الحبيب السائح ولغة اللغة

السعيد بوطاجين
من مقهى "تشراك الفم" إلى "تامنطيط"
أفضل على غير العادة، أن أقدم لكم الحبيب السائح، عوض تقديم دراسة أكاديمية متخصصة لأن هذا التكريم بحاجة إلى إضاءة.
السعيد بوطاجين
من مقهى "تشراك الفم" إلى "تامنطيط"
أفضل على غير العادة، أن أقدم لكم الحبيب السائح، عوض تقديم دراسة أكاديمية متخصصة لأن هذا التكريم بحاجة إلى إضاءة.
يبدو لي هذا التكريم الذي خصّ به الكاتب، في محله تماما، ولو أن هذه التكريمات لا تتعدى جرعة معنوية ماتمحي في واقع مأساوي ذي علاقة سيئة بالعقل.
خلط ملط "تلك حالتنا، وعلينا أن نتصور حياة كاتب في قاع صفصف يفكر في مسائل فلسفية ولسانية. إن الأمر ليبدو أقرب إلى العبث منه إلى محاولة الكشف عما سيبقى بعد الانتهاء من تكديس الاسمنت في كل مكان.
لما حطت الطائرة بمطار أدرار، في ذلك اليوم القائظ، كنت على بينة من أمر واحد على الأقل. تذكرت ما كتبه لي الجيب السائح في رسالة مطولة: "من لا يعرف الصحراء لا يعرف الله." وهي فكرة سأستغلها لاحقا في أحد نصوصي.
بدت لي الصحراء معلما كبيرا آهلا بالعلامات الدالة على الشموخ والعبقرية التي لا حد لها. ورحت أتساءل عما إذا كان بمقدور إنسان قادم من مقهى" تشراك الفم" حيث صخب الخلائق "أن يتأقلم مع محيط قطني ليس بعيدا عن تامنطيط التي كان لها شرف استقبال ابن بطوطة وعنزته. من هناك مر التاريخ، مر أولياء وعلماء أفردوا كما تفرد الأرواح الكبيرة.
ثلاثة كنا، الأديب أحمد منور والناقد إبراهيم صحراوي وأنا، وكان القاص المسرحي الشريف الأدرع بانتظارنا، والرمال أيضا، وتلك الحرارة التي تجعل الكافر مؤمنا.
ليس من عادتي أن أرتبط بالمدن الميتة، تلك العمارات المزدحمة التي لاحظ لها، لا ماضي ولا مستقبل، وكانت أدرار بالنسبة إلى مجموعة علامات محددة. وإحدى هذه العلامات الصديق الحبيب السائح الذي وسم المدينة، وليس العكس.
ذاك الحنين، تلك المحبة وذاك الكوخ.
قرأت في جهة ما أن الأدباء الإغريق يعيشون سعداء في أثينا، عاصمة الفلسفة والمنطق والجمال والأشعار الخالدة، وعندما استقبلنا الحبيب في ما يشبه بيته بدت لي المقارنة من الكبائر. لقد كتب الرواية ذاك الحنين، وأوشك على الانتهاء من تلك المحبة. وإذا استمر في العيش هنا سيكتب ذلك الكوخ، أو ذاك القبو.
كانت الشقة خاوية بحيث يتعذر على أي فأر التفكير في ولوجها، بساط وأوراق وحسوب وطاولة صغيرة للأكل تارة وللكتابة تارة.
أعتقد أنها شاقة في صحراء الرب. كنت أسارر نفسي، وإذا فتح لنا غرفته شاهدت عقربا فوق السري، كان المنظر مثيرا للغاية، أما ما كان أكثر إثارة فهو التعليق الهادئ، للحبيب. قال: أنا متأسف جدا، لقد ماتت العناكب كلها، ما هي معلقة بلا روح، غبت أسبوعا فلم تجد عائلا. قال ذلك بمنطق الولي العاق الذي تخلى عن ذريته ولم ينفق عليها فيست جوعا، بيد أنه قتل العقرب قائلا: إن العقارب تحمل شرها في ذاتها، إنها ليست كالمخلوقات الأخرى التي وجب رعايتها.
حينها تذكرت ما كان بيننا من مراسلات، كنت أقول له إنه ليس من حقنا إهانة كائنات ترافقنا في هذا الكون، ليس من حق الإنسان الاستيلاء على الكوكب الأرضي لأنه يتظاهر بالقوة والذكاء، لا أحد خلق نفسه، لا سقراط ولا الضفدع، هكذا وجدنا، ولا أحد منا له القدرة على إبداع كائن مجهري تدب فيه الروح، كلنا صغار ومساكين، بما في ذلك الملوك والفراعنة. كم كانت تلك الرسالة رائعة، لقد احتفظت بها جميعها ولم أوافق الحبيب في مسألة العقرب، كنت أرى الحياة كلها قبائل من العقارب في الإدارات والمؤسسات الكبرى والهيئات الدولية، لقد ظلت أؤسس لرؤاي انطلاقا من طبيعة الفعل، من طبيعة أفعالنا المتوحشة، ربما خالفني السائح، لكن طروحاتنا كانت نيرة ومباغتة ومضحكة أحيانا.
البيت الميت، هكذا فكرت، ربما كانت الأفكار هي الكائنات الوحيدة التي بقيت حية ترافق الكاتب في تلك العزلة التي عملت الصحراء على تقويتها.
غير أن الكاتب بد مرتاحا مثل النورانيين القدامى الذين سلاما عليهم، كان يقرأ ويكتب، أكان يبحث عن حياة الزهاد! ربما اقتنع بذلك، ربما علمته التجربة أن الأسواق والمدن اللعينة هي أنجع للقضاء على التأمل والحضارة، على حدة البصيرة التي لا تعيش بالتجليات.
كان بهاء الجزائر ينحل تدريجيا: العقل والحكمة والمبادئ والجمال ومدن الدياثة، لابد أن السائح لاحظ ذلك، وذاك الحنين شاهدة، بقيت له الصحراء إذن، تلك الصديقة الهادئة الموغلة في تأمل الخلائق والمهرولين نحو كل شيء ولاشيء.
عندما مشينا في قرية تامنطيط فهمت أمورا كثيرة، حدثني الحبيب عن أشياء مهمة، بتواضع وبأناقة معهودة غدت إحدى خصالة البهية، ووقتها ازداد احترامي لمنطقة في مفهمة مسائل تبدو عادية ومنتهية بالنسبة للصغار والسطحيين وأولئك الذين يفكرون بأمعائهم، بدا لي أني أمام أديب يمتلك من الرؤى الصافية ما يكفي لتسويغ طرائق كتاباته وميلة إلى العزلة، كان يفكر جيدا، يستمع كثيرا ونادرا ما يدخل في جدل غير مؤسس، شأنه شأن الذين عافوا المناقشات المسيلة للدموع، أولئك الذين شحنتهم التجربة فاقتنعوا التجربة بأن التأمل يطهر النفس من أدران واقع مفلس إلا من الهرج.
لاحقة:
ذكرتني طروحات السائح بأمور كثيرة تناقشنا فيها يوم استضفناه بجامعة تيزي وزو بمناسبة صدور "ذاك الحنين". في الطابق الرابع حيث يقطن بيتي- وليس أنا- تحدثنا عن مستقبل البلد ومستقبل النص وتموقعات الكتاب الجزائريين في وقت يشهد انهيار مؤلما. كنا نتفق كثيرا، لم نكن مع كتاب الإدانة من أجل الإدانة، ولا مع كتاب "الحائط الواقف"، ولا مع الموضوعات الاستهلاكية التي راحت تحاصر اللغة والجمال، ولا مع الذين هاجروا لشتم وطن منحهم كثيرا ولم يمنحوه سوى الاستعلاء والتنكر. كنا نشبه هذه النخبة بأولئك الذين تخلوا عن ثورة التحرير ثم عادوا للقفز على المناصب. لقد كان الشعب كله مهددا، ولم يستثن العنف أحدا، بما في ذلك البدو التعساء الذين يرافقون إبلهم بحتا عن الكلأ والماء. أولئك الذين لا يعرفون ماركس والسيد قطب، ولا يسمعون ما تقوله الإذاعات، وليسوا على علم إن كان داروين حجرا صغيرا أم نبتة أم كثيبا، كان الشجر مهدّدا بالموت، وربما كان الموت بدوره مهدّدا بالموت.
لاحظنا بمرارة أن علينا إعادة النظر في مفاهيمنا الاستعجالية من أجل كتابة مسؤولة موضوعاتنا وفنيا ولغويا، لأن المرحلة الهشة ألقت بظلالها على الجمال وعلى الإنسان، وليس من اللائق في شرنقة محيط معتوه بامتياز لأنه غير قادر على احترام نفسه. أذكر جيدا أننا نعتبر نزول الكتاب إلى المستويات السوقية سيعجل بسقوط الأدب الذي لا يعي وظيفته الحقيقية ولا يحافظ على كرامته. ثمة خلط بين السياسي والأدبي سيسهم لاحقا في تسطيح النص وإدانته من حيث أنه لا يسعى إلى تكريس شخصيته المستقلة عن سلطة العلامة المعيارية. وقد أبرز التاريخ الأدبي أن الأعمال الخالدة لم تخضع أبدا لمنطق العرض والطلب، كان هنري ميلر يقول: "عندما أكتب أشعر أني جالس على قمة جبل الأولمب". أي ذكاء هذا! وذلك ما كان ينقصنا.
لاحقة أخرى:
في أدرار وحيث تحدثا كثيرا في مسألة لغة الكتابة، ويجب الاعتراف اليوم وغدا بأن الحبيب السائح كاتب فقيه، طاقة مدهشة لم تستثمرها الجامعة الجزائرية التي حاصرتها الشهادات والألقاب.
ثمة اعتقاد راسخ في الذهن: نحن أميون ولا نعرف سوى فتات اللغة، ومن يريد أن يتأكد من أمره فليعد إلى سيبويه أو الزمخشري أو التوحيدي أو ابن جني، لسنا سوى تلاميذ بؤساء. أما السائح الحبيب فيمثل هذا الشذوذ، ليس من حيث التنظير فحسب، إنما من حيث المعرفة وطرق استغلال هذه المعرفة ذات الأصول المتشبعة، بدءا بالكتب السماوية، مرورا بالتراث الإنساني، وصولا إلى الكتابات الحديثة والحداثية، وليس من السهل امتلاك كل هذا المستودع المعجمي في وقت لم يتجاوز حدود التأتأة، ومع ذك يدين لغة لا يعرفها أصلا، وكنا نضحك.
كان الحبيب ظاهرة لغوية وسيضل منقبا محترفا له قدرات فائقة في ميدان الحفريات اللسانية،وإذا أراد النقد ألا يعترف بمجهوداته، لسبب أو لآخر، لتموقع أو لتموقع مضاد فليس من حقه إغفال هذه الخاصة، وذلك أضعف الإيمان، لأن الحديث عن لغة هو حديث عن ملكة استثنائية، وليس من باب العبث أو الترف الذهني أن يعيد هذا الكاتب النظر في قدراتنا الإبلاغية، وسيكتشف الوقت أنه أدرك ما وجب إدراكه.
التقفيلة:
مزيدا من البهاء اللغوي.