعتبار العنوان الفرعي بدل كل من العنوان الرئيسي يرتبط معه بعلاقة مزايلة أو تعويض.
ب- يمكن اعتبار العنوان الفرعي خبرا لمبتدأ هو العنوان الرئيسي، لكن وجود كلمة "رواية" أسفل "العنوان الفرعي" يدفع إلى الاعتقاد بأنها الخبر.
ذلك أن كلا العنوانين لا يشكلان في استقلالهما جملة مفيدة، إلا في ضوء علاقتهما المفترضة بالنص الذين هما عنوان، أي الرواية، بحيث نعتبر العنوان مبتدأ لخبر تتيح معرفته قراءة الرواية، من ثم كانت لفظة رواية خبرا للعنوانين
وكلمة رواية - الخبر - لا تقدم خبرا، بل تدفع إلى فعل التعرف على مكنون الخبر عن طريق قراءة الرواية ليستقيم لدى القارئ فهم العنوان، فيكون الإعلام محررا لسلطة العلاقة الإسنادية بين المبتدأ والخبر فيصبح العنوان علامة "حرة يجتذب إلى ما يمكن أن يبني به نصيته، وبعد تتوجه هذه النصية إلى العمل مرة أخرى لتضيء غوامضه وتفك رموزه، وتعيد توزيع عناصره مقدمة لتأويل العمل مجموعة معطيات لا يمكن - بحال من الأحوال - بناء نصيته بدونها"(11) مما يساهم في خلق دلالة دينامية للعنوان، الذي يبني دلالة الرواية، ثم يعاود الإنبناء مرة أخرى، بعد قراءتها، ليقدم أخيرا قراءة جديدة لها في ضوء دلاليته القائمة بعد قراءتها.
وانطلاقا من مقارنة تركيب العناوين نجد:
ع ر= مضاف + مضاف إليه.
ع ف= مضاف + مضاف إليه + صفة
وباعتبار العلاقة بينهما بدل كل من كل نجد:
فالذاكرة/ المحنة، الماء/ الجنون. أما العاري فلا يقابلها من ع ر، صفة للماء، ربما لأن الروائي يريد أن يطلق الماء ولا يقيده ليمنحه القدرة على الانسياب والتدفق، وذلك ما يحدث خلال الرواية التي تتداعى فيها المشاعر والذكريات والآمال والمخاوف في حركية دائمة بين الماضي والمستقبل رغبة في رسم ملامح - الماء- الحياة من خلال الذاكرة.
وتصبح الذاكرة محنة بسبب انقطاع مادة الذاكرة عن موضوعيها، فكل شيء تغير بشكل رهيب: المدينة، الناس... يقول الراوي واصفا هذه الذاكرة المحنة التي تستعيد تفاصيل لم يعد لها وجود لكنها تلح على الذاكرة بقوة:
"كلهم ذهبوا يا ريما، انقرضوا مثل النبتات النادرة. لم يبق إلا أصداء أماكنهم وظلالهم المنكسرة. كل شيء اندثر. الدنيا لم تعد دنيا. والناس لم يعودوا أناسا، والسوق لم تعد سوقا، وإحنا ماناش حنا."(12)
(11) محمد فكري، الجزار: العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 ص118
(12) الرواية ص129.
فمحنة الذاكرة إذن تتمثل في انمحاء مقابلها المحسوس في الواقع، مع عدم قدرتها على الانمحاء، حتى تصبح ذاكرة هذه الحياة 'الماء) محنة توازي الجنون نفسه.
وإلى جانب هذا التعالق بين (ع ر) و(ع ف) يؤسس كل منهما فضاءه الدلالي عن طريق توضيح العلاقة بين الذاكرة والماء وبين المنة والجنون العاري من جهة أخرى، والتي يلاحظ أنها علائق افتراضية في الدلالة التوليدية*، لأن الانحراف الدلالي فيهما يعود إلى أن المكون "ذاكرة". يحتوي على المقوم الدلالي (+ إنسان) بينما المكون الماء يتضمن المقوم (+ المحسوس)، وبالتالي يوجد تناقض في العلاقة الإستنادية والمشجران التاليان يوضحان الدلالات التفسيرية** حتى يتم تحديد بعد الانحرافات الدلالية بشكل أفضل:
*لمزيد من التوسع في هذا الصدد يطالع: عادل فاخوري: اللسانية التوليدية والتحويلية دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت 1988 ص75-81.
** لمعرفة كيفية الوصول إلى تحديد الدلالات التفسيرية لجملة ما ينظر: عادل فاخوري: اللسانية التوليدية والتحويلية ص53-59.
ومن خلال تحديد بعض المقومات الدلالية للعنوانين، يمكن فهم العلاقة الرابطة بين ركني الاستناد وكذا بين العناوين.
فالروائي يضع الذاكرة باعتبارها كتلة تمتد في حركة انفتاحية على الماضي بازاء الماء المتدفق دائما إلى الأمام، ليعطي للماضي بعده المتجدد، ويتتبع أفاعليه في المستقبل الذي هو نتاج حتمي له. فما يحدث في الجزائر اليوم ليس وليد الآن. إنه نتاج البنيات المهترئة التي عملت الاستقلال على استلاب الشغب وسرقة مكتسباته.
تكسر الذاكرة انغلاق المحنة رغبة في تفجير الجنون الذي ينجرف مع الماء وينساب معه لفضح كل المكبوتات وتعرية جميع الطابوهات.
أما بالنسبة للعنوانين الجزئيين: "الوردة والسيف"، "الخطوة والأصوات".
فيمكن عرضهما بالشكل التالي:
العنوان I:
يلاحظ أن الروائي يضع الوردة باعتبارها كائنا طبيعيا جميلا يرمز للحب والمستقبل والجمال ويبشر بالربيع والحياة، بإزاء السيف، وهو صناعة إنسانية يرمز للقتل والدم والموت. يضع الطبيعة بإزاء الإنسان. الكائن الجميل بإزاء وحشية الإنسان وشهوة القتل لديه. ورغم هذا البون الشاسع بين اللفظين (وردة/ سيف) فإن واو العطف تجمع بينهما، وتجعل كلا منهما في مقابل الآخر في علاقة صراع ضدي تقوم على مفهوم الزمنية.
فالوردة بشارة الربيع، واستقبال للزمن الآتي، والسيف مصادرة للزمن المستقبلي وإعدام له. من ثم يتعمق الصراع بين الوردة لقدر الانتهاء فإنها لا تستسلم لموتها المؤكد إلا بعد أن تعيش ما قدر لها من حياة "وردة" تسخر من السيف الذي يترصدها بالموت وتصر على استنفاذ حقها في الحياة حتى آخر قطرة. وهو ما يؤكده الراوي. بقوله:
"أتمنى إذا صادفني القتلة، أن لا يجدوا شيئا يأخذونه مني. أريد إفراغ قلبي قبل أن أنتهي على أيديهم أو على أيدي غيرهم. ولهذا أتمنى أن أقول كل شيء في ظرف قصير"(13).
إنه يصر على حقه أن يكون "وردة" يعيش ممتلئا بالحياة، ويستقطرها حتى النهاية. فإذا جاءه الموت، لم يجد ما يأخذه منه.
إن هذا الصراع بين الموت والحياة هو أيضا صراع بين المرأة والرجل، فالوردة أنثوية، والسيف ذكوري، وفي ذلك أيضا إشارة إلى تصميم المرأة على انتزاع حقها في الحياة والأفراع من الرجل المعلق سيفا على رقبتها يمنعها من العشق والتفكير والصراخ.
وتؤكد "مريم" ممارستها لحق الحياة، حين يطلب منها والدها أن تأخذ من القتلة:
" - يا بابا، أنت قلت لي، اللي يسكت على الشر شماتة، وأنا ما عندي إلا لساني نهار اللي نجي بين يديهم خليهم يديروا واش يحبوا.
- معك حق ولكن ابنادم يستحفظ على روحه على الأقل.
- عندما تقف أمام قاتلك الأحسن أن تصمت، لأنه سيقتلك.
علينا أن نواجه بعينين صافيتين، نحن الآن نقف أمامه على الأقل نفضحه.
الموت كاينة وتكون"(14)
إنها تؤكد انه إذا كان الموت قدرا، فالحياة حق. من ثم استطاعت ثنائية الوردة/ السيف أن تؤكد أن زمن الحياة لا يحسب بالأيام والشهور والسنين، ولا يتأثر بالخارج الذي لن يستطيع مصادرته، إلا بالاستسلام له، بل بعمق الإحساس بالحياة وعيشها حتى ولو كان ذلك للحظة.
وبالتالي استطاع الراوي أن ينفتح من خلال هذا الإصرار على الحياة، على ذاكرته رغبة منه في جعلها تعيش بعده، وتقول حياته، إذا اسلم جسده للقتلة.
العنوان I I:
إن الإصرار على ممارسة الحياة يتجلى في القسم الثاني من الرواية، حين يصمم الراوي، رغم الحظر والخطر أن يخرج إلى شوارع المدينة التي ينام فيها القتل المجاني لانفاذ برنامجه الأسبوعي الذي يختزله - دائما - في يوم واحد.
تصبح كل خطوة محسوبة بدقة، تنبئ عن إحساس داخلي عميق بالخوف والترقب يقول: "كلما خطوت خطوة إلى الأمام تزداد المسافة بعدا وتتحول إلى قيامه"(15) و "يقصر طريق المدينة بسرعة، عندما يصير طريقا يؤدي إلى الموت. إلى القاع"(16)
وإذا تزداد المسابقة اتساعا بين البيت والعودة إليه من جديد، تتقلص فرص الحياة، وتتضاعف احتمالات الموت، كما تزداد الأصوات كثرة وتداخلا بنفس الراوي، فهي تؤنسه حينا، وتضايقه حينا آخر، تأتيه من الذاكرة مرة، وتغوص به في تفاصيل كابوسه اليومي مرة أخرى.. وهو في ذلك يحول هذه الأصوات المختلفة إلى لغة مقروءة.. رواية.
لكن الخطوة المفرد تصميم على مواجهة الجمع بأصواته العديد ولغته الوحيدة التي لا تعرف إلا الصمت على الجرائم أو تشجيعها بالصمت، لأن كل الذين يرفضون يبادون الواحد تلوى الآخر حتى تقتل أصواتهن وتختزل أصوات البقية في النهاية إلى لغة الخوف والجبن التي يجهد الراوي من أجل تحويلها بدوره إلى لغة جمع تتعدد بتعدد القراء.
من ثم يصبح الجمع بين الخطوة والأصوات نفسه، شكلا من أشكال مقاومة الوردة للسيف فتصبح الرواية انفتاحا حياتيا متجددا على قدر الوجود ومحنة ملامسة طابوهاته وتعريتها أثناء التنقل المستمر بين المكانين الحاضر والغائب، رغبة في استخلاص آخر قطرة من الحياة وتحويلها إلى كتابة مع الإصرار على رغبة الرودة في العيش رغم خطر السيف الذي يتهددها ورغم صراع الأصوات العنيف - داخل النفس وخارجها - بين التحدي والنكوس أي أن هذه العناوين جميعا، تسهم في خلق دلالة موحدة للفضاء الذي يتحرك فيه الراوي، والقارئ معه، ولا يخرج في مجملها عن معنى الصراع بين الحياة والموت في جميع صوره ومظاهره.
(15) الرواية ص214.
(16) الرواية ص204.