الجازية والدراويش بين التراث السردي، الرؤية وجمالية المكان

بقلم عبد الناصر مباركية
بقلم عبد الناصر مباركية
تنتمي رواية الجازية والدراويش إلى الخطاب الروائي التقليدي، وذلك إذ أخذنا بمبدأ تقسيم الرواية الجزائرية الحديثة إلى خطاب روائي تقليدي و خطاب روائي حديث كما أنها تصنف ضمن الروايات الريفية الواقعية تجسد حقبة زمنية تجلت فيها قيم الأرض والتفتح على الحداثة والدفاع عن الحرية وثقافة الكلمة.
*التراث السردي:
يشكل التراث السردي أحد المكونات الاساسية للخطاب الروائي الحديث، ذلك أن التراث لا يزال يمد المبدع في كثير من الجوانب الفكرية والفلسفية والأدبية، وأننا نلمس بأنفسنا هذه المقومات التراثية من حيث اللغة أو الرموز أو القصص الشعبي وهي دلالة مادية على أن الابداع لا يزال يخضع للمد التراثي الزاخر. فقد نجد التراث في القصة أو القصيدة أو الرواية وهذا لا يعني أن الخطاب الروائي ينكفئ انكفاء تاما على ذاتية التراث وإنما نجده يمزج بين قيم الحداثة والتراث في التشكيلات السردية لأن المبدع يجسد ما تمتلأ به ذاكرته من خطابات معرفية ترسخت مع تقدم الزمن وعبر قراءاته الجمالية للمسرودات التراثية كتابة أو شفاها. وإننا نجد كثيرا من النماذج الروائية الجزائرية تحت هذا النحو مثل رواية " نوار اللوز وفاجعة الليلة السابعة بعد الألف" للأعرج واسيني، و"معركة الرقاق" لرشيد بوجدرة، "حمائم الشفق" لجيلالي خلص أو "عرس بغل" و"الشمعة الدهاليز" للطاهر وطار وغيرها.
وعلى هذا الأساس فإن التراث السردي فضاء من الفضاءات الروائية تحمل رؤى جمالية وفكرية تجاه الواقع الراهن وقد أقر الباحث ميخائيل بختين في كتابه "إستيتيقا ونظرية الرواية" (1) أن الذي يتحدث في الرواية ليس الكاتب او الساردون فقط وإنما هناك شخوص أخرى تتحدث، وأصوات أخرى تتحاور وتتجادل وتتضاد، ومن هنا فإن ثمة كم هائل من الأصوات وكل صوت يحمل خطابا معرفيا وتراثيا وفكريا إلى غير ذلك من الخطابات.
ونحن لا نعدو الحقيقة إذ قلنا أن الروائي عبد الحميد بن هدوقة يوظف الوحدات السردية التراثية بشكل كبير في هده الرواية لأنه وجد في الذاكرة التاريخية منهلا عذبا ومعينا خصبا تتحرك عبره الأحداث والشخصيات، ومن هنا فإن التراث السردي صوت من أصوات الرواية وخطاب من خطاباتها لاسيما وأنه يلجأ إلى تصوير جماليات الريف الزاخر بالقصص الخيالي والحركات الشعبية والأغاني الرعوية والطقوس الخرافية إى أن الروائي لا يعالج هذه التراثيات السردية بالطريقة الدياكرونية التاريخية (DICHRONIQUE) فقط وإنما يتفحصها بطريقة سانكرونية (SYNCHRONIQUE) ويكشف لنا جوانب القوة والضعف في القيم التراثية التي يضعها أحيانا وجها لوجه أمام قيم الحداثة..
ولعل أول ما يمكن تدوينه في هذا المبدأ هو عنوان الرواية "الجازية والدراويش" فهو عنوان مستمد من الذاكرة التراثية، أما الجازية فهي رمز للحب والبطولة والشجاعة والشهامة العربية وهي الاميرة العربية البدوية كما ترويها سيرة بني هلال، وتوصف بأنها "جميلة المنظر، لطيفة المحضر، بديعة الجمال عديمة المثال في في الحسن والكمال والقد والاعتدال وفصاحة المقال". وهي المرأة الأسطوية الشبيهة بأسطورية شهرزاد في الفطنة والذكاء والحيل الخارقة للعادة. كانت تتزعم قومها في الإستنفار إلى القتال والدفاع عن الشرف القومي.
وقد أضفى الروائي على هذه الشخصية بعصا من الملامح الواقعية وبعضا من الملامح الاسطورية ليشكل من هذين البعدين الواقعي والأسطوري دلالات الوطن والحب والحرية في أسمى تجلياتها: "كانت أساطير الدشرة تمثل في السبعة والدراويش والصفصاف ثم تخرج الجازية فجأة من الطفولة لتصبح الأسطورة - الحلم -"، "...تضحك صباحا وتشيع أغانيها في الأرض..وإذا توقفت عن الضحك هب الدراويش لإقامة الزردة..أشيعت حولها الخرافات..غريبة الأطوار..روحها كالنور..ص25
وتقف شخصية الجازية في علاقة تضاد مع الدراويش لأن بينهما علاقة تنافر في القيم والمواقف. فإذا كانت الجازية رمز للثورة والوطنية فإن الدراويش رمز للتفكير الخرافي في هذا الوطن ودلالة على أزمة التفكير في الذهنية الجزائرية الحديثة، لأننا لازلنا تحتكم إلى اللاعقل واللاعلمية واستحضار الأرواح ومطاردة الجن وإذا كان الروائي تحدث عن الدراويش في المتن الحكائي بشكل مستفيض فلأنه كان يتنبأ في الوقت الذي كتب فيه النص أن الدراويش هم أعداء الجازية في المستقبل، ولأن خطاب الدراويش لا يزال يستمر في الكينونة وإذا كان أرسطو قد وضع مبدأ النبوءة في الأدب فإن نبوءة بن هدوقة تحققت في هذا النص مما جعله ينتصر للجازية في النهاية ولم يخضعها لمنطق الموت ولم تستطع أية شخصية روائية مساومتها.
وشخصية الجازية في المتن الحكائي هي المرأة الطيبة والجميلة والتي يعشقها المثقفون ورعاة القرية والدراويش وابن الشامبيط والمهاجر ولكن كل واحد منهم يريد الزواج بها على طريقته الخاصة ليكسب أو ينال بها الجزائر.. إلاأن الكاتي فضح تلك الشخصيات التي تريد أن تملك الجازية أو تملك الجزائر ليتم بيعها بأبخس الأثمان، وقد حاول الكاتب أن يتناص مع تجربة الكاتب "دوستوفسكي" في رواية "الإخوة كرامازوف" أو صراع الأشقاء من أجل الزواج بالمرأة الجميلة إلا أن الكاتب دوستوفسكي يصور الصراع من أجل المرأة الجسد في حين أن الروائي بن هدوقة يصور الصراع من أجل المرأة الوطن..وهو التصوير نفسه نجده عند الكاتب (كاتب ياسين) في رواية نجمة وإذا كنا قد تحدثنا أن التراث السردي هو أحد مقومات الخطاب في هذا العمل الروائي فإن الكاتب لا يوظف التراث السردي لمجرد التوظيف وإنما لما له من علاقة إيجابية وروابط جمالية بين الذاكرة التراثية وقيم الحداثة فهو يستنطق التراث السردي ليجسد أراء ومواقف روائية، وتكمن براعة الكاتب من خلال تصوير صدامية الحداثة والتراث من بعض الزوايا وهو دليل دامغ على صراع الأجيال وصراع الأفكار وتضاد الرؤى في الشرائح الاجتماعية ونجد ذلك جليا على مستوى التشكلات السردية.
فشخصية الأحمر أو المثقف اليساري الذي يدخل القرية مع الطلبة المتطوعين ويحضر تجمعا شعبيا تمارس فيه الطقوس الشعبية والخرافية يقوم بمراقصة الجازية أمام الجميع فإذا به تحدث الصدمة الفكرية والهزة العنيفة التي هزت كيان القرية، وإذ كيف يتجرأ هذا المثقف مغازلة البنت بأخلاق لم يألفها الجميع، يقول الراوي جر الأحمر الجازية إلى رحبة وسط الدراويش لم يتمكن من رؤية وجهها. هم بنزع اللثام عن وجهها، لكنها منعته، راقصها فراقصته. يا لها عقول القرويين كادت تطير من رؤوسهم. الأحمر يرقص....الجازية ترقص، الدراويش يرقصون...رقصها يتخذ حركات غريبة لم تر القرية مثلها قط" ص92. وما أن شاع خبر هذه القصة حتى أخذت تنبؤات الدراويش تتعاقب وينتظرون خروج الدجال والدابة ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من الغرب. وهكذا كلما حدث شيء غير مألوف في القرية وإلا وفسره الدراويش باللعنة المنتظرة. وقد جسد الروائي هذه الصدامية في أسلوب روائي ملئ بالسخرية الهادفة إلى إشارة المتعة في نفس المتلقي.
وبن هدوقة من المولعين بتصوير هذه المفارقات التي تجعلنا نسترسل في قراءة السرد الروائي لأن المفارقة أصلا تجسد من خلال التضاد أو التصادم تصدعا في الموقف والرؤية، فشخصية إمام القرية ليست شخصية سوية الفكر والعقيدة وإنما شخصية عدها المؤلف ضمن الدراويش لأنه يقع في حالة غرام مع الطالبة الجامعية التي وفدت إلى القرية مع الطلبة المتطوعين، والروائي لا يدين في هذا الموقف التراث وإنما الذي يتستر وراء التراث وهي دلالة على الإنسان غير الملتزم والمضطرب، كما حاول المؤلف تطعيم وحداته السردية ببعض الجوانب الفنية الشعبية وهي تتكرر كثيرا عبر الصفحات مثل رقم سبعة -7- الذي كاد أن يتحول إلى شخصية روائية نظرا لعلاقته بحياة الناس في القرية فهو رمز لهم في التفكير والتعامل ويرمز إلى طقوسهم الدينية، وإننا لنجد عدد سبعة شديد الحضور في الحكايات الخرافية والأساطير فليونان الحكماء السبعة وللمسيحيين الشمعدان ذو السبعة أغصان وفي تاريخ الحضارة الإنسانية عجائب الدنيا السبعة وهناك رمي الشيطان بسبع حصيات...وهكذا...(وللتذكير فإن رواية فاجعة الليلة السابعة بعد الألف احتوت على عدد سبعة وغطت مساحة كبيرة على مستوى السرد).
*الرؤية الروائية للعالم:
حين نتحدث عن رواية واقعية اجتماعية تجسد قيم الوطنية والأرض والإنسان في صراعه مع الطبيعة والأفكار فإننا نجد أنفسنا أليا نتحدث عن الرؤية الروائية، طالما أن الرواية في هذه الحالة تصور مجموعة من الرؤيات للعالم، ولعلنا في هذه الباب نعتمد على الباحث لوسيان قولدمان الذي عد أن العمل الأدنى يشكل في النهاية رؤية للعالم وباعتباره الناقد الذي ذاع صيته في استخدام هذا المصطلح من خلال نظريته البنيوية التوليدية (2)، ومما لا شك أن الروائي قد أراد تجسيد مجموعة من الرؤى الروائية المتصارعة والمتضادة عبر المسار السردي للأحداث...فالكاتب يملك رؤية والسارد المتخيل يملك رؤية والشخصيات الروائية تملك رؤى...وكل هذه الرؤى تتحرك ضمن مجموعة من الأماكن من الدشرة بين المسجد والصفصاف وبيوت الطين والجبل.
ولعل أول ما يمكن الحديث عنه في الرؤية الدراسية للكاتب التي تتجلى من خلال البنية العميقة للرواية وهو محاولة اغتصاب مشعل الثورة أو مشعل بروميثيوس من أيادي الشعب، وقد جاءت الرواية لتصور المأساة التي تجرعها الشعب بعد نهاية الثورة إلى الفترة التي كتب فيها النص وقد جسد ذلك من خلال شخصية الجازية. إن الجازية أبوها شهيد وأمها شهيدة وهي رمز للثورة والوطن بينما حاولت أيادي عدوانية النيل منها، ولقد راودها العميل المتواطئ مع الغرب وأمريكا وحاول إلزامها التزوج بابنه لكي يمسح عار الماضي ودنس تواطئه مع المستعمر...يقول الشامبيط العميل "إذا تزوجت الجازية بابنه سيغسل ماضيه بماء المطر ابنه وأحفاده من بعده يصبحون في الأفواه والأفكار حفدة أكبر فاعل في التاريخ..." ص176. ومن هنا فإن الرؤية المأساوية تتجلى بقوة من خلاب عملية فضح وإدانة لما تبينه هذه الشخصيات المتواطئة لتحقيق أحلام الوطن خارج الحدود، وهي تقوم بأدوار مشابهة لدور المستعمر وإنما خيانة للضمير وجذور الأمة، بالأمس دافع الشهداء من هذه الأرض وهاهم يتواطئون مع الأعداء ضد جسد هذه الأمة المحموم بالمحن والمآسي ويريدون أن تتوقف المشاريع وأن تجف الينابيع، تقول الرواية "كان ابن الشامبيط يريد منها الزواج ليتوج اسمه بهالة النور التي صنعتها بندقية والدها ودماؤه...يريد مسح العار والشمبطة عن جبينه ولكنها رفضت وإن أرغمت سترمي بنفسها في الهاوية" ص25.
والرؤية الروائية لشخصية الشامبيط تجسد الزمرة الاجتماعية المحدودة تكونت لديها مصالح بعد الاستقلال والتي أنهت كل عمل إنساني إيجابي يمكن أن تقوم به، فهي تملك وعيا تاما وتسعى للحفاظ على تلك الصفحة المشرقة التي كانت لديها في الماضي، والحفاظ على هذه الكرامة لا يمكن إلا بالرجوع إلى هذا الغطاء الإيديولوجي، ورؤية العالم عند الروائي تستند إلى التصادم بين عدد من الشخوص التي تتضارب في المصالح، وهذا التضارب هو الذي يؤدي في النهاية إلى اختلاف رؤيات العالم، وثمة شخصية مهمة تقف في صدام مع حاكم القرية والمستبد بها وهي شخصية الشاعر التي حملت الرؤية الدرامية مع بداية المسار الروائي من خلال مشهد سردي عن وضع الشاعر في سجن القرية لأنه كان يكتب القصيدة ويتغنى بالوطن والشهداء، ويرسم ألوان القرية الجديدة، واستطاع الروائي المزاوجة بين الرؤية الدرامية والرؤية التفاؤلية للشاعر، لأنه بدا رجلا مقاوما وشجاعا ولم يبد تأنيبا للضمير...وكان يريد أن يصنع مجتمعا واقعيا تسود فيه العدل والكرامة والحرية وظل يعيش أحداث المجتمع داخل السجن، أما الروائي فقد بدا متعاطفا مع الشاعر السجين، والسجين الطيب ابن الجبايلي، ثم محاولة دفع القارئ إلى التعاطف المماثل كي تبقى صورة التحدي ودلالتها حية في ذهن القارئ.
وثمة الرؤية الجماعية لأهالي القرية والجماهير التي تتطلع إلى واقع جديد، وهذا الواقع الذي كان يتطلع إليه الشهداء بالأمس، وتريد استبدال أوضاع متفسخة بأوضاع جديدة أساسها الكرامة، وهو الموقف الروائي نفسه الذي نجده مصورا لجماعة المثقفين الجامعيين الذين وفدوا لإلى القرية ليدرسوا بناء مشروع القرية الجديدة وبث حركة الوعي وتحريك أفكار الحرية وقيم الإنسان.
أما من حيث الرؤية على مستوى اللعبة السردية والتي تربط الراوي السارد والشخصية الروائية فقد قسم جون بويونJEAN POUILLON ( 3) في كتابة "الزمن والرواية" إلى ثلاثة أقسام:
1-الرؤية مع (LA VISION AVEC): إن هذه الرؤية للشخصية تكون مع الراوي فمع الراوي يمكننا معايشة الأحداث المسرودة ولكن بحسب ما هو كائن وما هو موجود ويضيف الراوي أشياء ما لا يبدو للشخصية، ومن ثم فهو يلزم حدوده.
2-الرؤية من الخلف (LA VISION PAR DERRIERE): يكون فيها الراوي عليما بكل شيء ملما بالحياة النفسية والفكرية للشخصيات وهو في هذه الحالة مثل الإنسان الذي يمسك بخيوط الدمى المتحركة ويحركها كيف ما شاء بينما هي لا تملك حرية الحركة، فالبطل في هذه الرواية ليس هو الذي يظهر نفسه إلى القارئ أو الكاتب وإنما الراوي (الروائي) هو الذي يختار موقعا ليرى الشخصية.
3-الرؤية من الخارج (LA VISION DU DEHORS): وهو يتمثل في رؤية المظاهر الخارجية للشخصيات وعدم معرفة خباياهم وخفاياهم وإذا حاولنا تحديد هذه الرؤية السردية فإننا نجد تداخل النمط الأول من الرؤية والنمط الثاني على مستوى صفحات الرواية. فإذا ما تحدثنا عن النمط (الرؤية من الخلف) فإننا نلمس الرواية يؤطر الأحداث بشكل صريح ففي الفصل الذي يتم فيه سرد الأحداث عن شخصية عائد والمهجر فإن المتلقي يتعرف عن هذه الجوانب عن طريق عدسة الراوي التي تربط بين زمنين زمن الهجرة ثم زمن العودة يقول الراوي "وصلت أخبار الجازية إلى المهجر أخبار مزوقة...هام بها كل من أحس في عروقه بقية من قوة...
من بين هؤلاء عايد شاب مثقف ذو عزم عاش بالمهجر منذ الطفولة أبوه صديق حميم للأخضر...نما عايد وترعرع في نفسه حب هذه القرية الجبلية التي تحيى فيها الجازية..."ص27. حتى الحوارات السردية التي كانت تدور بين الراعي وشخصية عائد كانت من تأليف الراوي...
والأمر نفسه بالنسبة للفصل المخصص لشخصية الطيب السجين والجازية فشخصية الجازية لا تتحرك عبر الرواية ولا تمارس الملفوظ السردي طوال الفصول وإنما نتعرف إليها عن طريق السارد الذي يصفها في كل مرة بأنها امرأة غير عادية أبوها شهيد ابتلعته حناجر الطيور. أما بالنسبة للرؤية التي يكون فيها الراوي واصفا موضوعيا للأحداث والشخصيات فهي تتركز بالأساس على سرد تلك الأحداث المتعلقة بأهالي القرية أثناء تجمعاتهم بالجامع أو إقامتهم للطقوس الشعبية وغيرها...
ولعل ما يمكن تسجيله في هذا الصدد هو التداخل أحيانا بين الشخصية الروائية وشخصية السارد، ذلك أن هذا الأخير يكون واصفا أحيانا لشخصية فإذا به هذه الأخيرة تتحدث عن نفسها وذلك بعد أني نسحب السارد: مثال "أدار السجان مفتاحا غليظا في القفل دفع الباب أمامي وقال متهكما: "حظك سعيد...يغلق الباب من ورائه بعنف كما فتحه ينصرف بخطى متزنة غليظة الوقع.
بالحجرة سريران قذران
أجلس على أحدهما
لا أفكر
أصبحت سجينا..." ص8
وعلى هذا الأساس فإننا نجد محور الذكريات كلعبة سردية لها حضور قوي في هذه الرواية فشخصية الطيب السجين يسرد لنا الأحداث عن طريق الذكريات مثل الحديث عن شخصية الشامبيط في الفصل الأول والحديث عن الأحمر المثقف اليساري وعن القرية وأهاليها...
*جماليات المكان:
لعل السبب الذي يجعلنا نتحدث عن هذا المبدأ النقدي المعاصر في الرواية هو أن النقد الروائي العربي، الحديث أو الجزائري لم يعر هذه المسألة أية اهتمام على الرغم من اعتبار المكان جمالية من جماليات الأدب الروائي، لأن المكان في التصوير في التصوير ليس حيزا جامدا خال من الأبعاد والرموز وإنما نجده ينبض بالحياة والحرارة الإنسانية لأن الارض أو الموطن أو القرية أو الدشرة التي ولد بها الانسان تظل ترتبط بعلاقة حميمة معه في المخيلة والذاكرة والفكرة والشعور واللاشعور وقد أكد الباحث الفرنسي جاستون باشلار (4) على أن المكان في الفن ليس مكانا هندسيا محايدا خاضعا لقياسات وتقييم مساح الاراضي بل هو مكان عاشه الأديب كتجربة، والمكان لا يعيش على شكل صور بل يعيش داخل جهازنا العصبي فلو عدنا إليه في الظلام فلسوف نعرف طريقنا إلى داخله.
وإذ تحدثنا عن المكان الروائي عند عبد الحميد بن هدوقة فإننا بالضرورة نجد أنفسنا نتحدث عن الريف بكل أوديته وهضابه وبيوته التقليدية ومسالكه الوعرة وموارد الماء والأماكن التي تقام فيها الطقوس الدينية. ولعل الذي ظل يحز في نفسية الكاتب أن هذا الريف الذي دافع عنه الشهداء بالأمس أثناء الاحتلال لا يزال يرزح تحت الشقاء والبؤس ولم يرفع عنه الغبن والشقاء في زمن الحرية والاستقلال، ولسنا نعدو الحقيقة إذا قلنا أن الريف في رواية الجازية والدراويش أو نهاية الأمس أو ريح الجنوب يتحول إلى أسطورة متجردة في أعماق الكاتب أو إلى امرأة جذابة استهوت عليه فكرة وإبداعه وقريته تجلت في صورة وصفية بحتة وإنما هي رؤية رواية قوية تعكس مواقف أدبية صارخة ومنددة للوضع الذي أل إليه أناس هذه الأرض من تخلق وجهل وأمية وبؤس وتباين طبقي. وقد ظل الروائي متعاطفا تعاطفا كبيرا مع مكانية الريف في الرواية فهو يعشق كل ما هو أصيل وجميل وبسيط فيه ويكره كل ما هو قبيح ومدمر ومتسلط فيه بل نجده يتطلع إلى بناء قرية جميلة وإلى مكان جميل تحس فيه الجازية والطيب والطلبة المثقفين الثقافة الوطنية.
الهوامش:
1-MIKHAIL BAKHTINE:ESTHETIQUE ET THEORIE DU ROMAN TRADUIT DU RUSSE PAR DARIA OLIVIER EDITION GALLIMARD-PAGE 153.
2-LUCIEN-GALDEN : POUR UN STRUCTURALISME GENETIQUE PAGE 161 EDITION GONTHIER.
3-JEAN POUNILLON : TEMPS ET ROMAN PAGE 66-76-92 GALLIMARD (2eme ED)
4-جماليات المكان: غاستون باشلار ترجمة غالب هلسا المؤسسة الجامعية للنشر – بيروت – ط1 ص67-68.
5-الجازية والدراويش: عبد الحميد بن هدوقة المؤسسة الوطنية للكتاب سنة 1983.