أحلام مستغانمي وضياع الحلم العربي

الأستاذ: علي حمودين قسم اللغة العربية وآدابها جامعة ورقلة
الأستاذ: علي حمودين قسم اللغة العربية وآدابها جامعة ورقلة
تمهيد:
الرواية نوع سردي يقوم على الاختلاف مع الأنواع السردية العتيقة، وله القدرة على استيعاب مختلف الأجناس والأنواع وتحويلها. وهنا مكمن إنتاجيتها. إنها منفتحة على الزمان وعلى الإبداع. هذا الانفتاح هو مصدر فنيتها وإبداعيتها، سواء تحقق ذلك من خلال معالجتها الحدث أو في الواقع المعيش، أو المستقبل الممكن أو المتخيل. لذلك عندما نعتمد البعد الفني أساسا للتحليل، أو المستقبل الممكن أو المتخيل. لذلك عندما نعتمد البعد الفني أساسا للتحليل، نكون نسعى إلى تجاوز التصنيفات المسبقة التي تتحدث عن "التأصيل" أو "التحدث" بناء على علاقة القصة بالخطاب في الرواية فقط، دون اعتبار علاقة الخطاب بالقصة.
إن الرواية معرفة، ولكنها لا توضع بشكل سخيف على لسان الشخصيات، ولا يتم تداولها من خلال الحوارات أو تعاليق السارد أو أصوات أخرى، إنها رؤية تخص نسيج العلاقات الإنسانية والأشياء وتخص صياغة الوضعيات ونمط تصورها، إنها بعبارة أخرى، تجسيد فضائي وزماني للمعنى. لا يوضع المعنى عاريا على شفاه الكائنات، ولكنه يولد من خلال ما يؤنث الكون، بل يترسب من خلال التعليق على الحدث وتصوير الشيء، وطريقة رؤيته ووصفه، وتداوله.1
تطورت الدراسات اللسانية والنصية، واتجهت إلى إيجاد نقد ذي صبغة علمية، له قوانينه ومصطلحاته، وذلك بالاتجاه إلى النص ذاته، والاقتراب من بنيته الداخلية، وتقنياته.
بلغت هذه الدراسات كثيرا مما طمحت إليه في طريقة علمية النقد، وانتقلت من البيئات التي ترعرعت فيها، ووصلت إلى البيئات العربية، وتداولت النظريات الحديثة، وصارت السرديات موضوعا متداولا في الدراسات الحديثة، بدءا من مورفولوجيا الحكاية الشعبية لفلاديمير بروب، وما سبق من نظريات وضعها الشكلانيون.
لم تكن الرواية العربية في معزل عما حققته السرديات كعلم إنساني، بل تفاعلت مع الحركات النقدية، وصارت الرواية العربية، موضوعا لدراسات أكثر التصاقا بالنص ذاته، وبدأت النظريات النقدية السردية التي نشأت في البيئات المختلفة، تجد لها تطبيقات في الرواية العربية.
إن لكل واحد من الفنون التي يتشكل من خلالها الأدب، ميزاته الخاصة التي يؤثر بها على القدرة التعبيرية للغة في أن تكون مدى لفاعلية الزمان وصدى حقيقيا وواقعيا لها.
إن لغة بعض الفنون الأدبية قد تكون أكثر قدرة من سواها على أن تؤمن مدى فسيحا لا عثرات فيه لإبراز فاعلية الزمان، وصدى أقرب ما يكون إلى طبيعة الواقع وحقيقته... ولغة الرواية، لما في الفن الروائي من التصاق بتصوير حقيقة الأمور الواقعة أو المتخيلة، قد تكون أقرب من أي لغة أخرى إلى تأمين المدى الفسيح لإبراز فاعلية الزمان، والصدى الأقرب إلى حقيقة الواقع في مجال الفنون الأدبية.1 ويعتبر الزمن عنصرا أساسيا في مقاربة تقنيات السرد، بل إن الزمن في السرديات هو المؤشر على فاعليات متعددة في الرواية. ويؤثر الزمن على دلالات السرد، ومواقع العناصر الهامة فيه.
أحلام مستغانمي وضياع الحلم العربي:
شوش الظهور الكاسح لرواية "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي معايير التلقي التقليدية في الرواية العربية، وبخاصة الرواية النسوية، فكادت طبعاتها تصل إلى عشرين طبعة في أقل من عقد من الزمان، وهذا أمر نادر الحدوث إن لم يكن معدوما في تاريخ الرواية العربية. لقد كتبت الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي ثلاثيتها من منتصف عام 1988 إلى منتصف عام 2002 فشكلت بها حدثا ثقافيا على درجة عالية من التفرد حتى كادت- هي، وروايتها، وأسلوبها- أن تؤلف ظاهرة استثنائية في الأعراف العربية. لكننا في مقامنا المخصوص هذا نروم الكشف عن خصيصة واحدة سوف نمسك عن إصدار أي حكم فني يصل بينها وبين آليات السرد الروائي، وتتمثل هذه الخصيصة في توظيفها الكتابة الروائية سياسيا، فلقد اتخذت من الخطاب السردي جسرا تنقل عليه مواقفها السياسية في رسائل مشفرة حينا آخر.
يمكننا أن نقول إن ثلاثية أحلام مستغانمي هي نسيج روائي يرثي ضياع الحلم التاريخي بلغة تحترف صناعة الصورة الشعرية وتوغل في الإلماح المولد للوجع، ولئن كان الإطار الأوسع هو بكائية الوطن الصغير الذي شارف ضفاف الفتنة فإن الخطاب السردي قد جاء مزروعا بلوحات درامية تصور المأساة العربية العامة، وبين تلك المشاهد تدير الروائية كاميرا التصوير على إحدى مناطق الوطن الكبير في بيانات لا يتطلب فك شفرتها عناء مخصوصا، فكانت بكتابتها السردية تنعى- في ضرب من الإرهاص وقبل أوان الحدث- سقوط الأمل العربي في خندق التاريخ يوم التاسع من أفريل2003. بعد 151 صفحة من ذاكرة الجسد – الرواية الأولى الموقعة في آخر صفحاتها بتاريخ جويلية 1988- نصل إلى مشهد التمزق الذي كان البطل الراوي (خالد) يعيشه في وظيفته كرقيب ثقافي، وهو المجاهد الذي بترت ذراعه في حرب التحرير الجزائرية، كانت بين يديه مخطوطة ديوان قدمها له صديقه (زياد) الشاعر الفلسطيني، وكان خالد قد رجاه "أن يحذف أو يغير بعض الكلمات التي جاءت في ديوانه" (ط 17 ص149) وفجأة تضعنا الرواية وجها لوجه أمام الإشكال السياسي في بعده العربي الحرج. هذا البطل الراوي قد كان يحمل حلما كبيرا أيام الكفاح التحريري ما لبث أن تهاوى في دولة الاستقلال. ثم يبدأ المونولوج السردي المتأمل: "كيف يمكن لإنسان بائس فارغ وغارق في مشكلات يومية تافهة ذي عقلية متخلفة عن العالم بعشرات السنين أن يبني وطنا أو يقوم بأية ثورة صناعية أو زراعية، أو أية ثورة أخرى. لقد بدأت كل الثورات الصناعية في العالم من الإنسان نفسه (...) وحدهم العرب راحوا يبنون المباني، ويسمون الجدران ثورة، يأخذون الأرض من هذا ويعطونها لذاك، ويسمون هذا ثورة" (ص148).
وهكذا بعد أن تورد الرواية قوله الشاعر الفلسطيني (زياد) صاحب مخطوطة الديوان وهو يخاطب صديقه البطل الراوي (خالد): "لا تبتر قصا ئدي سيدي، رد لي ديواني" يعود نغم المونولوج "ما الذي يمنعني من فضح أنظمة دموية (...) ما زلنا باسم الصمود ووحدة الصف نصمت على جرائمها؟ (ص151).
وسيظل الأمر ملتبسا في هذا الواقع العربي لاسيما إذا راعينا تحيين كتابة الرواية من خلال تاريخ صدورها (1988) وتمضي الرواية غائصة بنا في محيط الهم القطري الذي ألهم الروائية روح الفجيعة إلى أن تلوح لنا ببعض القرائن التي قد تعين على فك الشفرة وقد أشرف الخطاب السردي على نهاياتها: "فكم من مدينة عربية دخلت التاريخ بمذابحها الجماعية وما زالت مغلقة على مقابرها السرية؟ وكم من مدينة نضع كل هؤلاء: في خانة ضحايا التاريخ أم في خانة الشهداء؟: (ص396).
بعد تسع سنوات تصدر الرواية الثانية "فوضى الحواس" حاملة في آخرها تاريخ توقيعها: 19ديسمبر 1997، فتتحول بنا تقنيات السرد الروائي من صوت رجالي إلى صوت أنثوي إذ تتولى "البطلة" قص سيرتها الذاتية علينا، ثم تنغمس الكتابة الروائية على يد أحلام مستغانمي في شحذ المدية على ضعاف الجروح ولما تندمل، وكان الإضمار منهجا لديها في التضمين كأنما الخطاب القصصي يسطو على الخطاب الشعري فيسلبه مكتنزاته. فها هي الرواية تندب في لغتها المتشظية بائحة: "في الدكاكين السياسية التي يديرها حكام (...) باعونا "أم القضايا" وقضايا أخرى جديدة معلبة حسب النظام العالمي الجديد، جاهزة للالتهام المحلي والقومي، فانقضضنا عليها جميعا بغباء مثالي، ثم متنا مستمتعين بأوهامنا لنكشف بعد فوات الأوان أنهم ما زالوا هم وأولادهم على قيد الحياة يحتفلون بأعياد ميلادهم فوق أنقاضنا" (ص93-94).
تستمر أحلام مستغانمي شعرية اللغة، وإيقاعها المتوتر، وتستعيض به في أحيان عديدة من السرد عن نمو حركة السرد التي تثقلها هذه المساحات من اللغة الشعرية وهذه المنولوجات الذاتية والاستذكارات، والاستحضار لكثير من المقولات التي تتكئ عليها والمأخوذة عن أدباء وفنانين معروفين مثل إيميل زولا وبلزاك وسلفادور دالي وبوشكين وجان جينيه، وهي بذلك تستخدم الأسلوب نفسه الذي اعتمدته في روايتها السابقتين، كما أنها تعتمد تعدد اللغات في لغتها السردية إذ تستخدم في الحوارات كثيرا من الكلمات الشعبية الجزائرية، بالإضافة إلى العبارات الفرنسية.. ولعل هذا التناص الواقعي هو محاولة لتقريب منطوق شخصياتها من اللسان الاجتماعي المحلي، أو الفرنسي، تأكيدا لواقعية يجري الإيهام بها من خلال الإيحاء بمناخاتها وخصوصية اللسان الاجتماعي.