الرواية والحداثة عند واسيني الأعرج فاجعة الليلة السابعة بعد الألف رمل الماية نموذجا

الأستاذ: رشيد قريب جامعة منتوري قسنطينة كلية الآداب واللغات
الأستاذ: رشيد قريب جامعة منتوري قسنطينة كلية الآداب واللغات
قسم اللغة العربية وآدابها حين نقرأ واسيني الأعرج نشعر باستمرار أننا أمام كاتب متميز له قدرة كبيرة على التحرك في عالم اللغة، كما أن له دراية عظيمة بفنون الكلم والتعبير، وقد تهيأ لواسيني الأعرج ما لم يتهيأ لغيره من الكتاب في الجزائر، فهو يحسن اللغة الفرنسية ويجيد الكتابة بها أيضا زياد, على إتقانه اللغة العربية كتابته بها. ولهذا فإنه من الروائيين الجزائريين القلائل جدا الذين نجحوا من خلال إبداعهم الأدبي أن يتجاوزوا حدود الوطن، ويفرضوا إنتاجهم الروائي في مختلف أرجاء الوطن العربي- ورغم كون إبداعات واسيني الأعرج يتزايد عددها باطراد، فإن الاهتمام النقدي إنتاجه قراءة نقدية جادة كفيلة بموقعته ضمن الإنتاج الروائي العربي الجديد الذي ساهم في إقامته روائيون من قبيل هاني الراهب وعبد الرحمن منيف ونبيل سليمان والغيطاني وبركات والخراط وصنع الله إبراهيم وأصلان والقعيد وآخرين من مختلف البلاد العربية(1)
ونحن هنا سنحاول الوقوف عند أهم الخصائص السردية التي تتميز بها الكتابة لدى واسيني الأعرج، التي اعتقد أنه يشترك فيها مع جملة من الكتاب الآخرين.
1- إن النص يعمي فيما يعنيه البنية الأكثر إيقاعا ومعاينة... وهو عند اللسانيين يشير إلى متواليات من الجمل المترابطة المتعاضدة فيما بينها، مشكلة استمرار وانسجاما يعطي مفهوما ومدلولا معينا،وانطلاقا من هذا التوالي تتحدد إيقاعية القراءة، إن النص أيضا جملة من الفقرات والفصول والصفحات وتبعا لذلك فإن النص أو البنية النصية موجودة في أي عمل كيفما كان نوعه، وذك على اعتبار أن أي نص هو خطاب أو فعل لغوي ينجزه كاتب ضمني لقارئ ضمني وهذا القارئ يستفزه توالي الجمل ويجلب انتباهه الترابط الذي يميزها وذلك على مستوى البنية السطحية لتحصيل المعني.
إن مثل هذه الأفكار تكررت كثيرا ووردت على الخصوص عند فاولر الذي أشار إلى أن فعل الإثارة يحقق المظهر الإبداعي للنص، ولهذا فإن النص المنساب المسترسل يسهل المهمة على القارئ فلا يتعب في تفكيك رموزه ولا يرهقه إعادة تصفيف الأحداث، ومع ذلك فالقارئ المتراضي المتخاذل لا يمكنه الحصول على معنى النص الذي ينتجه منتجو الروايات الجديدة التي تعتمد التهويش والتدمير الزمني، يمكن اعتبار رواية "رمل الماية" واحدة من هذه الروايات التي تتطلب قراءة متأنية للحصول على المعنى أو الهدف الذي سعى الكاتب واسيني إلى تحقيقه.
إن القراءة بوصفها وسيلة أكيدة ومفتاحا نتج بواسطة النص الجديد فهي تعني عند إيكو "الاستنباط والتكهن والاستنتاج من نص ما سياقا ممكنا ينبغي على ما تبقى من القراءة إما أن يؤكده وإما أم يصححه ويستخدم القارئ في عمله التكهني ما يسميه إيكو "المدخر أو الموسوعة"(1)
من هنا نفهم أن النص جملة من الاحتمالات الممكنة التي تطرح نفسها على القارئ وعن طريق الإغراء تفرض واحدة من هذه الاحتمالات نفسها على القارئ، ولكن القارئ يمكنه بدوره أن يساهم في ترجيح إحدى هذه الاحتمالات على حساب غيرها، ويكون ذلك بتدخل الرصيد المعرفي والمخزون الثقافي والفكري لدى هذا المتلقي.
إذا عدنا إلى الرواية، رواية "رمل الماية" فإننا نكون أمام جملة من المتاهات ومنها "متاهة العنوان"، "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف"، فالتساؤل الذي يطرح نفسه هو: ما علاقة العنوان بالحكايات الشعبية العربية، "ألف ليلة وليلة" ثم لماذا الليلة السابعة؟ وأين ذهبت الليالي الأخريات؟ وأين يكمن التقاطع والتناص بين الشخصيات في رواية واسيني ومثيلاتها في الحكايات الشعبية؟ يستمد القارئ تفسيره أو إجابته عن أحد هذه التساؤلات من خلال الرجوع إلى مخزونه المعرفي، وبقدر استطاعته الربط بين هذا المخزون وما تكتنفه الرواية تتحقق لدى هذا القارئ الراحة الفكرية، على أن كل قارئ يعتقد عادة أن مفهومه للنص هو الصحيح، ولكن الواجب عليه أن يحترم آراء الآخرين وفهمهم ولا يسعى إلى تحطيمها أو إهمالها.
من هنا صارت القراءة مصطلحا نقديا له علاقة بانفتاح النص وتعدديته وبديمقراطية الناقد الذي صار يسمي عمله الذي يقوم به على النص "قراءة" فهو بهذه الطريقة يترك المجال لأقوال أخرى، وتأويلات تعيش بجانب أقواله وتتعايش معها.
إن واسيني الأعرج يمارس على نصه جملة من التقنيات السردية التي تتعلق بالمستوى الزمني كالاستياق والاستشراف، والنص الذي نحن بصدده مترامي الأطراف لأنه يمس مساحة زمنية شاسعة ولكنه مضغوط مركز أيضا، لأنه يحاول معالجة وضع برز خلال زمن معين، إنه يعطي لنفسه إمكانيات تجاوز الواقع عن طريق الحلم، وقد زواج بين الواقعي والخيالي بطريقة ذكية، وحتى بعض الشخصيات التي أخذت لها اسما مزيجا بين الاسم العربي واللقب الأجنبي فإنها تعطي آخر لهذه الشخصية، مثل بسير الموركسي مثلا.
كل هذا يكفل لنص واسيني الأعرج بعدا مدلوليا وارفا ويحقق للقارئ لذة البحث والتنقيب ويمكنه من الحصول على الراحة التي تسبه استراحة المحارب.
2- إن قارئ واسيني يحس أنه يغوص ضمن النص ويضيع في قلب جملة من المعلومات التي يعج وتتراوح محتشدة متآزرة أو متقاطعة وفق نمط سردي مرسوم بإتقان.
وماذا عن نص فاجعة الليلة السابعة بعد الألف"؟ أود في البداية أن أسوق جملة من الملاحظات التي استوقفني عند قراءة هذه الرواية وبعد الانتهاء من ذلك وهي: ينتمي الكاتب إبداعيا إلى الثمانينيات والتسعينات رغم أنه لا يزال يمارس الكتابة إلى الآن.
عاشر واسيني الأعرج مختلف الطروحات الإيديولوجية التي علاقتها الجزائر واحتك بها فاعترف من مآسيها وشرب من همومها حد الثمالة.
للكاتب قدرة كبيرة على التأقلم مع المناهج الجديدة وهو على اتصال مستمر بالمنابع المعرفية في الوطن العربي وخارجه.
لديه جرأة بالغة في اقتحام الممنوع وكسره ويبدو على مستوى اللغة والمواضيع المطروقة أيضا.
يعترف واسيني الأعرج من الأصول والتراث ويتجلى ذلك عند مقاربة التاريخ إلى الواقع الراهن.
3- تتميز الكتابة لدى واسيني الأعرج بخصائص متعددة منها الجمع بين الواقعي والأسطوري والعجائي والمجاورة بين الأزمنة على نحو يفاجئ وقد يربك، ولعل أهم هذه الخصائص أنها حوارية، أي أنها تقوم على الحوار وتدعو إليه وتمارسه، ويتجلى ذلك في مستويات متعددة في هذه النصوص وفي النص الواحد أحيانا، فالقارئ لنص واسيني الأعرج يعثر على طبقات متجاورة من اللغة تتصل بالمستويات والأصول لفاعلي اللفظ والملفوظية(2)
وهي في الرواية المذكورة تتجلى في حكايات (البشير المورسكي) والمنصور أب يوسف يعقوب الذي أحرق كتبه وسائر كتب الفلسفة ومنع الاشتغال بالعلوم. وفضلا عن تجاوز اللغات فإن السيد الأعرج يقيم حوارا بين نصوص متعددة من التراث والمعاصر والحديث وحكايات ألف ليلة وحديث العوام وغير ذلك.
وهكذا فإن نصوصه تمد رأسها إلى الماضي والقديم وتحيا موصولة إلى نصوص روائيين كبار أو مشاهير المفكرين أمثال الحريري وغيره، يقول: "كفرك الحريري، الشيلي تكوم داخل نفسه وظل يسائل نفسه ويغمض عينيه ويتذكر لذاكرته"(3)
إن واسيني الأعرج وهو يكتب إنما يريد أن يخرجنا من أنفاقنا وأن يترع عنا نفاقنا وكبرياءنا الكاذب فنحن نعيش واقعا متفاعلا متحركا بما فيه من قيم هابطة تحط من قدر الإنسان وإنسانيته، ولهذا نتحول إلى كائنات من ورق تبحث عن المراسي.
تتحول الكتابة عند الكاتب إلى وسيلة لممارسة الحرية ففيها تبدأ الحرية عبر اختيار الأسماء والألوان والأماكن والأشكال والملابس وكل ما يرتضيه أبطاله، حتى الإيديولوجية تكون تابعة لمسار يقترحه الكاتب على أبطاله.
مع ذلك فإن الكتابة تغدو لديه أحيانا أخرى ممارسة للفوضى بمعنى أن الكاتب يسعى عن طريق مخالفة السائر إلى إثبات الذات والرأي، وبهذا تكون الكتابة تحقيقا للتقاطع الحاصل بين الذاتية الخاصة مع الاجتماعي العام ولكن انطلاقا من وجهة نظر يقوم بها الكاتب.
فحرية الكاتب هي حرية الذات في أن تهدم وأن تؤسس وأن تنضبط وأن تتمرد وأن تتنكر تماما كما تفعل دنيازاد حين تحاول إغراء شهريار.
كانت دنيازاد قد عادت لتتربع في لباسها الشفاف جدا الذي كان يظهر كل خبايا جسدها داخل حمرة القاطيفا المعلقة على الحيطان والتي كانت تعكس ظلاها على جسدها وعلى وجه شهريار"(4)
ثم تلاحظ المفارقة التالية:
"يتمتم (شهريار) داخل فراغات شوقه المدفون في الذاكرة ابنة الكلبة"(5)
المفارقة التي أقصد تتعلق بالتعبير الأول الأنيق والتعبير الثاني المستوحى من المستوى الشعبي.
إن رواية "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف" تحققي تعايشا لنص عقلاني يتم الترميز له ونص آخر عجائي خرافي مستنبط من التراث، وتتم خلاله معاشرة الحكايات المعروفة في الثقافة الشعبية العربية وهي حكايات ألف ليلة وليلة - وهذا يتم تجاوز الليلة الواحدة بعد الألف بستة ليل، وهذا النص الروائي شبيه بما عرف من حيث البناء، والمقاربة هنا هو أن الروية في ثمانية فصول موصولة بعضها إلى بعض بأكثر من سبب ويكفي أن نذكر بأنها واقعة ضمن حكايات تنتمي إلى الليلة السابعة بعد الألف، وتتصل بحياة شخصية تبدو وهي البطلة للرواية وهي من المورسكيين.
بينما هي التاريخ داخل النص الروائي ولعله يكون مباشرا في بعض الأحيان كما يبدو في المقطع:
"وصلت النيران إلى علو غير محدود، وضعوهم داخل الجمر، ثلاثة وسبعون الدلسيا، كان ذلك في اليوم الأول من الشهر الحادي عشر أضافوا ثمانية وعشين آخرين أحرقوهم أحياء..."(6)
فهناك إشارة إلى التنكيل بفلول المسلمين الأندلسيين الذين حاولوا التشبت بوجودهم في اسبانيا.
يمكن تسمية هذا النوع من السرد سردا تاريخيا وهو يتم بأشكال مختلفة أبانت العلاقة التي أنشأها الراوي مع مراجعه.
إننا أمام نصوص تستطيع القراءة أن تحولها بما ترسب في ذاكرتها الشعبية إلى مؤازر للنصوص الفصيحة أو التاريخية ويدخل بعضها مباشرة من الثقافة الشعبية إلى الرواية كما هو الحال في المثال التالي:
أعماق أقرب الزهور البرية
يالبحر با لهبيل
راويني بملحك نبرا
يا البحر يا الحنين
غرقني بين الموجة والموجة
جبيت نرقد
وحبيبي ضاع
داويني بملحك نبرا
يا البحر يالهبيل
الذاكرة الشعبية والواقع اليومي من هذه الرواية ورافد من روافدها ينتج للرواية تنوع مصادرها وتجربة منافذ أخرى، بإشراكها في خلق الفعل الروائي.
4- تمتاز رواية "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف" بأسلوب متداخل غني يميل إلى عدم التركيز على البؤرة المركزية إنما يتوزع على أفق الرواية لقد تجاوز الطريقة التقليدية في الاعتماد على التراث فدخلت الرواية بذلك "ضمن التجارب الروائية العربية التي أقامت لها علاقات خاصة بالتراث السردي العربي القديم مثل ما نجد في أعمال إميل جبيبي والغيطاني المسعدي والميلودي وسواهم".
والقارئ الحقيقي هو الذي يستطيع أن يتابع صاحب النص في كل كبيرة وصغيرة ورواية واسيني الأعرج هذه مليئة بالمعلومات التي تتعلق بشخصيات ثقافية أو دينية أو سياسية وخاصة بتلك الشخصيات الغائرة لفي أعماق التاريخ.
الليلة السابعة موضوع الرواية هي المساحة الزمنية الافتراضية للأحداث وقد تحدث الكاتب بلسان السارد المتكلم فقال:
"كانت ملامح الليلة السابعة قد بدأت بدون أن أعلم بها وقد استمرت لوحدها ثلاثة قرون وتسع سنوات بالتمام والكمال، في التقويم الهلالي لست متيقنا أني نمت في الزمن الذي تلا خروجي من الصراط المستقيم، لأن ما حدث لي وما رأيته كان حقيقة.
لم يكن شيخي مجرد حلم، فوجه أبي ذر ما يزال كالشمعة في ذاكرتي، وجراحات الحلاج تخط جسدي..."(9)
في الحقيقة - وكما سبق أن أشرت إلى ذلك في البداية، فإن هذه الرواية- وربما يمكن قول ذلك بالنسبة لمعظم أعمال واسيني- تتمتع برصيد غني ومعلومات مكنية تجعل فهمها عصيا للغاية وقد يحتاج تأويل النص الواحد إلى تأن وترو وثقافة عالية متميزة.
أنا النظائر فإنها طريقة مشوقة لم يكن القارئ ينتظرها لأنه ما دام في حضرة رواية متماهية في بعض أحداثها مع حكايات ألف ليلة وليلة فإنه يعتقد أن النظائر ستكون متشابهة لنهايتها- ولكن نهاية الفاجعة جاءت كالتالي:
"وضع شهريار الوسادة في فمه عض عليها بقوة وصرخ مع بحة كانت تسد صوته كالعضة
- "اتركيني قبل أن آكل رأسك"(10)
فشهريار هنا خانع ضعيف حتى فإن كان يقول بأنه يأكل رأسها.
5- ثمة خاصية أخرى تعود في كل مرة عند واسيني الأعرج وهي ما يمكن الاصطلاح عليه بالمزاج الحكائي، وهو سمة يحفل بها الخطاب السردي في أغلب الروايات، وقد يبدو للقارئ البسيط أن ذلك عابر، لكن الحقيقة أن هذا الأسلوب مقصود لذاته، وهو يدخل في صميم الدعاية الهادفة التي يحاول الكاتب من خلالها أن يقيم الحجة على الساسة وسواهم من الحكام، يقول: "كان المورسكي يروي الحكاية ومشاهداته لحكماء المدينة السبعة الذين كانوا يتتبعون فيه لحظة لحظة، وفجأة وضع أحد الحكماء يده على فمي- يقول البشير المورسكي- بهدوء وقال يتعقل، ونوع من الخوف سست... سست... يسمعه أعداء البحر والزرقة والأنداد... صوتك يصل إلى آذان القتلة، لليل عيون وللحيطان آذان... القدر يخطئ يا رابني في الكثير من الأحيان.
- أعرف ياسيدي- القدر يخطئ لأنهم هم الذين صنعوه"(11).
إن هذا التعليق الأخير يوصي باعتقاد الكاتب في إمكانية أن يخطئ القدر ولكنه يعطي انطباعا طريفا بأن الساسة والحكام يستطيعون تغيير ذلك، وهذا يدخل ضمن النقد السياسي.
ومن الملاحظات التي يمكن أن أسوقها أيضا، ما يتعلق بتعامل الكاتب مع الأرقام:
فاجعة الليلة السابعة بعد الألف (عنوان الرواية)
"كان الموريسكي يروي الحكاية وملاحظاتها لحكام المدينة السبعة"(12)
6- وهناك ظاهرة أخرى تشييع ضمن الرواية وهي، الانقفال المفاجئ من موضوع إلى موضوع آخر رغم أن ذلك لا يقتل النص ولا يلوي ذراعه بل يزيد في حلاوته ويزيد في شهية القارئ إلى معرفة المزيد.
الهوامش
سعيد يقطين. الرواية والتراث السردي، المركز الثقافي العربي- بيروت 1992: ط1، ص39.
دراسة الملفوظ في موقف كلامي معين مع الأخذ بعين الاعتبار وضعية المرسل والمرسل إليه والرسالة وسياقها.
واسيني الأعرج - فاجعة الليلة السابعة بعد الألف- رمل الماية
الرواية ص165
نفسه ص166
نفسه ص 198-199
الرواية ص 198- 199
الرواية والتراث السردي ص 49
الرواية ص 248
نفسه ص 251
نفسه ص 167
نفسه ص167