وظائف السرد المكرر في رواية "غدا يوم جديد" مقاربة بنيوية

بقلم الدكتور السعيد بوطاجين جامعة الجزائر
إن الاحداث التي تبدو جوهرية، من وجهة نظر المتلقي على الأقل، لا تؤدي بالضرورة إلى ردي النص القصصي كما هو الحال بالنسبة إلى رواية "غدا يوم جديد".
وهناك أحداث عرضية تم التركيز عليها بالاعتماد على التغييرات الاسلوبية ووجهات النظر، أو انطلاقا من المستويات اللغوية المتحولة من مقطوعة إلى أخرى، ومن مستوى إلى أخر.
الملاحظ، من الوهلة الأولى، أن عملية الردي خصت وقائع لفظية وفعلية كانت ثانوية، بالمقارنة مع الحكاية - الإطار غير أنها تواترت بحدة بحيث غدت الأصل، أما الاحداث الأخرى، رغم أهميتها فقد نقلها السرد المفرد بنوعيه.
مع ذلك لا يمكن إغفال هذه الوقائع العرضية، المبنية على ارتدادات داخلية تتعلق أساسا ببعض الحواشي المرتبطة بماضي البطلة وبمجموع علاقاتها السابقة.
وإذا كان من المتعذر التطرق إلى كافة السرد المتكررة، فإننا نتناول جزء منها للتدليل على كيفية تمفصلها نصيا.
1-وفاة المخفي:
تبين التنافرات السردية أن هذا الحدث ورد في شكل لواحق مكثفة أسندت إلى رواة متباينين.
(هي تعتقد أن الجزائر تقع في النقطة التي تغيب فيها الطريقان عن الانظار وهي نقطة مهمة حقا بالنسبة إليها، ففي تلك الادغال يقع "المحجر" الذي قتل فيه زوجها المخفي) (1)
إن الاهم في هذه المقطوعة لا يتمثل في المحجر وإنما في الادغال كمكان قيمي يذكر باية فيه شخصيتين اثنتين:
أ-ابنتها مسعودة
ب-زوجها المخفي
إن للمكان علاقة مباشرة بالفقدان والانفصال والتوازن.لذا لا يرد التكرار انطلاقا من الذات، من العلامة النفسية المستقلة، وإنما من الواقع الخارجي الذي تمثله الادغال كمرجع علامي ممتلئ دلاليا، لأنه يغدو حافزا على التذكار كما يوضح السرد من الدرجة الاولى:
(تلك الادغال التي قيل لها: فيها قتل المخفي هي نفس الادغال التي تخفي وراءها الجزائر التي أخذت منها مسعودة! رفيقة الشباب وذكرى الحياة الزوجية الاولى السعيدة).(2)
إضافة إلى تكرار حدث مقتل المخفي، هناك مقابلة بين زمانين متضادين، الماضي والحاضر. ولهذين الزمانين بشخصيتين وقيمتين أيضا.
في البدء قدم المخفي كعلامة بيضاء فارغة دلاليا من حيث أنها لا تحيل على أية قيمة أو بطاقة دلالية تميزه عن الشخصيات الأخرى، غير أن التواتر السردي وظيفة أساسية تتمثل في شحن هذه العلامة البيضاء تدريجيا. لذا أمكننا القول أن التكرار لم يرد اعتباطيا، لأن قول السارد: (مسعودة رفيقة الشباب وذكرى الحياة الزوجية السعيدة!) يمثل بطاقة من حيث أنه يشير إلى السعادة. أما المسكوت عنه فيحيل على النقيض.
وحتى المسكوت عنه يترجم لاحقا على مستوى البنية الصريحة، إذ يلجأ الراوي إلى توضيح العلاقة بين باية وعزوز وبينهما وبين المخفي بإعادة الحدث نفسه وتدعيمه بمجموعة من النعوت التي تشكل مجالين تصوير بين متضادين:
(بالأمس فقدت زوجها الحبيب، واليوم ها هي تفقد ابنتها (...) إن عزوزا هو السبب. إنه رجل جشع، قاس، ظالم، يبيع أمه، لو كانت له أم من أجل المال) (3)
تشير مجموعة النعوت إلى حقيقتين متضادتين:حقيقة المخفي وحقيقة عزوز من منظور الراوي. ثمة تصعيد دلالي واضح: لقد قدم المخفي عله أنه زوج ثم أسندت له الايام السعيدة فيما بعد وفي المقطوعة الاخيرة أسندت له صفة الحبيب ليتخلص تدريجيا من البياض الدلالي الاول الذي طبع السرد من الدرجة الاولى. وهذا يدل على أن التكرار لم يرد لذاته وإنما لتدعيم حالة أولية انطلاقا من الاصوات السردية المتباينة، إذ كلما حصلت إعادة للحدث إلا وبرزت تذويعات لفظية وأسلوبية تعد إضافات تقويمية جديدة تجعلنا نقترب من الشخصية المبارة أو من الشخصية – الموضوع. غير أن هذا الاقتراب لا يؤدي بالضرورة إلى الكشف عن حقيقة الشخصية نتيجة اختلاف زوايا النظر التي تؤدي إلى تراكمات صورية متضادة. ومع ذلك سنعالج التكرار كما ورد نصبا محاولين رصد وظائفه الممكنة.
أشرنا إلى أن وفاة المخفي من أهم الاحداث التي تواترت بجلاء، وغالبا ما دخلت شخصيات أخرى لتخضع إلى التبئير جزئي، وقد ترد الاعادة ليس من أجل تصعيد الدالة وإنما من أجل تأكيد معنى سابق، كما توضح المقطوعة التالية:
(عندما قتل أبوها زعم (عزوز) أنه الوريث الوحيد للمخفي من الذكور، ما دام أن اسمها العائلي واحد. لكن نصحه الخوجة لأن الناس يعرفون الحقيقة) (4)
ثمة تكرار لحدث موت المخفي. إلا أن المقطوعة تميل إلى التأكيد على البطاقات السابقة التي أسندت إلى شخصية عزوز من حيث أنه:
-جشع
-قاس
-ظالم
-يبيع أمه من أجل المال
لأن محاولة الاستيلاء على الارض والإرث معا هي تفسير للصور السابقة، وما التكرار سوى شكل تأكيدي يدعم المجال التصويري سالكا بذلك الشبه أو المماثلة في تجسيد العناصر اللغوية على مستوى النص.
تنطلق التنويعات السردية من فعلين: قتل، فقدت، الدالين على الماضي البعيد، أما الماضي القريب فهو عبارة عن معلومات تؤكد نتائج الانفصال القسري المتمثل في رحيل المخفي. وغالبا ما يرد هذا التوتر الحدثي مرفقا بتكرار حدث أخر مضمن في المقطوعة ذاتها. خاصة عندما يركز السرد على شخصية باية التي ترى أن فقدان الزوج تسبب في زواجها من عزوز وزواج ابنتها مسعودة من رجل غريب يكبرها سنا.
(لم تمض سنة على مقتل زوجها حتى وجدت نفسها ضرة، تقاسم امرأة أخرى هذا الرجل الجشع! ولم تمض سنة ثانية حتى أصبحت ابنتها مسعودة، رغم سنها، زوجة لرجل غريب من المدينة) (5)
ثمة سرد مكرر على سرد مكرر، يتمحور الاول حول حدث مقتل المخفي، أما الثاني فيتمثل في تواتر زواج مسعودة ابنتها، أما التغيرات فتتمثل في بعض التنويعات الاسلوبية والمعنوية، والأمثلة الموالية تعكس طريقة إعادة البنية مع المحافظة على المحاور المجاورة الدلالية.
-(لو كان حيا لما "بيعت" مسعودة للغربة) (6)
-بالأمس فقدت زوجها الحبيب واليوم ها هي تفقد ابنتها (7)
-في الواقع ليست قضية سن مسعودة هي التي كانت تمنعها عن الزواج، إنما الرجل وما أشيع حوله من تهور (8)
-باية لم ترد هذا الزواج المتسرع لابنتها الوحيدة.
إنها لا تعرف أي شيء عن هذا الصهر (9)
-باية إذن غير مطمئنة لهذا الزواج، ولهذا الختن الذي دفع ألفين وخمسمائة فرنك مهرا إلى عزوز، وبالدين قالوا (10)
-من اليقينيات التي لا تقبل النقاش لدى باية ولدى غيرها، هو أن عزوز لا يحب أحدا، مصاهرته لقدور لم تكن سوى عملية اختلاس. (11)
تبين هذه المقاطع، التي حرصنا على تثبيتها كاملة، القيمة الاعتبارية لطريقة القص والفضاء الدلالي الذي يتشكل أثناء إعادة نقل المتن لفظا أو نقل الماتن معنى دون اللفظ لإثبات المعنى الذي يكتسب سمة الأصل، وهذا يعني أن اختلاف السند هو طريقة لتأكيد الجوهر الثابت لتصبح الاغراض تنويعات على أصل واحد. (لأن تواتر الملفوظ لا يخضع إلى أي تواتر حدثي) (12). بمعنى أن طاقة التكرار تهدف أساسا إلى خدمة حدث واحد تتأصل قيمته من خلال إعادة صياغته وفق تراكيب وألفاظ عديدة.
لقد خضع حدث مقتل المخفي بن المرابط لعدة قراءات ناتجة عن تموقع الشخصيات المبئرة ليظل شخصية غامضة يتعذر القبض عليها. حتى وفاته بقيت لغزا نتيجة خضوع الحدث إلى التأويلات المتفاوتة. ويبقى اتواتر سمة بارزة أضفت على بعض المقاطع مظهرا سحريا ل يستقر على معنى محدد.
يشير النص إلى أن المخفي من أصدقاء شكيب أرسلان. كان ينادي بالوحدة من الخليج إلى المحيط، ويقال أنه شيوعي، ومن أكبار أنصار الأمير خالد، ويشاع عنه أنه طريق وصديق الفقراء:
(نظم جماعات مسلحة في الجبال تختطف أموال الاغنياء لاشتراء السلاح – لذلك قتلته فرنسا، وأشاعت أنه قتل في حادث المتفجرات بالمحجر) (13)
تبرز المقطوعة كيفية ميل السرد المكرر للذاتية نتيجة قيامه على التأويل، ليعود الراوي ثانية لإراد الحدث نفسه: موت المخفي ليس بتغيير الالفاظ والبنى الاسلوبية فحسب، وإنما باستحضار أسباب أخرى يفترض أنها تسببت في وفاته:
(قالوا في إشاعة أخرى تزعم أنه لم يقتل في المحجر وإنما هرب منه وأثناء البحث عنه اشتبك بالجيش الفرنسي) (14)
نلاحظ أن هذا التواتر ناتج أساسا عن اختلاف زوايا النظر وبالتالي عن تباين الاصوات السردية ومنطلقاتها، إذ أن تكرار الحدث ذاته في الاستشهادين الاخيرين، هو محاولة لإضاءته، غير أنه كلما أعيد سرد الحدث من زاوية مختلفة ضاعت صورة الشخصية أغدت فضفاضة، لذا يصبح السرد المكرر طريقة لتكثيف الرؤى والبطاقات الدلالية المتضاربة، ومن ثمة تمييع الصورة الحقيقية للشخصية المبأرة، وهذا يعني أن التواتر الحدثي، المتعلق بموت المخفي، لا يتجه نحو تفسير الحدث بواسطة الشبكة التراكمية للجمل ذات الموضوع الواحد، وإنما نعتبره تقنية لتشويه الصورة والموضوع معا، أي أن الصيغ السردية وظفت كآلية تعبير هدفها محو الرؤية الواحدية بإدخال رؤى منحدرة من أصول متناقضة سببها الاول تباين الشخصيات ومستوياتها.
أما الحقيقة فتبقى مجرد تأويل، قراءة ذاتية للحدث لا يمكن الاحتكام إليها، كما ورد على لسان مسعودة، ابنة المخفي:
(أما الحقيقة التي نعرفها نحن أهله، أنه قتل بالمحجر، قتلته فرنسا وموهت القتل بحادث المتفجرات، نعلم أيضا أنه قرأ مع ابن باديس) (15)
وفاة محمد بن سعدون:
يعد هذا الحدث من أكثر الاحداث توترا أيضا، لأن محمدا كان حلم الجميع، ولعله تركيز الرواة على هذا الحدث هو تركيز قيمي بالدرجة الاولى.
لقد بينت مختلف الملفوظات والسرود طبيعة العلاقات المركبة بين الشخصيات في مكان مغلق، ومن ثمة ميوعة التعريفات والأوصاف، لخيارات جمالية، لذا سيساهم التواتر الحدثي، المتعلق بهذه الشخصية في انفجار الدوال وعدم استقرارها.
بإمكاننا اعتبار محمد بن سعدون قاسما مشتركا نتيجة تمفصل بعض أجزاء الخطاب حوله، أو تحوله إلى شخصية – موضوع ظلت محل اهتمام الساردين والشخصيات على اختلافها.
إن الشخصية (لا تنمو إلا من وحدات المعنى، إنها تصنع من الجمل التي تنطقها هي أو ينطقها الاخرون عنها) (16)
يقودنا هذا التعريف إلى القول بأن ظهور العناصر اللغوية الجديدة يؤدي إلى مقروئية النص، غير أن عدم استقرار هذه العناصر سيؤدي إلى النقيض تماما.
تعد الاغنية التي ألفت عن علاقة محمد بن سعدون بخديجة مدخلا إلى الكشف عنه تماما كما تبين المقطوعة الاتية: (إن وجهها لم تكن تفارقه البسمة إلى أن قتل محمد! عندئذ تحولت إلى إمرأة أخرى تماما، كأن حياتها انتهت، وبدأت تحيا حياة الاخرة !)(17)
اعتبرنا هذه المقطوعة تابعة لسرد المكرر رغم أن تجليها الماضي لم يرد سابقا، وذلك راجع إلى الطابع البنائي الذي ميز الأحداث، أي إلى التنافرات الزمانية التي اتسمت بها الرواية عامة.
أما الحدث – الاصلي فقد ورد متأخرا إن نحن أخذنا الاحداث كما وقعت في الحكاية وليست كما نقلها الخيال السردي نظرا لتباين التكوين والتحويل (18)
باعتبار الاول ثابتا والثاني متحركا، قابل لصيغ مختلفة، وهذا يؤدي بنا إلى القول إن الاغنية التي انتشرت في القرية:
((ضربوه في صفية عيسى
أه،، يا الأميمة والقلب لابى ينسى)) (19)
تمثل التكوين، أي الحدث كما وقع، أما المقطوعة المذكورة سابقا فتمثل التحويل والردي معا، وتكمن أهميتها في إبراز العلاقة بين العلة والمعلول، بين الحدث والنتيجة إذ أنه بمقتل محمد بن سعدون انتهت حياة خديجة، وتمكن الوظيفة الثانية من التكرار المقطعي، بأسلوب مغاير، في الكشف عن العلاقة بين خديجة وخطيبها قدور، لقد كانت علاقة في درجة الصفر، كونها قائمة على الظاهر، أما الباطن فكان يمثل النقيض نتيجة غياب المحمولات الثلاثة (20) أو قيامها على التضاد.
لذا نعتبر فسخ الخطوبة أمرا منطقيا مرده طبيعة هذه المحمولات القاعدية، الامر الذي ستؤكده خديجة بواسطة مناجاة والحوارات المقتضبة.
من هنا إمكانية التأكيد على أن إحدى الغايات الاساسية للتكرار المقطعي أو الجمالي أو اللفظي تكمن في عنصر المباغتة، في هذه النقلة المؤدية إلى الانفجار الوظيفي، بحيث تغدو كل إضافة للمقطوعة أو الجملة – الاصل بمثابة إضاءة أو إقصاء لما سبق ذكره سواء بتصعيد الدلالة تدريجيا أو بإدخال بطاقات دلالية جديدة تسهم في الاحاطة بالشخصية والحدث تمييمهما، وفي الحالة الثانية تكون المعلومات المقدمة غير مستقرة عند الانتقال من زاوية نظر إلى أخرى، لأن عدم استقرار الخبر هو إحدى الطرق المهيمنة نصيا.
تمثل المقطوعة التالية كيفية انتقال السرد المكرر من التخصيص إلى التعميم مانحا الحدث أهمية أكبر.
(كم روع الدشرة مقتل محمد! كل النساء حزن! وجد ملقى حجر، مضرحها بدمائه، اخترقت رصاصة الجزء الايسر من صدره والثانية بطنه. رصاصتا مسدس، قالوا...) (21)
في البدء كانت الإشارة إلى تأثير شخصية خديجة وحدها، إذ أنه بمقتل محمد انتهت حياتها، مما يبرز الطابع الافرادي للمتلقي. ثم ينتقل السرد لتضمين كل نساء الدشرة اللائي تعلقن به. غير أن الجديد في هذه المقطوعة هو تجاوز الخبر لتوضيح طريقة القتل التي تتسم بالطابع الاسنادي: قالوا، كما هو الحال بالنسبة لحدث مقتل المخفي، مما يؤكد إمكانية انزلاق المعلومات وتباينها.
وإذا كان السرد المكرر قد لمح إلى المعلومات بواسطة الفعل حزن، فإنه يعود ثانية للتصريح بمكانة محمد بن سعدون:
(محمد لم يكن حلم خديجة وحدها، كان حلمنا جميعا – قدور لم يقتله – في تلك الليلة كان بالقرية المركزية مع عزوز) (22)
إضافة إلى إعادة الحدث نفسه، هناك إثراء للدلالة، إذ لم يعد محمد أمل خديجة وحدها، كما ورد سابقا، بل أمل كل القرويات. غير أن الرواية لا تشير إلى أي علاقة متعدية بين هذه الشخصيات، ما خلى اللقاء القصير الذي كان بين محمد وخديجة، إذ أن هناك تغييبا كليا للمحمولات سواء على مستوى السرد أو على مستوى الحوارات، ويبدو أن كلمة حلم كافية للإحالة على تواجد الرغبة وإمحاء عنصر البلاغ في مكان مغلق.
وقد أورد الراوي عبارة (قدور لم يقتله) لأن هذا الاخير اتهم بقتله بعد إدراك مدلول الاغنية الغرامية التي ذاعت في القرية، لكن عزوز شهد أنه كان معه، ومن ثم لا تصبح وظيفة التكرار تأكيدية بقدر ما تسهم في ملأ فراغ سابق ونفي تخمين المتلقي الذي يربط علامة الطبع، التي تميز قدور بموت محمد.
ويعود النص، مرة أخرى، إلى زمان وقوع الحدث، إلى البدايات الاولى التي شهدت ظهور الاغنية:
(انتشر الخبر فعم جميع البيوت: لقد قتل محمد بن سعدون، لقد قتل محمد بن سعدون، ولا يعرف أحدا من قتله، ولا لماذا قتله) (23)
بعد أربعين صفحة يرتد الراوي إلى أصول الحدث ناقلا إياه في شكل خبر جماعي غير أن هذا الخبر هو تتمة للأغنية وتأكيد لها. لأن الأغنية، التي تؤدي وظيفة سردية، من حيث أنها ناقلة لحدث هام، هي في حقيقة الامر، الشكل الابلاغي المؤسس، أما الاشكال السردية الأخرى، فهي أشكال تابعة، امتداد للأغنية وتأكيد لها، أي أنها مجرد أسردة للنموذج الشعري وشرح له بالانتقال من الرمز إلى التقرير، من السنن العلنية إلى الكشف عن دلالة البيتين الشعريين، دون الاستقرار على مروى محدد ومحدود، ماعدا تأكيد الحدث بمظاهر شتى، مع اختفاء السند أو تعدده وغيابه المروي له ويتجلى ذلك في استعمال الصيغتين: قال وقيل الدالتين على إمحاء المصدر. هكذا (يحل الراوي) لفظه محل لفظ الذي سبقه، ويورد متنامرنا غيره) (24)
لذا يتعذر على المتلقي الكشف عن أصول الخبر والمستويين اللغوي والأسلوبي الناقلين له، وهذا يعود إلى مرور الخبر بعدة رواة لم يجلوا نصيا.
أما التواتر اللاحق فيؤكد تحقق سابقة خارجية ماضية، ذلك أن عزوزا حذر أم محمد لإدراكه بأن هناك من يحقد على ابنها كونه يقلق أهالي الدشرة، إن عزوز شخصية عارفة نتيجة العلاقات المركبة. وعندما أوصى أمه بتزويجه، قبل أن يقع له مكروه، كان يعرف جيدا أن شيئا ما سيحدث لاحقا، لأن العادات كما وردت نصيا، تعد بمثابة قصص متقدة أو فواتح، وقد تشير من ناحية التحليل الوظائفي، إلى المنع. في حين أن حركات محمد بن سعدون تصبح خرقا للسنن المتفق عليها جماعيا، ومن ثم إمكانية إدراك كيفية نمو الاحداث:
(وهكذا تحققت نبوءة عزوز! لم يمهله أجله حتى تزوجه أمه وتحميه من شر الحاقدين! وجد صباحا ملقى على حجر، مضرجا بدمائه) (25)
يعود الحدث ليتكرر مرة انطلاقا من زاوية نظر مسعودة، وهذا الردي لا يعد تأكيدا بقدر ما يقترب من التبنير، من أحد الاصوات السردية، التي تحاول الكشف عن العلل التي أدت إلى مقتل محمد بن سعدون الشخصية الموضوع. لذا نعتبره تأويلا كبقية التأويلات الاخرى ذات الحجج المتضارية، كما تبين المقطوعة السردية الموالية التي وردت على لسان مسعودة:
(إنني عندما أستعيد كل ذلك أقول في نفسي! إن نبوة قتله سبقت نبوة عزوز. إنها تلك الاغنية التي غنتها القرويات عن علاقاته الغرامية بخديجة بعد خطبتها من طرف قدور) (26)
إن التضخم النصي الناتج عن عملية الردي، يسهم في إيقاف النمو الحدثي مانحا الاولوية للتأويل، لينتقل إلى وصف مجموعة من الانطباعات القائمة على السرد الذاتي.
ونحن إذ نرصد بعض العينات، نهدف إلى إبراز القيم التحويلية للسرد المكرر الذي لم يستقر على وظيفة ثابتة أو على سرد واحد. لقد منحته التنويعات عدة أبعاد مجنبة إياه الالية والحرفية على مستوى تكريس البلاغ والإبلاغ معا مما أدى بالضرورة إلى تمييز الشخصيات وابتعادها عن النمذجة.
لقد ترك حدث مقتل محمد ردود أفعال متفاوتة من شخصية إلى أخرى، نذكر منها رد فعل مسعودة التي ارتبطت بجماله أكثر من ارتباطها بزوجها قدور، كما يوضح ذلك السرد من الدرجة الثانية الذي لم يتسم بالانفعال والدلالة الذاتية:
(إن مقتل محمد كان اغتيالا للغرام في قلوب الفتيان والفتيات. كل من كان يخفي في قلبه سرا غراميا دفنه. أصبح كل شاب ينتظر متى يحين دوره! لقد انتزع الحب انتزاعا من الدضرة ومن أغانيها) (27)
تختلف هذه المقطوعة عن المقطوعات السابقة، في كونها سردا مكررا لا يميل إلى إثراء الدلالة وحسب بل يهتم بالجانب التبئيري، ينتقل انطباع شخصية لها علاقة ما بالحدث والشخصية المبأرة. غير أن هذا الموقف الواحدي يتعارض مع مواقف الاخرين كما يوحي بذلك حديث عزوز:
ويتعمق هذا الموقف الاحادي أكثر عندما يتطور السرد الروائي ليقترب من السرد الملحمي، مؤكدا حدة المأساة وشموليتها من منظور ذات الشخصية:
(إن محمدا قتل ولم يمت! حقيقة حية في قلوب وذاكرات كل القرويات يتناقلها جيل بعد جيل، إلى أبد الابدين!) (28)
بهذه الدلالة التصاعدية، المبنية على الاشتراك اللفظي، ينتقل الراوي من الوقتي إلى الخالد، من الشكل الاولي إلى الراهن، بتعبير "توماشفسكي" (29) إلى شكل يجعل المتن الحكائي، رغم إنبائه على الانطباع، أكثر شمولية وأكثر إقناعا.
وذلك ما يبرر بعض المقاطع الوصفية التي حاولت تجاوز حدود الكلمة لإعطاء صورة تقريبية عن شخصية محمد بن سعدون. غير أن محاولة تصوير، هي في حقيقة الامر، طريقة لتشويش الصورة العائمة. ومن ثم لا تصبح وظيفة التكرار المقطعي وظيفة ذات دلالة تأكيدية، وإنما تغدو نوعا من الهروب من الادراك الدلالي القائم على الرؤية الواقعية للموضوع، سواء رؤية الراوي أو رؤية المتلقي.
(لا أصفه لك. كل الاوصاف تنقص من جماله. إنه أكبر من أن يوصف بالكلمات! لأنه محمد! فهمت؟إنه محمد!) (30)
إن هذا الوصف – اللاوصف أيل إلى إلغاء أي تقاطع بين اللغة والصورة، بين الدال والمدلول، ليصبح الاسم، في نهاية الأمر، الصفة والموصوف معا، وعدا ذلك لا وجود لمشبه به يكون سندا لتقريب الصورة من الادراك البصري، ولعل ذلك ما أدلى إلى الردي إلى تكرير الحدث لاستحالة وجود العناصر اللغوية الدالة عليه، من منظور الشخصية المبئرة بطبيعة الحال، وهو الشيء الذي جعل السرد المكرر يتسم بالطابع الانفعالي الذي نعتبره الطبقة التركيبية الاساسية المشكلة له.
أما الخاصية الاخرى لهذا النمط السردي، فتتمثل في كونه سردا غير حدثي، لأن (تواتر الملفوظ لا يخضع لأي تواتر حدثي) (31)، إذ كلما تواتر الحدث تضخم النص ومال إلى الوصف والتأويل بإتباع التنويعات اللفظية والأسلوبية، ومن ثم إقصاء الشخصيات الاخرى التي تصبح ذات أهمية ثانوية تنحصر وظيفتها في التأويل والعرض، دون أن يكون لها دور واضح في التقدم الحدثي. وتكمن إحدى خصوصياتها في الانطلاق من الاحكام المعيارية على المواد والموضوعات المعروضة (فيتحطم في الغالب وهم صحة المروي وجديته) (32)
إنه من المهم أن نلاحظ أن الحدث الاخير المتمثل في مقتل محمد بن سعدون، تأسس على خطاب صوتي تعكسه الاغنيتان معا مما خلق (بروزا صوتيا نظرا لأن التلفظ والسماع يرتقيان إلى المقام الاول)(33)
غير أن الخطاب الصوتي، المؤسس للسرد المكرر، سرعان ما "يتأسرد" فاقدا بذلك طابعه البدني، وإذ كان هذا النمط مجرد ناقل،فإن الانماط الموالية ظلت تابعة له، كونها اعتمدت، هي الأخرى، على محاولة الاقتراب من الحدث والشخصية في مظهرها عن طريق الشبكة التراكمية للبطاقات، دون أن تولي أهمية للكينونة، مما يبرر اختفاء الحوارات الداخلية. ولعل الكاتب كان يهدف من وراء مخططه السردي إلى تفادي رسم الشخصية ليجعلها مفتوحة دلاليا، قابلة لتشكيلات عديدة ترتبط بمستويات التلقي. لذا بقيت صورة محمد والمخفي غامضتين، ولم يفعل السرد المكرر سوى ترسيخ هذا الغموض والافلات من التعرية.
تتمثل وظائف السرود المكرر في:
-المقابلة بين الاحداث.
التصعيد الدلالي
-تعويض البطاقات الدلالية أو التأكيد عليها عن طريق الشبه والمماثلة.
-إبراز تباعد الاصوات السردية واختلافها أثناء المعاودة.
تأكيد المعتني السابقة باللجوء إلى الاستبدالات اللفظية والأسلوبية أو بواسطة الاشتراك اللفظي.
-تشويش الموضوعات وصور الشخصيات.
-إقصاء الدلالات الماضية.
-مباغتة المتلقي.
الهوامش:
- عبد الحميد بن هدوقة غدا يوم جديد منشورات الاندلس، الجزائر 1992 ص92
- الرواية ص92
- المصدر نفسه ص 93
*استعملنا مصطلح الدلالة التصاعدية للتعبير عن الامتلاك التدريجي لدلالة الشخصية
- الرواية ص93
- الرواية ص98
- المصدر نفسه ص93
- المصدر نفسه والصفحة نفسها
- المصدر نفسهص98
- المصدر نفسه والصفحة نفسها
- الرواية ص98
- المصدر نفسهص99
- Gérard Genette, figures III, édition du seuil, pars, 1972, p147
- الرواية ص103
- الرواية ص103
- المصدر نفسهص104
- أوستين وأرين ورينه ويليك نظرية الأديب، ترجمة محي الدين صبحي، مراجعة حسام الدين الخطيب، مطبعة خالد الطرابيشي ص208
- الرواية ص119
- Paul Ricœur, temps et récit, la configuration dans le récit de fiction, seuil, paris, 1984, p149
- الرواية ص161
- Tzvetan Todorov, les catégories du récit littéraire, in communications seuil, paris, 1981, pp 138.144
- الرواية ص119
- الرواية ص119
- المصدر نفسهص162
*وظفنا مصطلح أسردة محاولة منا للإقتراب من كلمة NARRATIVISATION كما نقترح كلمة تسريد للدلالة على المصطلح ذاته.
- عبد اللهه ابراهيم، بحث في البنية السردية للصور الحكائي العربي بيروت 1992 ص 143
- الرواية ص162
- المصدر نفسه والصفحة نفسها
- الرواية ص163
- المصدر نفسه والصفحة نفسها
- توماشسكي، نظرية الاغراض، نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة ابراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، مؤسسة الابحاث العربية 1982، ص177
- الرواية ص163
- figures III, p147, Gérard Genette,
- ب. ليخنباوم حول نظرية النصر، نظرية المنهج الشكلي،ص 118
- المصدر السابق ص 162
*استعملنا الفعل أسرد للتعبير عن كلمة NARRATIVISER