إشكالات الأدب النسائي

لعريط مسعودة - جامعة تيزي وزو-
المنظور النقدي لمصطلح الأدب النسائي:
يعد مصطلح "الأدب النسائي" من الموضوعات التي انتقلت إلى النقد العربي عن طريق التأثر بما استحدثه الغرب من طروحات فكرية، إذ عرف الغرب هذه القضايا منذ القرن السابع عشر، وقد بلغت حدا ملفتا للانتباه من التطور والتبلور بسبب أن الكتابة النسائية داخل تيارات واضحة المعالم قد برزت وتطورت أولا في هذا الجزء الغربي من العالم. وبالمقابل يبدو أنه لا يمكن الحديث عن كتابة نسائية عند العرب إلا مع مطلع القرن التاسع عشر.
وعلى الرغم من قلة ما أفرزته الكتابة النسائية من مساهمة أدبية، مقارنة بالإنتاج الأدبي العام، نلاحظ أنها لقيت ردود أفعال نقدية، تتسم في أغلبها بالعاطفية والانفعالية وتتراوح بين المجاملة والإعجاب والحط من قيمة ما تنتجه المرأة من أدب في بعض الحالات، ومع ذلك نجد من النقاد من نظر إلى هذه الكتابة على أنها ظاهرة تستدعي الدراسة والتأمل باعتبار زمن الصمت الطويل، الذي قضته النساء بعيدا عن مدارات الفكر تستدعي الدراسة والتأمل باعتبار زمن الصمت الطويل، الذي قضته النساء بعيدا عن مدارات الفكر والأدب، في هذا السياق انبثق مصطلح "الأدب النسائي" الذي يطرح إشكالات متعددة ومنظورات متباينة بين النقاد باعتبار مرجعياتهم الإيديولوجية ورؤاهم المعرفية المختلفة.
يقدم حسام الخطيب قراءة إيديولوجية في تناوله لهذا المصطلح تتضح من خلال التصنيف الجنسي وليس من خلال المتن والدراسة العميقة إذ أن هذا المصطلح في نظره لا يتمتع بمشروعية نقدية إلا إذا عكس المشكلات الخاصة بالمرأة، إذ يقول تثير المصطلحات الدارجة مثل (الأدب النسائي وأدب المرأة) كثيرا من التساؤلات حول مضمونها وفي الأغلب تتجه الأذهان لدى سماع مثل هذه المصطلحات إلى حصر حدود هذا المصطلح بالأدب الذي تكتبه المرأة"(1) أي بتحديده من خلال التصنيف الجنسي لكاتبة لا من خلال المضمون وطريقة المعالجة ويترتب على ذلك أن تكون الأهمية النقدية لمثل هذا المصطلح ضئيلة جدا.
ترى خالدة سعيد (2) أن هذا المصطلح محاط بالغموض رغم كثرة استعماله وأنه يغيب الدقة وفيه إقرار بهامشية ما تكتبه المرأة ومركزية ما يكتبه الرجل وهو يسم كتابة المرأة بالفئوية ويستند إلى تغليب الهوية الجنسية (رجولية/ نسائية) على العمل الإبداعي مما يؤدي إلى تغييب الإنساني العام والثقافي القومي والتجربة الشخصية والوعي بها والخصوصية الفنية والمستوى الفني. لكن هذا الرفض لا ينفي بالنسبة لها الاختلاف البيولوجي والنفسي والتاريخي والثقافي القائم بين الرجل والمرأة، وتضيف أن الكتابة لدى النساء هي فعل تحرر ووعي وكشف ومعاينة وتصور وحاجات وأحلام.
أما الناقدة يمنى العيد (3) فإنها تركز على دور الواقع الاجتماعي في تشكيل كتابة المرأة وإخراجها من الخاص إلى العام، وتعمد إلى تعليل الخصوصية، إذ ترى في ذلك مجرد فعل انعكاسي لواقع مادي وتاريخي متسم بالاضطهاد والتغييب، ولذلك تسقط هذه الكتابات في بحر من الهواجس الذاتية والاعترافات، التي يحركها هاجس الصراع ضد الرجل الأمر الذي يجعلها عاجزة عن استيعاب التجربة الاجتماعية، والإنسانية بشمولية وعمق، وهو ما يحد من رؤيتها للعالم حيث تصير الأنا الكاتبة مركز الكتابة وتصبح الكتابة أداة للتحرير الفردي، وسبيل للخلاص من وضع اجتماعي ينظر إليها على أنها قاصر، ويضعها في موضع التابع للرجل، ولذلك فإن التموقع في المجتمع، وفتح علاقة تفاعل معه وطرق قضايا المرأة خارج إطار الفئة هو ما يجعل من مساهمة المرأة فعل إبداعي، واق، وهذه الخصوصية زائلة بزوال الظرفية الاجتماعية والحضارية وزوال أشكال القهر المادي. ومن هنا فإنها ترفض هذه التسمية.
ويبدو من خلال المقاربة التي يقدمها واسيني الأعرج بهذا الشكل أن مصطلح الأدب النسائي متعدد المآزق، حيث يقع ضمن سياق لغوي نحوي ذكوري متسلط باعتبار ما تتوفر عليه كلمة نساء من دلالات العنف اللفظي والثقافي، وبالنظر إلى أن هذا المصطلح يوهم بوجود مقابل له هو الأدب "الرجولي" وهذا يفترض مقارنة غير مبررة بالنظر إلى النتاج الأدبي الضئيل للمرأة العربية، وفي هذا السياق ينتقد الذين يحاولون الانفلات بسهولة من إشكالات هذا المصطلح، فيقررون ببساطة أنه لا فرق بين أدب المرأة وأدب الرجل، وأن أخرى للأنثوي لهذا المختلف، النابع من تاريخ خاص بطبعه الاضطهاد والتصميت، وعليه فإن واسيني يعترض على هذا المصطلح من حيث التسمية، لكنه يقر بوجود خصوصية أنثوية في كتابة المرأة، بحكم الخصوصية التاريخية والنفسية، ومن هنا فإن أدب المرأة هو "الأدب الذي يبرز خاصيات المرأة الجوهرية والإنسانية ورهفانها وعطبها لأن عذابات القرون ولدت ليها هذه الوسائط حتى لا تنقرض"(4) وهي إذا رؤية تؤسس لكشف المسكوت عنه، بالقول والتعبير الرمزي ضد ثقافة الحجب والتغييب والنفي.
ويبرر محمد برادة مصطلح الأدب النسائي، مؤكدا على "حضور خصوصية في لغة الكتابة عند المرأة بالرغم من اشتراكها مع الرجل في اللغة التعبيرية واللغة الأيديولوجية(5) "إذ ترتبط هذه اللغة بالذات في بعدها الميثولوجي، ومهما كتب الرجل عن هواجس المرأة بعمق وحساسية أنثوية إلى حد ما، يضل عاجزا عن تقمص هذه اللغة.
موقف الكاتبات:
اتسمت مواقف الكاتبات بالتحفظ والرفض إزاء هذا المصطلح، ولعل هذا يعود في رأيينا إلى:
- حداثة هذا النوع من الكتابة في العالم العربي تقصير النقد العربي في تأطيره لظاهرة الكتابة النسائية من منظور علمي يبحث في النص، بهدف القبض على الخصوصية الجمالية الأنثوية فيه، وليس فقط في الجوانب المحيطة به.
- غياب تيار نقدي نسائي عربي يهتم بكتابة المرأة، حيث أن الممارسة النقدية عند النساء في الوطن العربي، قليلة جدا فباستثناء خالدة سعيد ويمنى العيد ورشيدة بن مسعود، لا نكاد نجد اسما آخر ناقش هذه المسألة وبهذا وجد المجال مفتوحا ليتكفل الناقد وحده بهذه المهمة.
- عجز الكاتبات عن تشكيل رؤية فكرية حول الكتابة النسائية تؤكد مشروعية الاختلاف.
- انبناء المصطلح على أساس جنسي (نسائي) مما يجعله يفرز- في نظرهن- دلالات الدونية والاحتقار: "لدينا شعور أن بداخل كل امرأة ألف رجل وهناك شيء من الظلم حين نؤكد باستمرار أننا نرى وجه الأنثى في كل كتابة تقدمها المرأة"(6)
- اندراج موضوع الجسد ضمن ثنائية المقدس والمدنس في الثقافة وهيمنة التصور الثقافي العربي القائم على الإقصاء والتهميش، والذي ينظر إلى جسد المرأة على أنه مدنس وجب في حقه الحجاب وكتم الصوت والرغبة، تقول نوال السعداوي " المشكلة في كتابة المرأة هي الانتقال من مبدأ اللذة إلى مبدأ الألم، لو تكلمنا عن اللذة نكون مخطئات، المرأة تعاقب ككاتبة إذا كتبت عن جسدها"(7) وه ما لا نتفق معه، إذ يخلو هذا الكلام من الموضوعية، وينزع إلى الشوفينية، وهو الأمر الذي لا يخدم لا المرأة ولا الكتابة التي تمارسها باعتبار الكتابة رغبة للاختراق، وممارسة تنتج اللذة، و"ترجمة للجسد واللاوعي والرغبة" (8)، كما أننا لا نعتقد بمبدأ اللذة المجردة من الألم ولا بالألم المجرد من اللذة، بل إن الآلام الدفينة في جسد المرأة العربية، هي ذاتها الرغبات الموءودة في تلك الأصقاع وهي بؤرة واحدة تنبجس منها الأحزان والحرائق المختلفة.
وبخلاف هذا نحد بعض الكاتبات أكدن على الخصوصية والتميز في كتابات المرأة، مثل كارمن البستاني إذ تقول "ليس لنا نحن والرجل الماضي نفسه ولا الثقافة نفسها، فكيف يكون لنا والحالة هذه، التفكير نفسه والأسلوب نفسه ذلك أن المرأة تكتب بشكل متميز عن الرجل، لاسيما بعد تطورت العادات والتقاليد بفضل النضالات النسوية، حيث لم يعد ينظر إلى هذه الخصوصية في أسلوب الكتابة على أنها تعبير عن دونية ومحدودية، بل جرى التعامل معها كحق من حقوق المرأة في التمايز"(9)
خصائص الكتابة النسائية:
يبدو لنا في ضوء ما تقدم أن مصطلح الأدب النسائي يكتسب مشروعيته النقدية من بؤرة الاختلاف والتمايز، إذ ينبع هذا الاختلاف عند أفاية نور الدين من الاختلاف الجسدي، فالمرأة تصوغ كتابتها بشكل مختلف تماما عن أشكال كتابات التي لا تتوقف المرأة عن ممارستها في علاقتها بجسدها، فالمرأة باعتبارها كائنا مختلفا في تكوينه وجسده عن الرجل وباعتبار تواجدها في مجتمع ذكوري، تعمل على الدوام على إظهار جسدها بشكل مغاير، ولكي تغري، وتعجب وتؤسس علاقة مع الآخر تتخذ الصورة التي تحملها عن ذاتها مكانة أكبر من جسدها الحقيقي الواقعي. إنها تعطي للعالم قناعا لكي ترتب للجسد مسافة ما. فهي تفضل إبراز التمثل الذي تحمله عن جسدا بدل جسدها"(10)
أما الأسلوب فإنه "يقاوم ويفجر كل الأشكال والعلامات والأفكار والمفاهيم المؤسسة تأسيسا صلبا من طرف الصرامة العقلية، أو غيرها التي نحتها الرجل عبر تطور التاريخي، قد يبدو أن أسلوبها منعدم القيمة إذا حكمنا عليه من منطلق إطار مرجعي قيمي صاغه الرجل لأن ما يميز هذا الأسلوب هو تذبذبه وعدم استقراره في الدفاع عن أطروحة أو موقف ثابت قار"(11) فإذن أفاية يبرز لنا ثلاث خصوصيات في كتابة المرأة هي:
أ- خلق مسافة ما للإثارة والإغراء ويبدو هذا من خلال الأقنعة التي تستعملها
ب- النرجسية: حيث تتفجر كتابة المرأة من جسدها الخاص وتتجسد في إعادة تشكيلها لصورتها الخارجية، وفيما تكتبه من أدب حيث تتمحور هذه الكتابة حول مركزية الجسد.
ج- التفكيك، بمعنى خلخلة المنظومة اللغوية والفنية والثقافية كم شكلها الرجل.
من خلال هذه النقاط نلاحظ أن أفاية يرجع اختلاف الكتابة النسائية إلى الاختلاف الجسدي، إذ هو المنبع وهو المسؤول عن صياغة هذا النوع من الكتابة. فهذه المقاومة إذا وهذا الانفجار في أسلوب المرأة يعود إلى طبيعة في ذاتها، وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى الوعي بهذا الاختلاف، أي هل الكاتبة هي التي توجه كتابتها إراديا وقصديا باتجاه إحداث خلخلة في النظام اللغوي والفكري كما صاغه الرجل، لتشكل عالما أو وضعا مغايرا، أم أنها عملية يتحكم كينونة المرأة، وتساهم في تغيير وجه العالم، إذ ينتفي شرط الوعي.
وفي دراسة (12) لمجموعة قصصية لكاتبات من موقف التعاطف، واللجوء إلى تبرير ظاهرة الانحراف التي تقع فيها، استنادا إلى مبررات اجتماعية أو ثقافية أو حضارية أو نفسية.
- إسناد البطولة إلى المرأة.
- خصوصية الجانب العاطفي والنفسي التي تبرز من اختلاف أسلوب التعبير عن الجوانب النفسية والعاطفية حيث يعجز الرجل وإن تعددت لديه المواهب والقدرات عن التعبير مكان المرأة عن المرأة.
هيمنة موضوعات معينة مثل (الهجرة نحو المدن الكبرى، الزوجة الثانية، الاعتداء الجنسي أو الاغتصاب، المرأة العاملة).
إلا أن هذه الموضوعات في رأينا ليست حكرا على المرأة الكاتبة لاسيما فيما يتعلق بالأدب الجزائري، في العشرية الأولى بعد الاستقلال، الأمر الذي يجعلنا نشير إلى أن الاختلاف لا يمكن في هذه الموضوعات، بقدر ما هو موجود في الطريقة التي اشتغلت بها الكاتبات، والتي طرقت بها هذه الموضوعات، أي في كيفية القول.
وتؤكد رشيدة بن مسعود (13) على خصوصية الكتابة النسائية معتمدة على نظرية وظائف اللغة كما هو الشأن عند جاكبسون، حيث تنتهي إلى أن الكتابة النسائية تتميز بحضور الوظيفة التعبيرية التي تتمثل في دور المرسل، أي حضور ذات المرأة كمرسلة، وهي خاصية عامة في الكتابة النسائية وكذلك الوظيفة اللغوية التي أدت بالناقد إلى وصف أدب المرأة بالتكرار والثرثرة، وتفسر ذلك برغبة المرأة في تمتين التواصل، وفتح الحوار مع الآخر والتأكيد على الذات.
رجل اللقاء:
لقد تعرفت على عبد الحميد بن هدوقة بوصفي قارئا ومترجما ثم صديقا. القصة تبدأ بقراءتي روايته الأولى "ريح الجنوب"، بالعربية. المؤلف في ذلك الوقت (1971) ليس بعد بالنسبة لي غير اسم من الأسماء العديدة. مع ذلك فإن رزانة النظرة التي كان يلقيها على الواقع، والاحترام الذي كان بيديه للأشخاص والنوعية الرفيعة لكتابته، كل ذلك كان يدفع بي إلى التعرف عليه.
مسار الالتقاء مهد له ثلاثة أشخاص، توفوا الآن: عبد الله مازوني، زميلي في ثانوية المقراني، وكريستين صوريو، من جامعة Aix-en-Provence، وجورج أرنو، مؤلف رواية ثمن الخوف Salaire de la peur. وقد دفعني تشجيعهم إلى التوجه نحو مهمة كانت جديدة بالنسبة لي. ثم شيئا فشيئا أدركت أن ترجمة الرواية كانت تستجيب لرغبة الكاتب وإلى طلب جمهور جزائري واسع. ومثلما قال عبد الله مازوني في كتابه "الثقافة والتعليم في الجزائر وفي البلدان المغاربية": فإن المترجمين سيضطلعون بمهمة التواصل الثقافي الضروري بين رجال محكوم عليهم بالتفاهم إذ أنهم، قيل أي شيء آخر، أبناء أرض واحدة ما دام أنهم، ويا للحسرة، ليسوا أبناء نفس الثقافة".
اللقاء الأول، الذي تبعته لقاءات أخرى كثيرة، أفضى بنا إلى طريق الصداقة. بمرور السنين وبترحاب أخوي من المؤلف، كنت الشاهد المفتون على ضميره المهني، وعلى دقة أبحاثه في مجال اللغة، وعلى حرصه على أن يحقق نصا أدبيا في متناول أكبر عدد من الناس. لقد كنت، في حدود معينة، شاهدا على تبلور رواياته التي ظهرت بعد ذلك، وعلى قصصه المنشورة في السنوات الحالكة، لقد استفدت من استيعاب متأن وعميق لأعمال، مما كان يساعد بطبيعة الحال على الترجمة. كم من مرة، خلال العشرين سنة الأخيرة، التقينا، نحن الأساتذة الأصدقاء، لنستمع للرجل وللكاتب وهو يقرأ لنا قصيدة أو ليحدثنا عن أحد مشاريعه الأدبية.
وفضلا عن لقاءاتي الشخصية مع ابن هدوقة، أحب أن أشير إلى بعض اللقاءات الأخرى التي تسنى لي المشاركة فيها على ضفتي البحر الأبيض المتوسط.
ذات مرة، قصدنا مدينةAnnecy، الموجودة في Haute-Savoie، وذلك بدعوة من مسئولي مكتبات منطقة Rhône-Alpes كانوا يريدون الإطلاع على الأدب الجزائري والعربي لكي يكشفوا لقرائهم، لاسيما المهاجرين، أفقا يتجاوز حدود فرنسا. في مرة أخرى، كانت جامعةLouvain ، في بلجيكا، هي التي اتصلت بنا في ظروف مماثلة.
لقد وقف ابن هدوقة دائما ضد الانغلاق والإقصاء اللغوي، وضد كل أشكال الظلامية. وقد عبر عن ذلك بطريقة مؤثرة في باريس، في مارس 1995، بمناسبة تكريم لرشيد ميموني.
وهو يتحدث عن الكتاب الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية، قال: "ورغم اعتباري الدائم أن الجزائر في حاجة إلى كلا الأدبيين، ودفاعي المتواصل عن ذلك في كل المحافل، إلا أنني كنت أقول بيني وبين نفسي: أن اللغة في الأدب هي وطن الكاتب، ولو أنها في غير الأدب أداة تواصل. وتشاء آلام الجزائر المستجدة والظروف الدامية التي تجياها، وما يتعرض إليه المثقفون الجزائريون من ترهيب وتقتيل، أن تكذب رأيي الأول...لا، إن الأدب لا تميزه اللغة، ولكن يتميز بالقضايا الإنسانية التي يعالجها، يتميز بقدرته، أو عدمها، عن التعبير عن إنسانية الإنسان. تشاء إذن آلام الجزائر الحديثة أن توحد بين المثقفين باللغتين، كما وحدت بينهما الآلام تحت الاستعمار (...) لقد عرفنا اليوم تحت كابوس الإرهاب والإجرام من هو الأديب الجزائري! إن ما يفرق بين أدب وأدب ليس اللغة، ولكن القيم الإنسانية التي يحملها، فالأدب الظلامي، سواء كتب "بلغة الجنة أو بلغة الشيطان هو أدب لا إنساني".
ما لا تستطيع الكلمات قوله:
عام بعد ذلك في شهر مارس 1996، بادرت مجموعة من الأصدقاء بتكريم ابن هدوقة في المركز الثقافي الجزائري بحضور جمهور واسع. وكانت الجلسة من تنشيط الشاعر العراقي عبد الأمير (عوض عبد اللطيف اللعبي الذي منعه طارئ في آخر لحظة).
وكان هناك الكاتب التونسي طاهر بكري، وJean Pélégri الذي لم تكن مضت مدة طويلة على تعرفه على ابن هدوقة في مستشفى سان جوزيف، وواسيني الأعرج والبروفيسور Gilbert Grand guillaume ومحمد ديب. وكان Jules Roy الذي استقبله ابن هدوقة، عاما قبل ذلك عندما جاء للترحم على قبر والدته في سيدي موسى، كان طريح الفراش وبعث ببرقية يعبر فيها عن عطفه على الرجل وعن إعجابه بأعماله. تلك هي المناسبة التي صرح فيها محمد ديب قائلا: "إن عبد الحميد بن هدوقة يقول بالكلمات ما تعجز الكلمات عادة عن قوله، ويحملنا إلى ما يتجاوز المظاهر". ثم كانت لحظات تأثر كبير حين جعل بن هدوقة يشكر الحاضرين بلباقته المعهودة، بعد الانتهاء من قراءة قصة ذكريات وجراح بالعربية وبالفرنسية. لقد تحث عن لحظات الحزن والألم والأمل التي كانت تعيشها الجزائر، ليختم كلامه بتنويه حار بدور المرأة ذات الحضور القوي في أعماله، قائلا: "الجزائر واقفة. لدينا كثير ممن يناضلون، وعلى رأس هؤلاء الذين يناضلون المرأة الجزائرية التي أحييها هنا".
لقد كان لي السعادة والشرف أن أستقبل من طرف الكاردينال، Léon-Etienne Duval بمعية ابن هدوقة. وقد استمعت إليهما وهما يتحدثان بأخوة تحت صورة الفنان التشكيلي إسياخم الذي كان في أكثر من مرة ضيفا على الكاردينال مع كاتب ياسين. ابن هدوقة وDuval، الكاتب ورجل الدين كانا من طينة واحدة! كلاهما كان حريصا على أن يعترف لكل إنسان، مهما كان، بحقه بأن يحظى بالكرامة والحرية والتمتع بهما لمجرد كونه مخلوق من الله، بغض النظر عن أي اعتبار عرقي، ديني أو إيديولوجي. رجلان كانا طوال حياتهما يقفان إلى جانب المضطهدين وضحايا الظلم والعنف.
في سنة 1991، حينما كان رئيسا للمجلس الوطني للثقافة، استضاف ابن هدوقة، بمناسبة انعقاد الجلسات العامة حول التراث، استضاف السيد Edgar Pisani الذي كان يشغل حينذاك منصب مدير معهد العالم العربي. أيام قلائل بعد ذلك تلقى منه رسالة خطية تستحق الذكر، تقول: "السيد الرئيس، صديقي العزيز، باستضافتك إياي في تمنراست منحتني فضلا نادرا وسعادة عميقة. دعوني أشكركم على ذلك بصدر رحب. دعوني أيضا أقول لكم كم كنت سعيدا بالتعرف عليكم والتحدث معكم بحرية حول كل القضايا التي تطرح على جزائري مسلم شريف، مثلكم، كلامكم كان يحمل تأثير تاريخكم وثقافتكم وميلكم إلى الكلمة الدقيقة والطيعة، واحترامكم للآخر، وحبكم للبشر وحكمتكم، بجانبكم وبفضلكم، أمكنني أن أعيش بدون أدنى توتر هذا المتلقي المتميز، حيث أمكنني، وأنا الأجنبي الوحيد المشارك في تلك الجلسات العامة حول التراث، أن أتعلم كثيرا وأتأثر كثيرا وأقدم شهادتي. لكن أن أشهد على أي شيء؟ أن أشهد على إمكانية الجزائريين والفرنسيين أن يقبلوا بعضهم البعض مختلفين ومتضامنين، وعلى أنني أحسست بنفسي بين إطاراتكم وزملائكم أنتمي إلى الآخر وصديقا لكم، لقد أحسست برهافة وعذوبة القطيعة والاستمرارية، الاستمرارية التي أتاحتها القطيعة. لقد أحسست أيضا بأهمية المهمة التي أنيطت بي على رأس معهد العالم العربي..."
الجبلي الآخر وراء البحر:
من بين الساعات الغنية التي قضيتها بصحبة ابن هدوقة، ينبغي الإشارة إلى تلك التي كرسناها معا لتلامذة الثانوية وللطلبة الذين كانوا بعد صدور هذه الرواية أو تلك بيدون، هم وأساتذتهم، الرغبة في التحاور مع المؤلف. ومن المفارقات، أن الرغبة كانت تصدر في غالب الأحيان عن أساتذة اللغة الفرنسية. وفي كل مرة، تسنى لي أن أتمتع بأريحية بن هدوقة وبدقة أجوبته على الأسئلة التي كانت تطرح إليه. وكان يجيب بالعربية أو الفرنسية وفقا للسائل. وهنا ينبغي التذكير بأن ابن هدوقة الذي كان يتقن اللغتين شفويا وقراءة، كتب دائما بالعربية، وبالعربية وحدها.
هذه الذكريات تستحق أن تكمل بشهادات أخرى، لاسيما بتلك التي تتعلق بالبلدان العربية، حتى نعطي فكرة أكثر اكتمالا عن طيب عشرة ابن هدوقة وإشراقه. وكان بوسعي أن أضيف أيضا أنني زرت برفقته مسقط رأسه في الحمراء، الواقعة في مرتفعات المنصورة، وجلسنا معا على مقاعد مدرسته الابتدائية. هو نفسه قدم مرتين إلى القرية التي ولدت بها، في قلب La Savoie. ويوم غادرت جبال Alpes لم أكن أعلم أنني ماض لملاقاة جبلي آخر، وراء البحر. اللقاء أفضي إلى تعارف أخوي وأتاح لي أن أكون الصدى لأعمال أحد مؤسسي النهضة الثقافية في الجزائر. إنني أشعر بالسعادة لذلك ويخطر في بالي قول لباسكال: "عندما نقع على أسلوب عفوي، نشعر بالإعجاب والفرح، لأننا كنا نتوقع أن نلتقي بمؤلف، فإذا بنا نقع على إنسان".
المصادر والمراجع:
1- حسام الخطيب، حول الرواية النسائية في سوريا، مجلة المعرفة، ع 166، كانون الأول، سوريا 1975، ص7.
2- رشيدة بن مسعود، المرأة التحرر الإبداع، نشر الفنك، الدار البيضاء 1991، ص85.
3- مساهمة المرأة في الإنتاج الأدبي، مجلة الطريق، ع 4، نيسان 1975 ص144.
4- واسيني الأعرج: ارتباكات المصطلح وأشواق العنف المبطن، مجلة روافد- عدد خاص بـ "المرأة والإبداع"، منشورات مارينور الجزائر 1998، ص12.
5- رشيدة بن مسعود: المرأة والكتابة، إفريقيا الشرق، ط1، 1994، ص92.
6- صرحت بهذا القول الصحفية والروائية اللبنانية نجوى بركات في مؤتمر الرواية العربية الأول بالقاهرة.
7- المرجع نفسه.
8- عبد الكبير الخطيبي: في الكتابة والتجربة، تر: محمد برادة، دار العودة، بيروت 1980، ص16.
9- الرواية النسوية الفرنسية، الفكر العربي المعاصر، ع34، 1985.
10- أفاية محمد نور الدين: الهوية والاختلاف، إفريقيا الشرق، 1988، ص41.
11- المرجع نفسه ص 51.
12- هل هناك أدب نسائي، مجلة روافد (مرجع سابق)، ص45، 46.
13- المرأة والكتابة (مرجع سابق)، ص94، 95.