الجازية والدراويش: " مرداد"، و"لقاء" محاولة في تلمس فعل التقاليد الأدبية

عثمان بيدي
إن الأدب العالمي قديمه وحديثه إرث مشاع بين الأدباء تحدر إليهم بطريق مباشر أو غير مباشر، وللأديب الحق في أن يستقي من منابعه كما يشاء، وهو أمام هذا الركام الهائل حر في اختيار ما يلائم غرضه، ويوافق هواه ضمن شروط العملية الابداعية. ووفق الذات المبدعة والرؤية الخاصة به القادرتين على تشكيل التجربة بهذا الشكل أو ذاك.
والتأثير والتأثر قانون سائد في الفكر الإنساني، لا يستطيع أي أديب مهما غالى في استقلاله أن يتحرر منه، وخاصة في وقت تكثر فيه مصادرنا المعرفية وتتنوع. ولعل أكثر الأدباء تجربة وأغناهم خبرة هم أكثرهم غوصا في هذا التراث وغرف من محيطه:
( شكسبير، غوته، بوشكين، دوستويفكي، وتولستوي، ماركيز نجيب محفوظ عبد الرحمن منيف... إلخ)، وهؤلاء في جدل دائم معه ومع عصرهم ولهذا كانوا أصدق تعبيرا عن روح العصر وجغرافية النفس الانسانية.
وهذا الجدل قد يصل ببعض الأدباء إلى (إعادة صياغة) بعض الأعمال الأدبية القديمة (يونانية أو رومانية) ومن عصر النهضة، مثل شكسبير وراسين وغوته وجيد وهيسة والحكيم وعلى سالم وغيرهم دون أن يتخلوا عن فرادتهم وعصرهم. ولم يكرروا هذه الأعمال وإنما أعادوا خلقها وفق شروط عصرهم وإملاء ذواتهم المبدعة ولهذا لم يعلب عليهم أحد فعلهم هذا.
والأدب الجزائري ليس استثناء في هذا، فهو ينتظم ضمن القانون يؤثر يتأثر، وكلما كان أكثر أخذا، كان أغنى تجربة وأخصب عطاء.
وفي هذا السياق يمكن النظر إلى "الجازية والدراويش" لعبد الحميد بن هدوقة وهي من الروايات المتميزة. ولا ريب أنها أفادت من التراث العالمي والعربي وهذه الإفادة تظهر في جوانب بارزة، وفي جوانب مستترة، وهذا بطبيعة الحال لا يلغي ذات الكاتب وقدرته الفردية على التشكيل وجهده في البحث عن التميز. ضمن التقاليد الأدبية.
وقد بين الزميل عبد الحميد بورايو هذا التشكيل المتميز من خلال دراسته الطيبة لزمان والمكان في هذه الرواية والغنى الفني الذي حملاه.
وما يهمنا نحن في هذه الدراسة هو الجدل القائم بين رواية "الجازية والدراويش" وروايتي ميخائيل نعيمة: "مرداد" و"لقاء" وصحيح أن هذا الجدل يتفاوت فهو يأخذ مداه في الأولى، ويضيق في الثانية.
ولعل هذا الجدل متأت أولا من كون جغرافية العملين: الجازية ومرداد (بسكنتا وأهل الحمراء) متشابهة إذ تقعان في جبال والصعود إليها صعب والطريق وعر ضيق وفي الطريق إليهما هاوية، ثم العزلة (المكان الروائي وربما المكان الجغرافي) وسيطرة رقم سبعة على الحياة، الماضي والمستقبل وفكرة الانتقال، والسجن، وهذا هو الاطار المكاني الذي تلتقي فيه الروايتان وكذلك الجو الأسطوري السائد. هذه الملاحظة الأولى.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بخروج بن هدوقة عن الشكل الذي كان يتبعه في رواياته السابقة: ريح الجنوب، نهاية الأمس، بان الصبح وأحداث قطيعة مع الشكل السابق، وهذه القطيعة نقلة في تجربته الروائية وفي الأدب الجزائري عامة إلا إذا استثنينا "نجمة" لكاتب ياسين وبعض كتابات ديب و"الحوات والقصر.. بلوطار وبوجدرة وهذا القطع الأسلوبي في تجربة بن هدوقة ربما يعود إلى انتشار ما يسمى بالواقعية السحرية على يد كتاب أمريكا اللاتينية وخاصة، غابريال ماركيز. وربما الواقع المتعقد تعقدا كبيرا في الفترة الأخيرة، وفقدت الثقة في اتجاه تطوره. أو اختلطت فيه اتجاهات تطور متعددة كلها لا يوحي بانغلاق الصبح القريب. فكان شكل الجازية الروائي والأنسب إلى معالجة هذا الواقع روائيا. ومن هنا اقترب إلى الجانب الأسطوري والسحري، وكان الاقتراب من "مرداد"، و"لقاء" أو بصورة عامة الاقتراب من عالم نعيمة الصوفي هو ثمرة هذه كله.
ولعل الجدل الناشىء بين "الجازية والدراويش" وبين "مرداد" يعود إلى ميزة تميز بها هذه الرواية – في نظرنا طبعا- وهي أنها رواية متعددة الأصوات أو تكاد. وهذا يظهر من خلال التشكيل الذي يوشح الرواية، ثم من تصريح للمؤلف إلى مجلة الحرية يقول أنه استلهم فيها فن الرسم والرواية الحوارية تعتمد على ما يسمى بمزج الألوان في الرسم أو مزج الأصوات في الموسيقى، وخاصية هذا الصنف أن يجادل كل الأصناف التي تدخل في بابه ومن هنا كانت علاقة "الجازية والدراويش" و"مرداد" و"نجمة" و"لقاء" و"ريح الجنوب"، و"نهاية الأمس" و"أولاد حارتنا" و"ألف عام من الحنين" و"مائة عام من العزلة"، و"قصة موت معلن" وغيرها، بل الأدب الشعبي والفلكلوري والكرنفال...إلخ.
ومادام الموضوع محصورا في الجدل القائم بين رواية "الجازية والدراويش" و"مرداد" فنقصر حديثنا في حدوده.
إن كتاب "مرداد" يتسم بالجدل بين الماضي والحاضر، الحاضر والمستقبل، الفرد والكل. الأرض والسماء، الجسد والروح، الانسان والإله، الأسفل والأعلى، منطلقا من عقيدة نعيمة التي تعتمد على الثنائية الصوفية الهندوكية المسيحية التي تتجمع المتناقضات وإلا ما كانت وحدة، وما يلاحظ في "الجازية والدراويش" أنها اكتفت من نعيمه بجدله فقط، ولم تنجزه بوحدة. ومن هنا خرجت من دائرته إلى فضاء الابداع الفني المتميز والمستقل (نسبيا طبعا).
الملاحظة الثانية هي أن الزمن في "الجازية والدراويش" زمنان أول وثان أو زمن ماض فردي وزمن عادي حاضر كما أشار المؤلف يتقاطعان، هذا الزمن نجده في "مرداد" زمنين: زمن مرداد الأسطوري – الذي علم نوحا "هكذا علمت نوحا وهكذا أعلمكم" التي يختم بها كثيرا من فصول الكتاب وهو زمن ممتد صوفي، وزمن شمادم المحدد والمرتبط بحياة الفلك.
والملاحظة الرابعة تتعلق برقم سبعة الذي يسيطر على الحياة في الدشرة والفلك.
والحق أن هذا الرقم (7) في مرداد هو تسعة، فإذا نزعنا مرداد وشمادم بقي الرقم "7" وهو الذي يتكرر في الرواية أو الكتاب أكثر من ثلاثين مرة. وهو يتكرر أيضا في الجازية أكثر من 40 مرة.
تبدأ رواية "مرداد" بظهور شبح شمادم "المعاقب" على قمة المذبح في جبال الآس واللبان حيث بقايا هيكل مهجور يدعى الفلك كثرت الأساطير حوله ويعود تأسيسه إلى طوفان نوح، وعندما رست به الفلك في هذه القمة أوصى ابنه سام بتجديد الهيكل خوف النسيان وبناء هيكل يشبه الفلك لتقدم فيه إلى الرب ذبيحة شكرانه وإيقاد النار حتى تبقى حية وإن يجعل الهيكل لجماعة مختارة لا يزيد عددهم عن التسعة ولا ينقص يعرفون برفاق الفلك وعندما يتوفى الله أحدهم يرسل آخر في محله وعليهم أن يلزموا الفلك ممارسين حياة متقشفة كأبيهم ومحافظين على نار الإيمان، ويسأل سام أباه عن العدد تسعة مع أنهم ثمانية فيقول له: إن التاسع دخل إلى الفلك خلسة، وحذره إلا يفسح له المجال لأنه سيعود لينقذ العالم من الطوفان والنار والدم. ومرت القرون والفلك آهلة برفاقها التسعة الذين- وإن تغيرت منهم الوجوه والأسماء- ما برحوا آمينين للتقاليد والطقوس المرسومة لهم منذ البدء، ودامت الحال أجيالا وحدث أن توفي أحدهم جاء غريب إلى الفلك وطلب أن يقبل واحدا منهم لأنه أول طالب جاء بعد وفاة رفيقة. لكن المتقدم العلماني الميول رفض، وانتظر العناية، أن تبعث من يحل محل المتوفي. وبعد إلحاح، قبل القادم الجديد (مرداد) خادما مدة سبع سنين ولما يئسوا من قدوم غيره قبلوه رفيقا ولكنه في خلال السنوات السبع استطاع أن يستميل "الرفاق السبعة" فيقفوا في صفه في وجه شمادم (المتقدم) وأن ينتصر عليه، وبعد ثلاث سنوات غادر مرداد الفلك مع الرفاق السبعة" بعد أن عاقب شمادم وربطه عل أرض الدير.
هذه الأسطورة دفعت بالراوي (نعيمة) إلى الصعود إلى القمة المنيعة الجبارة والرهيبة التي يصل إليها شعبان أحدهما إلى الجنوب والآخر إلى الشمال وكلاهما ضيق يتلوى بين وهدات خيم الموت في أعماقها، ولم يتخذ الراوي أحدهما طريقا له، وإنما شق طريقه بينهما: منحدرا ضيقا ومستقيما يتبدى عند رأس القمة وينتهي عند القاعدة، والصعود عبر هذا المنحدر حمق وانتحار كما قال له الرجل الجبلي.
واجتاز إلى القمة مراحل خضع فيها لتجارب، تبدأ الأولى بالرجل الجبلي، مرورا بالراعي صاحب الناي وما عزه الذي اختطف له الأرغفة السبعة زاد الرحلة قائلا له: "كيف تتزود بسبعة أرغفة لسبع حيوات"، وبالفتاة والعجوز اللتين تجردانه من ثيابه، وبالعرسين العجوزين اللذين يخرجانه من الكهف وتنتهي به إلى السقوط في الهاوية، وقد سمع في أثناء الرحلة من الذين مر بهم: "إنك لقريب جدا من الاندثار" و"إنك لعلى شفير الهاوية السوداء" و"يا لحضن الهاوية ما أظلمه وشفير الهاوية ما أنعمه".
وهذا الطريق الذي سلكه نعيمة طريق رمزي يدل على العقبات التي تعترض إنسان في سبيل تحرره وانعتاقه، وهذا المفهوم شديد الارتباط بعقيدة نعيمة الصوفية ذات المنحى الفكري: الهندوكي المسيحي.
والراوي هنا (نعيمة) يشبه في صعوده إلى القمة "عابد" الذي يسمع بإخبار الجازية التي وصلت إلى المهجر، المزوقة والمفضضة كأجنحة البراق، فترعرع في نفسه حب القرية الجبلية التي تحيا فيها الجازية. وزادتها أحاديث أبيه، فسما بها الحنين والشوق إلى مستوى الأساطير فالفلك انتشرت عنه أساطير كثيرة عند السكان القاطنين في سفح الجبل وعندما سمع الراوي هذه الأساطير نمت في نفسه رغبة للصعود إلى القمة. أحسست نيرانا في دمي ومهاميز في لحمي وعظمي وأشباحا في عيني وكلها تدفع بي إلى القمة.
وأخبار قرية الجازية التي تحولت عند "عايد" إلى أساطير جعلته يعقد عزمه على السفر إليها: "أقسم عايد لأبيه أن يعود يوما إلى هذه القرية" وصارت عنده الجازية حلما وهو الحالم، ويسلك طريقا تشبه طريق الراوي في مرداد، في السفح يلاقي الشانبيط الذي يثبطه على الصعود إلى الدشرة ولكن عايد يصمم على بلوغ القرية مهما كان التعب، وهذا التثبيط سمعه راوي (مرداد) من الجبلي وقابله بتصميم أيضا كما فعل عايد، وصد الراوي إلى الجبل مزودا بأرغفة وعصا، أما عايد فنصحه الشانبيط إلا يحمل معه أي شيء من امتعته لأنه لا يستطيع أن يقضي في القرية أكثر من ليلة أو ليلتين.
وإذا كان راوي (مرداد) قد سلك طريقا مستقيما بين طريقين ملتويين فإن (عايد) سلك طريقا ملتويا، ولكنه مصعد دائما إلى أعلى كطريق الراوي في (مرداد).
وإذا كان عايد في أثناء صعوده شعر بالحاجة إلى الراحة، فإن (الراوي) شعر بالجوع. وفي هذا التوقف يظهر لكليهما الراعي: راعي (مرداد) بمعيزه ونايه، وهذا بكباشه ونايه، ومعيز الأول كادت تختطف خبزه وكباش الثاني كادت تقذف به إلى الهاوية لولا امساكه بعرق شجرة والراعي في كلا الموقفين قوي وعلى علاقة بالسبعة، لأن السبعة يذكرها كلاهما، وكلاهما نفخ في نايه، وكلاهما كان دليلا على الفلك وذاك على الدشرة وقرب هذه الهاوية تقع أحداث كبرى، وعن طريقها تأخذ الأحداث منعرجا آخر.
ومعنى مرداد التردد، أو التردد، صيغة مبالغة للتردد والترداد هو يعني في عقيدة نعيمة تجدد الإنسان وخلوده عبر تحولات معينة مرتبطة بعقيدة التناسخ الهندوكية فهو بهذا المعنى لازمني أو أن زمنه صوفي ممتد أزلي أو أبدي، ركب مع نوح سفينته وعلمه، وسيعود لينقذ العالم من طوفان النار والدم وعندما غادر الفلك ترك شمادم حارسا على كتابه، حتى يرسل إليه رسولا. وبرغم ثباته ولا زمنيته فإنه غير نظام الفلك ومحيطه ووفق روح الفلك. ومن هنا، فهو مزدوج الوجه، ثابت ومتحول. أي أنه يحمل جزءا من كيان الجازية ويحمل صورة الأحمر.
فالجازية تحمل معنى الثبات أو اللازمنية لأن "طفولتها مرت دون أن يعرف أحد كيف، وذات عشية شاهد السكان فتاة عائدة من العين مع النساء حسنها يملأ الدينا" وكانت صغيرة رغم عمر آلامها الطويل الممتد في أعماق الزمن الماضي وكانت أساطير الدشرة تتمثل في "السبعة" والدراويش والصفصاف ثم تخرج الجازية فجأة من الطفولة لتصبح الأسطورة الحلم كذلك نجدها قد أكلت من نبتة في الجبال لا يعرفها أحد تبقيها صغيرة. وهي أيضا الفتاة الأسطورة في الآباء وجمالها يفوق كل المستويات البشرية والجازية فتنة وفوق الفتنة أسطورة فهي إذن ممتدة إلى أعماق الماضي وممتدة إلى المستقبل لأن مغامرتها تجعلها تعيش باستمرار في الزمن الذي لم يوجد فهي بهذا لا زمنية بمقدار ما هي ثابتة بمقدار ما هي متغيرة مثل مرداد الذي جاء مع نوح واستمر، ثم جاء بمفتاح الانعتاق من الحجب والخواتم" و" الكلمة المبدعة" و"الإناء" و"الثالوث الأقدس" و"الفهم المقدس" ورحيله مع السبعة دليل على إخراجهم من سباتهم، وإذا كانت الجازية أسطورة، فإن مرداد أيضا أسطورة – "لعلك شبح من الأساطير في شكل إنسان- أجل سيأتي يوم قول فيه الناس إن مرداد ما كان غير أسطورة من الأساطير لكنكم ستعرفون قريبا أن هذه الأساطير أصدق من كل حقيقة محسوسة عرفها العالم".
وإذا كان مرداد غير معروف المنشأ: "أما من هو؟ ومن أين؟ وابن من؟ وما هي أذواقه؟ ومعتقداته؟ فما باح لنا بشيء من ذلك كنا مع ذلك نحس وجوده بيننا إلى حد بعيد" فإن الجازية أيضا غامضة المنشأ، أبوها قتل بألف رصاصة وأمها ماتت في الوضع وطفولتها غير معروفة ثم تخرج لتصبح أسطورة- الحلم.
والجازية مرتبطة بالدشرة بحيث أن من يخطبها يسيطر على الدشرة فلو نجح الشانبيط (في خطبتها) لضاع كل شيء وأصبح جهاد المجاهدين عبثا من العبث، وزواج الطيب منها مسؤولية نحو الدشرة لأن القرية علقت آمالها على الأخضر الجبايلي في انقاذها من الشانبيط، ومرداد أيضا مرتبط بالفلك بحيث يصبح هو الفلك والمذبح والنار.
هذا هو وجه مرداد الأول الذي يتقاطع مع الجازية أما الوجه الثاني فيتقاطع مع الأحمر.
ذلك أن مرداد منح قوة الفراسة ويعرف ما يحول في ذهن أي شخص ويفسر الأحلام غير المعلنة كما حدث مع زمورا ويترجم لغة الزهر ويعلن عن موت أبي همبال ويكشف عن سرائر شمادم وهو يسكن قلوب رفاقه ولمعان اسمه لن يكمل في ذكراهم.
وكان عمر مرداد 25 سنة عندما دخل الفلك أول مرة.
أما الأحمر في "الجازية والدراويش" فإن منشأه أيضا غير معروف، ولا يعرف عنه سوى أنه طالب ويظن أنه كان يعد رسالة لنيل ديبلوم مهندس دولة، وعمره ثلاثون سنة تقريبا ويملك حدسا ينفذ إلى المجهول بسرعة مذهلة في لحظة ينفذ إلى أعماق حقيقة القرية: العقم وهو يعلم الخفايا أيضا "يقينا. هذا الطالب على علم بكل الخفايا" والأرواح تخاطبه وأراد أيضا أن يعرف عن الدشرة وضواحيها في أيام قلائل ما لم يعرفه أهلها طوال حياتهم ودخل عالم الفتيات فتعلقت به قلوبهن كذلك نجد أن التأثير الذي أحدثه مرداد في حياة الفلك خلال سنوات وجوده فيها أحدث مثله الأحمر في الدشرة. وهذا التغيير ايجابي فكلاهما استطاع أن يندمج في حياة محيطه الجديد: مرداد أصبح معلما للسبعة والأحمر- من خلال مراقصته الجازية – كاد يصبح درويشا ممتازا لعله أكثر اقترابا إلى الجازية من الدراويش. فترة وجوده مع الطلبة كانت أزخر فترة، إنها وحدها التي تمثل نبضا واحدا في اليكتروسكوب الماضي واستطاع أن يستبدل أحلام النساء بالصفصاف وأن يخلق في عالم كل فتاة أو عانس جازية متجددة وتحدث عن عيون تسيل إلى أعلى وعن شموس تخرج من الأرض، وجعل مشاعر الجازية تهتز ويفتح في خيالها الجبلي منافذة خطيرة لآفاق وردية رحبة ،وكان يريد أن يغرس أحلامه الحمراء، وكان صاحب حلم أحمر يوزع الأحلام والزلزال وعنصرا مفجرا.
وكان الأحمر يصوف بالطالب الغريب، وجاء بطريقة جديدة للإقناع وهي الدخول إلى عقول الناس من عيونهم بدل آذانهم وكان ذكاؤه غريبا، كما عده الأخضر بن الجبايلي مجنونا وأطلق عليه الطالب المدروش. وهو مغامر يبحث عن الطريق المؤدي إلى تنفيذ أحلامه وهذا ما فسر به الطيب إخفاق الأحمر في الظفر بالجازية لأنه حكى لها عن الأحلام ولم يعرفها بالطريق المودية إليها.
وكان مرداد في نظر شمادم- يعد بفلك في السماء في فضاء اللاشيء وكان أيضا يوصف بالغريب وبالمتهوس الخطير كل الخطر في تعاليمه الفاسدة التي يستحيل تطبيقها في عالم لا يدين بغير الواقع فكيف نسمع لغريب عنا أن يهدم ما صرفنا الأعوام الطوال في بنائه وإن يزرع الشقاق حيث كان الوئام قائدا والنزاع حيث كان السلم سلطان وتعاليمه خطرة تكاد تقضي على الفلك.
كذلك نجد مرداد حالما مجنونا يقود شمادم عنه ويعدكم حلم رجل مجنون وأوهام طفل طائش".
ولذا طلب شمادم من مرداد أن ينتقل فيبني فلكا جديدة بعيدا عن فلكهم ليتركه حرا يسير فلكه كما يريد. غير أن مرداد "كان يرد نقل الفلك بطريقته هو لا بطريقة شمادم، وإلا تكون الفلك الجديدة مستقلة عن الفلك القديمة لذلك عندما انتقل مع السبعة ترك شمادم حارسا على الكتاب الذي فيه تاريخ الفلك وعمل مرداد هذا جاء ليجنب الفلك طوفان النار والدم.
كذلك نجد الأحمر يسعى إلى نقل الدشرة لأنه والطلبة متفقون على نقلها ولكن ليس إلى قرية الشانبيط كما وضح تقرير الأحمر فقد بين هذا التقرير فساد مشروع القرية الجديدة كذلك السد لأنه يقطع الطريق على الدشرة ومعنى هذا إنه يريد نقل الدشرة إلى قرية أخرى ومن نوع آخر يشارك هو في موضوع تخطيطها مع رفقة ممن يثق بهم لأنه يرى أن كل شيء يرحل ويحول المكان الذي تتحدث عنه مرتبط بزمان مادي لا يبقى دائما قائما يصبح بعد مروره زمانا نفسيا متضمنا للمكان وهذا مخالف لهدف الشانبيط من قريته الجديدة وإذا كان مرداد قد ترك كتابا، وكان هدفه تجنيب العالم طوفان الدم والنار، فإن الأحمر قد ترك تقريرا ليجنب القرية خطر السد وخطر الشانبيط.
ومرداد كما قلنا ممتد في الزمان فهو لا يموت لأنه أقوى من الموت كذلك الأحمر يبقى ممتدا في الزمان فهو فكرة والفكرة لا تموت وسوف يبقى حيا لدى كل من عرفه أو سمع أفكاره وهو أيضا قيمة ثابتة والدشرة لا تستطيع أن تعمل شيئا ضده لأنه فكرة.
وإذا كان مرداد من السهل عليه أن يصور الثلج سوادا من القبر والقبر أنصع بياضا من الثلج، إذا كانت حجته لا ترد فألهب الرفاق بحماسته وبلاغته وضمنهم في صفه للوقوف في وجه شمادم حتى صار منبوذا فإن الأحمر تحدث عن عين تسيل إلى أعلى عن شموس تخرج من الأرض، عن مناجل تحصد الأشعة" واختار أن يدخل إلى عقول الناس من عيونهم وألهبت مشاعر الجازية فاهتزت وتفتح خيالها الجبلي وهذا كله يدل على قوة شخصية وقدرته على النفوذ. كذلك نجد الخلاف القائم بين مرداد (الغريب) وشمادم (المقيم) يشابه الخلاف بين الأحمر (الغريب) والطيب (المقيم) الخلاف الأول حول تسيير الفلك.
وقد سبقت الإشارة إليه، والخلاف الثاني (بين الأحمر والطيب) سببه الفكر، يقول الأحمر للطيب: "أنت تفكر في المستقبل وتمشي إلى الماضي و"نموذج كامل للصيانة" و"بيتكم هذا لا يمكن أن تجتمع فيه كل هذه النقائص"، والأحمر يفضل الدروشة على أفكار الطيب ويحس الطيب بتفوق الأحمر عليه في هذا الجانب وفي جانب آخر هو أن الأحمر مغامر وهو "عيناه ممتلئتان بالماضي" وأنه والأحمر لم يكونا على ساعة واحدة ولا على خطوة واحدة، ثم أن الأحمر عوض أن يعينه أشقاه وأفسد عليه الجازية وكل الفتيات، فاشتغلن به دون غيره، وكل هذا أدى إلى تحجيم الطيب وتقزيم دوره. وهذا الوضع الذي وجد الطيب نفسه فيه هو الذي ضخم شعوره بالنقص كراهيته للأحمرفأحس أنه يقوم بدور متفرج غبي وربما هذا الدور الكبير الذي للأحمر، بدا للطيب نوعا من الإلغاء له. فوجد نفسه في نقطة الصفر التي لا تلتقي فيها الأزمة ولعل هذا ما يفسر قول الأخضر بن الجبايلي له: أنت لم تعد جبليا أني أراك تذبل فشيئا، ما ينتظرك. –إن بقيت على هذه الحياة- هو السقوط أعرف علائم السقوط في الثمار والرجال. المدرسة التي كنت أظن أنها تقويك اضعفتك صرت كثير التردد وهذا يعني أنه لم يعد قادرا على الدفاع عن الماضي (الدشرة أو الجازية) والسبب هنا هو المدرسة. ولم يعد قادرا على الدفاع عن الماضي أو المستقبل أمام الأحمر الذي تقول له: إن المدرسة لم تنفعك، وأن الدروشة أفضل من أفكارك أي أنه صار منبوذا مثل شمادم الذي لم ينفعه ماضيه الذي دافع عنه بإستماتة، فكلاهما ينتظر الحل من الآخر، الطيب من تقرير الأحمر، وشمادم من مرداد، وموقفهما من هذا الوضع المشترك هو "الأذغان" لإرادة القادر: الطيب يرسم قوس نصر للأحمر بالأظافر على جدار السجن، وشمادم يقبل العقاب: الصمت والتحجر.
وإذا كانت مقاومة شمادم لمرداد قد تجلت في أفعال (رمى مرداد في الهاوية، والاتفاق مع أمير بتعار على سجنه)، فإن الطيب وبحكم شخصيته المترددة لم يتجل موقفه من الأحمر في أفعال – إلا إذا عددناه مشاركا في سقوط الأحمر في الهاوية (ضمن موقف الدشرة العام) ذلك لأنه منى قتله وقتل كل من يتعلق به أي أن أفعاله أو تمنياته لم تخرج إلى دائرة الفعل. أي أنه كان يتصارع معه في مجال الأوهام فقط.
أما الهاوية في مرداد وفي الجازية. فإنها لا تمثل له قتلا لمن سقط فيها وإنما تمثل قتلا لشمادم، وكذلك لا تمثل قتلا للأحمر وإنما للشانبيط لأنهما صاحبا مشروع وكل منهما يريد نقل الدشرة بطريقته، ولهذا استمرت حياة الأحمر بمشروعه أما حياة الشانبيط فلم يستمر. فالهاوية إذن كانت نهاية له ولمشروعه.
والسجن في العملين عنصر مهم، فهو في العملين نتيجة لصراع وإذا كان مرداد المقابل للأحمر هو الذي سجن في (مرداد) فإن الأحمر لم يسجن وإنما الذي سجن هو الطيب. وإذا كان مرداد مقابلا للجازية والأحمر فإن شمادم مقابل للطيب والشانبيط.
وفي السجن نجد مرداد- كما يقول أمير بتعار- ينشر تعاليمه على الجدران السود في سجن بتعار كما نجد الطيب في السجن يقرأ على جدران السجن الألفات – العصى، ويقول أنها ليست الفات فقط وإنما هي معاني... وإن السجين لم يعد الأيام مجردة عن مآسيها وأحلامها وأنه صاحب مشروع ضخم.. ألفاته الغامضة أروع من كل القصص، ثم ترسم له صورة الأحمر وأحلامه الحمراء ومناجل القمح، وكل هذا جعل جدران السجن تتسع" وإذا كان جدار السجن لوحا لـمرداد ينشر عليه تعاليمه، وتخرج هذه التعاليم خارج السجن فتؤثر في محيط السجن وتصل إلى أمير بتعار فيصبح من التواقين كما يريد مرداد، فإنه بالنسبة إلى الطيب وسيلة لنشر أفكاره والتأثير في محيط السجن يقول: أنا لا أعد أيامي هنا. بدل ذلك أرحل الدشرة بحجارتها ببنائها برجالها بزوابعها وشعاشعها بدراويشها وسبعتها بالأحمر صاحب الحلم الأحمر الذي زرع الأحلام والزلزال ثم أفجر كل ذلك بألفات صاحبي العمودية وبألفات – ديناميت أجعلها لحمة لسداه وإذن فالتغيير يتم من السجن إلى خارجه أما عملا كما في مرداد وأما حلما كما في الجازية.
ولعل الطيب هنا لا يشبه مرداد كثيرا في السجن وإنما يشبه لبرناردو في سجنه ( في رواية لقاء) ذلك أن في هذه الرواية فصلا بعنوان من "سجن إلى سجن" وفيه يعد السجن وخارجه كلاهما سجن وكلاهما فيه سياط، وهذه الصورة تقريبا نجدها عند الطيب. يقول: حاكم السجن واحد في كل مكان والسجن واحد في كل مكان ما لفرق بين القرية واسجن الشانبيط هنا والحارس هنا، وتكتمل صورة السجن، أكثر: "ما أنت فيه سجن صغير في سجن كبير، المساحة التي هنا وخارج السجن متساوية لا تتوهم أن هنا السجن وفي مكان آخر الحرية كلنا سجناء لا فرق بين من هنا ومن وراء الجدران وإذا كان ليوناردو وقد زاره صديقه (الراوي) حاملا له الكمنجة وقاده إلى مكان "بهاء" وما أفرحه هو أن أصابعه سليمة للعزف وهو وسيلته للتحرر والاتحاد ببهاء، فإن الطيب أيضا تزوره صافية حاملة له أخبارا سارة "التقرير" و"العنوان" الذي تقيم فيه، ولم يعد سجينا بل حالما بعد زيارتها له لما أحدثه من انقلاب وسمع منها "إلى اللقاء" وعندما ودعته لم تنتبه إلى أظفاره المجروحة التي حفر به الألفات على جدران السجن فأصابعه أيضا وسيلة لتحرره ولا تحاده بها وبمشروع الأحمر.
أما الزردتان في "الجازية" فالأولى أقيمت على شرف الطلبة المتطوعين والتي راقص فيها الأحمر الجازية ولعق المناجل، وانتهت بالكارثة، وهي من تقاليد القرية تقام كل عام وتشكل ظاهرة اجتماعية ممتازة... فيها تزول الحواجز ويرتفع الحجاب وغالبا ما تكون مناسبة للتعارف بين فتيان القرية وفتياتها المحجبات وبعدها اختفى الأحمر ثم ظهر ثم اختفى، وفيها أيضا ذبح ثورا أبقع من ثيران الجنة. وأما الثانية فأقامها الشانبيط وأحضر عجلا وستة كباش، وفيها يتقرر مصير الجازية، وتنظف الساحة حتى تصير لامعة.
هاتان الزردتان نجد لهما مقابلتين في "مرداد": عيد الكرمة أو عيد الفلك. ففي عيد الكرمة تقدم كل أصناف الأمتعة وتجري المهرجانات ويأتي الناس من كل مكان الأمير والحقير والفلاح والصانع والزائر التقي والمتشرد ومن التقاليد المرعية في مهرجانات الكرمة أن يجلس الرئيس على دكة عالية تحت عريش تدلت من فوقه عناقيد.
وكان يوم الكرمة فيما مضى مكرسا لنسيان الذات يوما نشوانا بخمر المحبة ومغمورا بوهج الفهم يوما راقصا لتصفق أجنحة الحرية يوما تزاح فيه الستائر وتهدم الفواصل فيندمج الواحد في الكل والكل في الواحد
وكان الأحمر قد اختفى بعد الزردة الأولى وبحثوا عنه ثم وجدوه بعد ذلك في بيت ابن الجبايلي، كذلك نجد أن مرداد يختفي، ولكن قبل الزردة ويبحث عنه في الفلك والجوار لكنهم لا يعثرون له على أثر، ولكنهم عندما يعودون يائسين يجدونه على الدكة العالمية تحت العريش.
أما عيد الفلك فهو يعج أيضا بالمهرجانات والمعارض بأصنافها وله طقوس وتقاليد أهمها ثلاثة: ذبح الثور الذي سيقدم إلى المحركة ثم إضرام نار المحرقة ثم إشعال المصباح الجديد. ويومه كثير الزوار الذين يأتون بالثيران أو الكباش أو التيوس لتقدم محرقات مع ثور الفلك.
وإذا كان الشانيط قد اختفى قبل انتهاء الزردة أو في أثنائها فإن شمادم (الوجه المقابل لمرداد) يختفي بمجرد ظهور رسول أمير بتعار، كأنه ما كان غير طيف من الأطياف وصحيح أن اختفاء شمادم هو مقدمة لتحول حياة شمادم ومغادرته ماضيه، ولم يكن موتا حقيقيا كموت الشانبيط. إلا أنه انتقال إلى مرحلة أخرى يمحي فيها شمادم بالمعنى الصوفي. وإذا كان مرداد ووشمادم هما قطبا الصراع عند نعيمة فإن قطبي المداع في "الجازية" هما الأحمر والشانبيط، ولهذا كان أحد القطبين يختفي في الزردة الأولى (أو العيد الأول)وثاني القطبين يختفي في الزردة الثانية (أو العيد الثاني).
ونظرا لغياب المرأة في "مرداد" بالمعنى الواقعي (وهذا يدخل في عقيدة نعيمة، وهو هنا يشبه كتاب هرمان هيسة: لعبة الكريات الزجاجية الذي يجعل كستاليا خالية من النساء) فإن نعيمة يستعيض عن حضورها بحضور غير واقعي (عن طريق الحلم). فمرداد كشف حلم رموزا قبل أن يعلنه فيعترف له العالم: أحببت في شبابي صبية كانت أجمل من كوكب الصبح، وكان اسمها أعذب لشفتي من النوم لعيني وكان اسم هذه الصبية حجلة (ذكر اسمها 7مرات) فقد كانت قائدا لدمي ولقد عرفت ما يستطيع الدم أن يأتيه من العجائب إذا ما توحدت الإرادة التي تقوده، وبحب حجلة ملكت الأبدية بل رحت ألبسها خاتما في خنصري.. فكانت زيارتها أن ألهبت دمى حتى الفوران.
فبالإضافة إلى اقتراب الاسمين حجلة وحجيلة نجد هذا التأثير الذي تحدثه كل منهما في صاحبها من فوران دم، وربط بالكون وسبب الفوران يعود إلى التسمم بالقبلة كما سماها مراد، أو إلى قبلة على الخد بالنسبة إلى عايد الذي أثارت فيه حجيلة إحساسات- بقبلة على الخد- لكن الإحساس الأكثر حدة الذي غطى العواطف الأخرى هو الرغبة الجنسية الجامحة التي وترت جميع جسمه وجعلته يترنح سكرا وأحس كل غرائزه متجهة إليها لاحتضانها وامتصاص كل مقومات أنوثتها. لقد تحول الاهتزاز الداخلي إلى اهتزاز جارحي ملحوظ بالعيز فمضمون الاحساس إذن واحد عند زمزرا وعند العايد، والرقابة التي فرضها مرداد على زمورا وعند العايد، والرقابة التي فرضها مرداد على زمورا فرضها عايد على نفسه بتنبيه نفسه بأنه ضيف في بيت ابن الجبايلي وبالإنسانية
وهذا الاحساس الجنسي عند كل من زمورا وعايد غريب عن أحداث الدواية عند نعيمة وعند بن هدوقة. لأن الغيب هو المسيطر على الدشرة، وعقيدة مرداد ونوح هي المسيطرة في الفلك ومن هنا جاء هذا الإحساس نشازا في النغم لكل من العملين وإن أمكن تلمس تفسير له.
وربما نجد للجازية مقابلة لها في رواية (لقاء) فهذه البنت قد خطبت وفي حفلة الخطبة جاء ليوناردو فعزف على كمنجة.. ومضى في عزفه والناس كأنهم في حضرة ساحر عظيم يميلون إذا مال ويجمدون إذا جمد وهذا العزف يؤثر في (بهاء) فتصاب بإغماء يطول مدة أربعة أيام ويتفق الجميع على أنه سحرها بموسيقاه، وإنه يجب أن يعاقب. ويفسر هذا الموقف أن (بهاء) تأبى التدنس بهذا الخطيب أو بسواه. وهذا يذكر بزيجات الجازية الحرام، فهذا الخطيب وغيره من سكان الأرض إذا ارتبطوا بها عدت هذه الارتباطات تدنسا، أو زيجات حراما، خاصة وإن (بهاء) لم تبد أي ميل تشبه الجازية التي يخاف الرعاة أن يقتربو منها خوفا من أبيها أو خوفا من أن تحرقهم، وربما الميل الوحيد هو الميل الذي أبدته للطيب يوم كانت طفلة. وعلاقة ليوناردو ببهاء تشبه علاقة الأحمر بالجازية، فالأحمر درويش ومجنون وحالم، والجازية درويشة ومجنونة وهي حلم أيضا، واستطاع أن بهذه مشاعرها وأن يفتح خيالها الجبلي وأن يرقص معها وأن يعلق المناجل معها. وأن يجعلها تحس الساحة والدراويش والشانبيط والصفصاف والطيب والجبل والسبغة والأحمر بمنجله، تحس بهم كلهم يدورون في رأسها ويرتفعون عاليا إلى ملكوت من النشوة القدسية فكأنهما من عالم واحد. مثل ليوناردو وبهاء
وعلاقة الأحمر بالجازية اتشحت-إلى حد ما- بالجانب الأسطوري من خلال الجنون والدروشة ولعق المنجل ومن خلال حديثه عن عيون تسبل إلى أعلى...إلخ. هذه العلاقة تشبه علاقة ليوناردو ببهاء، إن علاقة بينهما قديمة- تتصل بعقيدة التناسخ النعيمة- تبدأ عندما كان ليوناردو إحداهن ولكن البنات الثلاث أحببته جميعا وحاول أن يلتقي بحبيبته روحيا عن طريق العزف ولكن النغمة أفلتت منه فأغمى على البنات ولم يتمكن من إيقاظهن فحطم شبابته وهام على وجهه، وسبب إفلات النغمة منه يعود إلى غلبة شهوته عليه فأفسدت عليه غايته –الاتحاد- لقد حاول أن يكتمل بها وراء حدود الزمان والمكان لكن شهوته جعلته يتمتع بها ضمن حدود المكان والزمان.
وعندما لقيها في ليلة خطبتها عادة الميل القديم غير أن شهوته أفسدت عليه الهدف فأفلت نغم الاتحاد منه فهام على وجهه يقاهر شهوته وربما هذه الشهوة يقابلها عند الأحمر شبه بها ولعل ذلك هو الذي لم يجعل الأحمر ينجح في إرضاء الجازية يقول الدرويش لعايد وهو يتحدث عن الأحمر. الناس تعذبوا وسجنوا حلموا السنين الطويلة ليحصلوا على نظرة واحدة من الجازية ولم يستطيعوا وهو (أي الأحمر) في لحظة أراد أن "يولدها" أمام كل الناس. وبعد خروج ليوناردو من السجن يهتدي إلى النغمة الضرورية للاتحاد ببهاء، فيتحدان في فناء صوفي يوافق عقيدة نعيمة وهذا ما تبحث عنه الجازية بعد زيجاتها الحرام وهي مستمرة وهي ترفض وإن أرغمت رمت بنفسها إلى الهاوية، وكل الناس في نظرها يريدونها لغاية لا تتلقى مع الجانب الذي تبحث عنه لدى الزوج.
وإذا كان بن هدوقة يدخل الجازية في شبكة علاقات بحيث تصبح هي (والدشرة) قطبا الرواية. فإن نعيمة يحصر (بهاء) في عقيدته فقط ويفرض عليها الخط الذي يتفق معها ويوضحها، ولهذا لم يجعلها تنخرط في علاقات اجتماعية تأخذ حريتها رفضا أو قبولا. صعودا ونزولا حتى ولو ناقضت عقيدة الكاتب.
وربما وجدنا تشابها آخر بين شخصية الأخضر بين الجبايلي وشخصية "أبو منصورة" فالأخضر كان صيادا ممتازا يقول عنه القرويون الحجل يسقط قبل أن تنطلق الطلقة من البندقية. ولم يكتف بصيد الطيور والحيوانات بل اصطاد الناس الذين عاثوا فسادا. فقد قتل أربعة من رجال الجندرمة وثلاثة حراس غابات ومفتشا سريا غامر إلى القرية للتحقيق وقاضي محكمة وبندقيته لا تفارقه، وكان يصطاد الحمام عندما سقط الشانبيط، وربما سقط بسبب العيارين اللذين أطلقهما الأخضر على الحمامتين.
أما أبو منصور فهو صياد ماهر في الناحية على الإطلاق، وله حكايات كثيرة وطريقة عن مواقعه مع الوحوش والطيور واللصوص وقد خسر في معركة مع دب ثلاثا من أصابع يده اليسرى ولكنه في النهاية قتل الدب ونجا بحياته
وهو على خشونة مظهره قد جمع إلى قوة البدن جمال الصورة نعومة البساطة ونقاوة الفطرة مع الكثير من عزة النفس والبديهة النيرة وتظهر براعته في الصيد، في إسقاطه هذا الحجل الذي سقط أمام الراوي (نعيمة) الجالس قرب "عين الدموع" ولكن عندما يجلس إلى جانب الراوي تتحول وظيفته. إذ يصبح مصدر معلومات أو دليلا يقدم معلومات عن المنطقة وتاريخها وعن قصة "ليوناردو وبنات الأمير" وقصة الحب بينه وبينهن، ويقدم له الراوي سيقارة ويشعل لنفسه أخرى أي أن أبا منصور يأخذ دور الراعي الذي التقى به عايد قرب.. عين المضيق.. المكان الذي كادت الكباش أن تسقطه في الهاوية. ثم يشعل له بسيقاره ولنفسه أخرى ويكون الراعي مصدر معلومات لعايد عن الدشرة والجازية والأحمر..إلخ فالمكان الذي جلس فيه عايد والراعي: مصدر معلومات، العين، الطريق الضيق، الدخان ويمكن أن نجد تشابهات أخرى طبيعة الجبل أجرد، القمة أو بالقرب منه الانتهاء بالساحل، الضباب الذي يحلل القمة أو يزنز الجبل، الطريق إلى القمة ملتو- الهاوية...إلخ.
وبعد كل هذا نصل إلى سؤال: هل "الجازية" هي "مرداد" أو "لقاء"؟ الواقع أن "الجازية" بالرغم من هذا الجدل، فإنها رواية ذات تميز تملك شخصيتها ومؤلفها يلبس معطفه لا معطف نعيمة، لأن الجازية لم تقم علاقة بنعيمة وحده، وإنما انفتحت على كل التراث الإنساني والتقاليد الأدبية فبمقدار ما يبذل ما يبدل الأديب من جهد للاستقلال عنها فإنه لا يستطيع، ثم أن "مرداد" في رأي بعض النقاد ليس رواية، وكذلك "لقاء" بالمعنى المصطلحي لكلمة رواية، ولعل غنى "رواية، الجازية والدراويش" يجعلها متجادلة مع كثير من الأصناف الأدبية روائية أو غيرها. وبرغم هذا التجادل فهي رواية تملك شخصيتها وفرادتها. وهي فاتحة طيبة لرواية جزائرية حوارية، نجد الشخصية فيها تتمرد على مؤلفها وتسلك طريقها الخاص حتى ولو خالف طريق المؤلف الذي اقترحه على الشخصية فالجازية إذن – وهذا ما فهمناه – جعلت "مرداد" و"لقاء" في مصهر حتى تحللت عناصرهما، ثم تناسجت بهذه العناصر وبغيرها لتقطع أو تكاد صلتها بمصادرها، وهذا التشابه لا يضرها في شيء، بل ربما لها فضل على مرداد الغافي في رفوف المكتبات، بتحريرها له لتسلك طريق آخر غير الذي فرضه عليه نعيمة وبسمات أخرى، وبرؤية أخرى وهذا لاختلاف وجهة النظر الفكرية والأدبية عند كل من الكاتبين.
وهذه الدراسة تبقى ناقصة إذا لم تكمل بدراسة أخرى أو دراسات أخرى عن الجدل، أو الحوار في هذه الرواية.
المجاهد الأسبوعي ع 1392 بتاريخ 10/4/87 ص64،65 وع 1393 بتاريخ 17/4/1987 ص64، 65
مجلة الحرية ع183 بتاريخ 12/10/1986 ص47 والعربي ع339-30 فبراير 1987 ص135.
المرجع السابق ص47.
هذا التعبير مستوفي من : هكذا تكلم زاردشت ص35.
مرداد ص9
م.ن 10-14 وفي الجازية ص57 نجد: سبعة بغباو، سبعة ينباو.
مرداد ص: 22، 26، 31.
م.ن ص15.
الجازية ص 27، 28، 29.
م.ن ص30 غير أننا نجده فيما بعد مزود، بحقيقة ص41.
الجازية ص 30، 99، 104، 212، 213
الجازية ص 30+، ومرداد ص 19+
مرداد ص 23، 24، 32، 34
الجازية ص24.
م.ن ص15
م.ن ص24
م.ن ص25
م.ن ص93
م.ن ص156
الجازية ص211
م.ن ص201
م.ن ص90
م.ن ص42
الجازية ص24
م.ن ص74، 75
مرداد ص139
م.ن ص175-179
م.ن ص176-177
م.ن ص153
م.ن ص39
م.ن ص185
م.ن ص38
الجازية ص135
م.ن ص60
م.ن ص64
م.ن ص 69 و146.
م.ن ص 60
م.ن ص67
م.ن ص 126،144
م.ن ص171
م.ن ص183
م.ن ص 126
م.ن ص 18، 19، 135
م.ن ص18، 19، 135
م.ن ص 20، 93، 132،136 والقول شبيه بقول لنتشه في هكذا تكلم زارادوست ص35
م.ن ص20، 93، 132،136 والقول شبيه بقول لنتشه في هكذا تكلم زارادوست ص35
م.ن ص 65
م.ن ص148
م.ن ص173
م. ن ص135
مرداد ص 240
م.ن ص40
مرداد ص239-240
م.ن ص236
م.ن ص240
م.ن ص319.
الجازية ص 58
م.ن ص186
م.ن ص 135
م.ن ص135
م.ن ص 185
مرداد ص49
الجازية ص 134، 189، 191
مرداد ص 43، 44.
الجازية ص18، 20.
م.ن ص20
م.ن ص 137
م.ن ص127
م.ن ص127
م.ن ص21-144
م.ن ص144
م.ن ص127
م.ن ص137
الجازية ص 22
مرداد ص 220، 236، 246
الجازية ص 136
مرداد ص 236.
الجازية ص 19، 125
م.ن ص19
لقا ص32
لقاء ص 91، 92
الجازية ص9
م.ن ص131، 132
لقاء ص92
الجازية ص 89، 192، 193
م.ن ص70، 121
م.ن ص83
م.ن ص201
مرداد ص 200، 201
م.ن ص216
م.ن ص203
مرداد ص 310/311
م.ن ص 315
م.ن ص51
الجازية ص 179/180
الجازية ص110،115
م.ن ص113
م.ن ص196
لقاء ص28/29
م.ن ص45
الجازية ص17
الجازية ص89/90
لقاء ص102
م.ن ص80
م.ن ص81
الجازية ص171
لقاء ص111/112
الجازية ص151
م.ن ص48
م.ن ص48
لقاء ص57
لقاء ص57
م.ن ص58
الجازية ص 30/32