البنية الزمنية في رواية غدا يوم جديد. لعبد الحميد بن هدوقة

الأستادة نبيلة زويش (بوطاجين)
يقول بول ريكور "إن العالم المبسوط من خلال كل المؤلف سردي يكون دائما عالما زمانيا.. يصبح إنسانيا في حالة ما إذا كان موضحا بطريقة سردية، وبالمقابل لا تحمل الحكاية معنى إلا إذا رسمت خطوط التجربة الزمانية"(1).
الأستادة نبيلة زويش (بوطاجين)
يقول بول ريكور "إن العالم المبسوط من خلال كل المؤلف سردي يكون دائما عالما زمانيا.. يصبح إنسانيا في حالة ما إذا كان موضحا بطريقة سردية، وبالمقابل لا تحمل الحكاية معنى إلا إذا رسمت خطوط التجربة الزمانية"(1).
ويؤكد الفكرة نفسها وهو يتحدث عن الزمن فيعتبر أن "الحبكة، التي هي المكون السردي المركزي، ليست سوى تأليف إبداعي للزمن، يستخرج من تشعب التجارب ... كلا زمانيا موحدا"(2)
لقد بدا لنا من خلال قراءتنا لرواية "غدا يوم جديد" أن هذا هو الذي ذهب إليه بن هدوقة، لأنه صاغ تجربة "مسعودة"، انطلاقا من عنصر الزمن، فهذه المرأة أنطقها زمن طارئ وعاشت حياتها في زمن صعب، وهي تفكر في كتابة قصة حياتها لتخطيط لزمن لاحق.
لكن، قبل شرح إشكالية الزمن هذا، نحاول أن نبدأ التحليل بشكل منظم، من العنوان الذي يحيل القارئ على أفق انتظار من البداية حيث يمكن اعتبار "غدا" استشرافا على المستقبل، ومن ثم فهو علامة متقدمة تؤسس لعدة فرضيات واحتمالات، فقد يتساءل المتلقي عن ماهية هذا الغد، هل هو فاصل بين "القبل" و"العبد" أي بين الماضي والمستقبل. وبما أنه اقترن بــ "جديد" فهل يعني أنه مغاير ومخالف فقط، أم يمكن أن يكون أيضا أفضل. إننا لا ننطلق من هذه التساؤلات من باب التأويل بقدر ما نرى أن النص يمثل هذا العنوان قد صار مفتوحا على دلالات مقصودة مسبقا إن مسعودة هذه المرأة التي ارتكبت كل تلك الأخطاء في حياتها الماضية ستقول كل شيء ثم تذهب للحج لتغسل عظامها. أي تتوب وتطهر نفسها.
ثم يبدأ المؤلف. بمقطوعة شعرية يقول فيها:
" ضاع مني الليل، والنهار
لذا استجبت للمغامرة، للسفر،
للسفر في الزمن
أبحث عن النهار ولماذا تأخر؟ لماذا تأخر؟
سفري ليس صعودا
الزمن الماضي لم يغادر
هو سفر في الزمن
بلا زمن"(3)
لا توحي هذه المقطوعة الشعرية بأهمية الزمن في هذا النص وحسب، إنما تؤكد أيضا المفهوم العميق الذي يعطيه له المؤلف، فيلح على ما يسمى في تحليل السرد القصصي "باللحظات الحدودية" مثل (الغد، الليل، الصباح، النهار) لكن كل هذه القرائن لا تقدم للقارئ أي تحديد لأية واقعة بل على العكس يبدو أنه يعطيه بعدا فلسفيا يوافق من خلاله أراء الكثير من الفلاسفة الذين احتاروا في تحديده بشكل دقيق.
لكن الأهم من هذا أن المؤلف لم يبدأ الرواية بهذه المقطوعة الشعرية عبثا. وكما يقول رولان بارت "لا يوجد شيء لا قيمة له في النص" لذا أمكننا القول أنها قصة متقدمة تساهم في الكشف عن مجرى الحكاية إذ ستؤكد للقارئ أنها تصوغ تجربة عنصرها الرئيسي "الزمن"، فليس من قبيل الصدفة أن يشبه السارد مسعودة به حيث يقول:
" بدت لي وهي أمامي على مقعدها، كأنها جالسة على الزمن"(5) "تشدني إلها نبرات ذلك الصوت الذي يأتينا من أعماق الزمن"(6)
"أحيانا أتخيلها هي الزمن الذي يصفها به غير مرتبط بأية لحظة محدودة أي ليس رياضيا الأمر الذي يتجلى على مستوى السرد" الذي لم يتسم بتواتر الحدث ومن ثم كان سردا غير حدثي، لأن تواتر الملفوظ لم يخضع لأي تواتر حدثي".
يبدأ السارد في سرد أحداث القصة ومن ثم رسم خطوط التجربة زمانيا.
يعتبر جيرار جنيت "الحكاية مقطوعة زمنية مرتين، زمن المحكي وزمن الحكاية"(8) الأمر الذي يؤكده بول ريكور "يمكننا القول إن هناك نوعين من الزمن في كل قصة مروية، هو سلسة من الأحداث (لأننا نستطيع دائما طرح السؤال التالي، ثم ماذا؟ ثم ماذا؟) ومن ناحية أخرى تقدم القصة المروية جانبا زمانيا آخر يتسم بالتكامل والنضج والاختتام الذي تدين له القصة بحصولها منه على صياغة تصورية متعينة"(9) لكننا ندرك بجلاء أن الرواية قد تجاوزت ثنائية الزمن المشار إليها إلى شبكة أكثر تعقيدا وذلك ببساطة لأن زمن الحكي قد تجاوز المرة الواحدة، فالقصة سردتها مسعودة أولا لمتلق متضمن هذا الأخير الذي سردها هو بدوره لمتلق مفترض. كيف ذلك لقد استدعت مسعودة الكاتب ليكتب لها قصة حياتها، لكنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن سمعها منها.
نستنتج من هذا التحديد الأولى للبنية الزمنية المعقدة مجموعة من المقاطع أو المحاور الزمنية الأساسية التي انبنت عليها الرواية ويمكن إيجازها كالآتي:
1- المقطع الأول: الزمن الذي جرت فيه الأحداث القصصية فعلا، والذي عاشت فيه مسعودة صباها، وقد كان في فترة الاستعمار وقد ارتبط بمكانين القرية أولا، ثم المدينة. ويمكن أن نمثل للفترتين والمكانين بمقاطع من النص.
"القرية التي ولدت فيها تبني الأساطير والآلهة والأنبياء والأبطال... والزمن الذي عاش فيه أبي لم يبق فيه لسكان القرية غير أسماء أسطورية رمزية بعيدة وذكريات أشد رمزية وأسطورية، نسجتها الذاكرة الجماعية، لتحمي نفسها من الانقراض النهائي أو انقراض ما يتصل بهويتها تحت ضربات المستعمر"(10).
"عندما دخلت المدينة للأول مرة، نزعت حذائي الجبلي الغليظ، حذاء " البيريني" المسمر، كانت طرق المدينة عندي ألين منه! أتذكر أيضا أنني لم أنم الليلة الأولى حتى آذان الفجر"(11).
2- المقطع الثاني: الزمن الذي سردت فيه مسعودة قصة حياتها على الكاتب، وهو الزمن الذي بدا آنيا، وهو أيضا الأكثر تحديدا لأنه احتوى على إحالات تاريخية دقيقة كما سنبين ذلك من خلال الأمثلة من النص.
" أكتب قصتي بما تعرف من كلمات وإيماءات جميلة، كتابتي أنا لا تستطيع أن تتحمل الهواجس والمكنونات"(12).
" أكتب ما أقصه عليك بكلماتك. ما يملأ رأسي لا تفنيه كلماتي"(13).
" أكتب ما أمليه عليك، وما تعرفه أنت" (14).
" أرجوك أكتب كل ذلك، لكن بصياغة أخرى"(15).
" أكتب القصة مبعثرة، لكي لا يبعد الزمن بين أحداثها لكي لا يكون الزمن شاسعا بين أكتوبر وديسمبر مثلا"(16).
3- المقطع الثالث: الزمن الذي سرد فيه الكاتب قصة مسعودة. ما علمه منها وما علمه من غيرها، بالإضافة إلى سرده لبعض المقطوعات التي شكلت ومضات زمنية من حياته هو نفسه.
"أسدت الجزء الأعلى من لحافها على وجهها وهي ترى برصيف المحطة شخصا يسترق النظر إليها، شعرت بعواطف غريبة تنتابها..."(17)
" ماذا؟ لو حدثتنا عن الحبيب حلم شبابها... ومع ذلك"(17).
لابد أن أحكي لها القصة..."(18).
"أصعد في الزمن، في الذكريات المنسية، في الطفولة... كم كان سني حينئذ؟ لا أدري... كنت صغيرا..."(19).
نستطيع من خلال هذه المقاطع الكبرى أن نخطط للبنية الزمانية الخارجية لهذه الرواية.
يبدو من خلال مقاطع النص أن تنوعا كبيرا في المستويات السردية لأن النص لم يستقر على سارد واحد، ولذلك لم يعرف الاستقرار فينتقل في كل مرة من السرد الدرجة الأولى إلى السرد من الدرجة الثانية، وقد أحدث تداخلات حكائية واضحة، هذه التدخلات الحكائية أدت بدورها إلى تداخل البنى الزمانية.
لقد تشكل على مستوى هذه البنية الزمنية المكثفة تنويع في المفارقات الزمنية خاصة اللواحق التي تراكمت مشكلة ارتدادات كان منها الخارجي والداخلي، القريب في البعد الزمني والبعيد، القصيرة المدى والطويلة. وبينما تعلقت السوابق بالمقطوعات السردية التي لم يتم تحققها على مستوى الفعل وتجلت على مستوى القول فقط، فقد حاول الكاتب استغلال بعض اللواحق القريبة للإيهام بآنية بعض الأحداث سنحاول فيما يأتي أن نتبين بعض النماذج منها.
اللواحق: إن كل سردته مسعودة كان استذكارا لماضيها وحياتها وبذلك فأغلب المقاطع لواحق ذاتية استرجعت من خلالها حياة مسعودة.
"أيامي ... بالأيامي! طفلة، زوج أمي "أرغم" قدورا على خطبتي، وأرغم أمي على الموافقة. أنا فرحت. حلمي كان اسمه حينئذ: المدينة!"(20). "كنت في شبابي أسمع بكل جوارحي وأرى بكل جسمي! كم كانت المتعة كبيرة! كانت الدنيا كلها لوحات متجددة"(21).
"في صغري كنت أستحم مع أترابي تحت شلالات الوادي أو في أحواضه... كم كنا نتلذذ"(22).
"وأصبحت أما لأطفال بدل واحد تركه أبوه مضغة في بطني! إنهم- إذا شئت أن تضحك من مأساتي- يمثلون البشرية... بيتي القصباوي الصغير، ثم بيتي الكبير... أبنائي كلهم شاركوا في الثورة"(23).
يظهر من خلال هذه الأمثلة القليلة أن الرواية قد انبنت أساسا على اللواحق، حيث ارتدت الساردة واسترجعن ذكريات الماضي التي شكلت قصة حياتها، التي تريد أن يكتبها لها هذا الكاتب وكما يبدو في الأمثلة السابقة أن اللواحق كانت متنوعة ومختلفة ويمكن أن نوضح ذلك من خلال القرائن الدالة على ذلك.
لم تكن اللواحق ذات مدى واحد ولا سعة واحدة، فقد ارتدت إلى الماضي البعيد الذي يتحدث من قولها "طفلة"، "زوج أمي" وهو سن الطفولة الذي عاشته مع زوج أمها وتؤكد هذا في مقاطع أخرى وتشير إليه بقولها "في صغري"ثم تحدث انكسارات زمنية أخرى فترتد إلى ماض اقرب ليتشكل على مستوى النص لواحق على لواحق بمعنى أن الزمن يركب مما يحدث تداخلات وانكسارات كثيرة. لكن ما نود الإشارة إليه أن مسعودة لم تبدأ من الطفولة فالشباب حتى تصل إلى اللحظة الآنية وذلك لأنها كانت تقدم وتؤخر دون أن تلتزم بترتيب تنازلي للأحداث ورغم أنها تسرد قصة حياتها مبعثرة، كما تقول عنها، إلا أننا نستطيع أن نتبين كل المراحل التي تحدثت عنها:
الطفولة، الصبا، الشباب، الزواج، الأبناء وغيرها من المراحل ويمكن أن نقسمها أيضا إلى مراحل زمانية قبل الثورة، إبان الثورة وما بعدها.
إن أهم ما نتوصل إليه على مستوى البنية أن اللواحق لوحدها قد شكلت انكسارات كبيرة الزمن الماضي
ل1: "أكتوبر أنطقي"
ل2: أيامي ... يا لأيامي! طفلة"
ل3: "قدور، زوجي الوحيد"
ل4: "عندما دخلت المدينة"
ل5: أصبحت أما لأطفال"
نشير إلى شكل مجرد تمثيل لشبكة الانكسارات التي شملت كل النص ولكننا اكتفينا بالتمثيل فقط لإتمام الشرح فقط والأمثلة المقدمة منتقاة من الصفحات الأولى، من الرواية، وهي تستمر حتى النهاية حيث تحتكم مسعودة سرد قصتها بتذكر انطلاق القطار.
"ركبنا، وانطلاق القطار بي إلى الحلم إلى غاية الغد الجديد!"(24).
السوابق:
سبقت الإشارة إلى أن أهم سابقة تكررت على مستوى سرد مسعودة هي التي وردت في المقطوعة الآتية:
" أقول كل شيء، ثم أذهب إلى مكة لأغسل عظامي وأيامي"(25).
لقد تكررت هذه السابقة التي شكلت التنافر الزمني الثاني في النص وصيغة الفعل تدل على المستقبل، إنها استشراف غير أننا نلاحظ أنها تبقى على مستوى القول ولا تتحقق على مستوى الفعل، إنها مثل توقع.
أما ما يمكن قوله بالنسبة لبقية السوابق التي وردت في النص فإنها كانت قصيرة المدى، إن لم تكن غير محددة، من ذلك مثلا، قول مسعودة: "أعرف أن الله سيعاقبني على كثرة من أفعالي"(26).
وقولها أيضا: لا تخش أحد إذا لم يحمك ابني الوزير حماك ابني الضابط أؤكد لك أنه سيفعل " (27).
إن هذه السابقة لا تورد حدثا مستقبليا ما تنفي حدوثه مستقبلا.
كما ورد على لسان "مسعودة" صيغ مبنية على أفعال طلبية، وقد ارتبطت بقرائن تدل على المستقبل مثل "السين" أو "سوف" فتشكلت سوابق تنبأت مسعودة من خلالها بأحداث ممكنة التحقق لا حقا.
" اذهب إلى القرية، حدث الناس - اسألهم سوف تجد صورا من حياتي"(29)
" اذهب إلى هناك سوف تحدثك كل نقطة"
" أريد أن أرى عزوزا، الحاج أحمد (...) أريد أن أرى الحبيب، أريد أن أرى قدورا صامدا للعذاب" (30).
إن الملفت للانتباه في مثل هذه السوابق أنها تشير لاستحضار أشياء من الماضي، تجسدت زمانيا وانتهت، ومن ثم فهي ليست إنباء إن مسعودة تستغل الماضي وتريد أن تخلق منه مستقبلا.
لكن المدهش في تقنية السوابق إدراك الساردة لجماليات الزمان فهي تقول للكاتب: "أنت تستطيع إلغاء الزمن أو دمجه في زمن جديد"(31).
تجدر الإشارة أيضا إلى أن أغلب هذه السوابق قد ارتبطت بلحظات رجوعها إلى الحاضر، فكلما توقفت مسعودة عن الاستذكار سعت لمناقشة الكاتب أو توجيهه لما تريد.
هناك نماذج أخرى من السوابق لكنها وردت بعفوية فاكتست بطابع عرضي، السبب الذي لم يجعلها تؤثر في المجرى الحكائي أو القصصي.
كما يمكن القول إن أغلب السوابق بدت عفوية، فظهورها بشكل مفاجئ، وعدم احتلالها لحجم نصي يؤكد ما نذهب إليه.
أخيرا نشير إلى أننا الاختصار، ولذلك انتقينا شواهد من السرد من الدرجة الأولى فقط. لكن هذا لا يعني أنه انحصر فيه فقط بل انتشرت هذه المفارقات الزمنية عبر كل مستويات النص مما يفتح المجال لدراسة الرواية بشكل مفصل.
وتبقى رواية غدا يوم جديد من أجمل النصوص التي قرأت، والتي اتقن المبدع فيها حبكة الزمن.
الهوامش:
1-paul ricour. temps et récit, L'intrigue et le récit historique, éditions du seuil 1984. p17
2- بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي، الوجود والزمان والسرد، المركز الثقافي العربي، 1999 ص69.
3- عبد الحميد بن هدوقة غدا يوم جديد، منشورات الأندلس الجزائر 1992 ص7
4- رولان بارت، مغامرة في مواجهة النص، ترجمة وائل بركات، درا الينابع ص63
5- الرواية ص9.
6- المصدر نفسه ص9
7- الرواية: ص
8-GERARD GENETTE FIGURE III SEUIL P. 147
9- بول ريكور، الوجود والزمان والسرد ص41، 42.
10- الرواية ص 101
11- الرواية ص 11
12- الرواية ص 13
13- الرواية ص 15
14- الرواية ص 17
15- الرواية ص 17
16- الرواية ص 23
17- الرواية ص 23
18- الرواية ص 195
19- الرواية ص 39
20- الرواية ص 15
21- الرواية ص 22
22- الرواية ص 38
23- الرواية ص 18
24- الرواية ص 332
25- الرواية ص 15
26- الرواية ص 17
27- الرواية ص 19
28- الرواية ص 19
29- الرواية ص 19
30- الرواية ص 76
31- الرواية ص 76