ملاحظات عن تحديد النقاد للفترة الزمنية لرواية "ريح الجنوب"

بقلم حسين قحام
إن من يدرس رواية ريح الجنوب يجد نفسه أمام مجموعة من الدراسات كتبت حول الرواية، الأمر الذي يدعو إلى إحساس مفاده أن الدارس يكرر ما سبقه إليه غيره. وعلى الرقم من هذا الاحساس الذي انتابتا ونحن بصدد دراسة رواية ريح الجنوب، فإن بعض الآراء التي أوردها دارسو رواية ريح الجنوب تحتاج إلى (تمحيص) ولعل من أبرز تلك الآراء كون الرواية قد عالجت فترة السبعينات.
ولا غرور إذا شاركنا معظم الدارسين لريح الجنوب في أرائهم حول معالجة الرواية لقضية الارض في عهد الاستقلال، بيد أن هذه المشاركة تبقى مشروطة بفترة زمنية محددة، والتي لا تتجاوز على أكثر تقدير منتصف الستينيات. وليس بداية السبعينيات كما ذهب إلى ذلك العديد من النقاد الجزائريين كالدكتور عبد الله الركيبي والدكتور عمر بن قينة والدكتور بشير بويجرة، وغيرهم.
ولا نبالغ إذا قلنا إن تحديد الفترة الزمنية التي تجري فيها أحداث الرواية أمر على غاية من الأهمية وإن اختلفت طبيعة هذا التحديد ذاته بالنسبة إلى الروائي أو الدارس، لا سيما إذا كانت تلك الفترة ذات أهمية ما تختلف قليلا أو كثيرا عن سابقتها أو لاحقتها كما هي الحال بالنسبة إلى فترة بداية الستينيات أو إلى بداية السبعينيات في الجزائر، فعلى الرغم من بقاء ميزات عامة تسم مراحل الاستقلال بميسمها، فإن تحديد درجة الاختلاف في تلك المراحل يضل مهما وله قدرة على اكتشاف السيمات التي تميز مرحلة من أخرى، وإن لم تمثل حدا فاصلا ونهائيا بينها وبين سابقتها أو لاحقتها.
ولقد استندنا في تحديد الفترة الزمنية التي تدور فيها الاحداث إلى الرواية ذاتها، أي أن تحديدنا للفترة ليس رغبة ذاتية بقدر ما هو مستمد من الرواية ذاتها، وبالتحديد من ذكر الروائي مرات عديدة لعمر نفيسة، فعمرها بالإضافة إلى كشفه عن بعض مميزات تلك الشخصية كان متكأ للروائي كي يستند إليه تحديد الفترة الزمنية التي تنبثق منها أحداث الرواية، فهو يذكر أن نفيسة بلغت سن الثامنة عشر من عمرها، فعلى الرغم من أننا لا ندري في أي سنة ولدت ولا في أي سنة تجري أحداث الرواية، فإننا لجأنا الى التماس أدلة أخرى من شأنها مساعدتنا على تحديد السنى التي تجري فيها أن ابن هدوقة قد حدد عمر نفيسة بتاريخ تقدم مالك لخطبة زليخة وهي أخت نفيسة، التي بلغت من العمر آنذاك السن العاشرة وإن كان الروائي لم يحدد، أيضا السنة التي تمت فيها الخطبة، فإنه أشار فيها بعد إلى إن مالك وزليخة تراسلا سنة كاملة، قبل أن تموت زليخة في سنة 1957.
ومعنى ذلك أن الخطبة تمت سنة 1956، أي أن عمر نفيسة سنة 1956 كان 10 سنوات، فإذا أضفنا ثماني سنوات إلى سنة 1956، فإن التاريخ يحدد بسنة 1964، ومن خلال ذلك يمكننا القول، دون مراء، إن أحداث الرواية تجري في سنة 1964، وهي السنة التي ذكرها الروائي في الطبعة الثالثة من الرواية إذ وردت على الشكل الاتي:
"قرية...في... أوت 1964، في حين أنها كانت على الشكل الاتي في الطبعة الاولى من الرواية: "قرية...في ... أوت...196" دون تحديد للسنة، مما تقدم نستنج أن أحداث الرواية تدور في سنة 1964، وليس كما ذهب أغلب الدارسين في حدود إطلاعنا على أن الرواية ترصد الصراع الاجتماعي في بداية السبعينيات حول قضية الارض.
وبعد هذا يمكننا القول أن رواية ريح الجنوب ترصد - / فيما ترصد ردود الفعل الاولى حول الاصلاح الزراعي، وموقف بعض الفئات الاجتماعية منه. لعل ذلك يتضح من خلال المكالمات الهاتفية التي جرت بين مالك ورضا، إذ يقول مالك مخاطبا رضا: " إنك مخطئ إنه الاصلاح الزراعي في طور الطفولة..ولن يستطيع أحد أن ينتظر نجاحه في ظرف سنة أو سنتين"، وهي الفترة التي كان فيها الاصلاح الزراعي قد قطعها منذ 6 مارس 1976، أي على الاقل مضى عليه سنة وأربعة أشهر على اعتبار أن أحداث الرواية تدور في شهر أوت 1964 كما أوضحنا ذلك من قبل.
وقد وجدنا أربعة أعذار أسهمت إلى هذا الحد أو ذاك في دفع الدارسين إلى ذلك الموقف الذي اتخذوه من الفترة التي تعالجها رواية ريح الجنوب.
يتمثل العذر الاول في أن الروائي لم يشر إلى السنة التي تدور فيها أحداث الرواية، خاصة في الطبعة الأولى وإن ترك أثار دالة على هذه السنة في النص الروائي وإذ نقول هذا، فإننا لا نلزم الروائي بتحديد السنة او الشهر أو ما شابههما في روايته، فكل ما نتوخاه أن تؤدي الاحداث نفسها هذا التحديد ولكن ما نرمي إليه هنا هو أن فرصة سنحت للروائي عندما كتبت نفيسة رسالة لأختها تخبرها عن معاناتها في القرية، وقد استغل الروائي هذه الفرصة في الطبعات الاخرى للرواية كما ذكرنا من قبل.
ويبدو أن الخوف من الرقيب هو الذي دفع ابن هدوقة إلى عدم ذكر السنة بطريقة مباشرة، بمعنى أخر إن الروائي كان حذرا من عين الرقيب في حديثه عن الفترة التي صورها في روايته، ولم يزل الحذر إلا بعد صدور الطبعة الثالثة من الرواية، ففي هذه الطبعة ذكر بطريقة مباشرة السنة التي كتبت فيها نفيسة الرسالة إلى خالتها، وقد يتساءل أحدنا قائلا: ما السبب الذي جعل الروائي يذكر السنة في الطبعة الثالثة؟ ويمكننا الاجابة عن السؤال بقولنا: إن الاستقبال الذي حضيت به رواية ريح الجنوب قد قلل من درجة الحذر الذي أبداه في الطبعة الاولى.
وربما نذهب إلى أبعد من ذلك بقولنا إن الترحاب الذي قوبلت به رواية ريح الجنوب شجع الروائي في أن ينزع عنه جانب الخوف من عين الرقيب.
ويتمثل العذر الثاني في وجه الشبه بين الاصلاح الزراعي والثورة الزراعية بالنسبة إلى الدارسين الذين أهملوا ما يميز ذينك المشروعين.
أما العذر الثالث فيكمن في دور الرواية في بداية السبعينيات، وهي الفترة التي عرفت صراعا اجتماعيا أكثر من ذي قبل حول قضية الأرض مما أدى بالدارسين إلى ربط أحداث الرواية ببداية السبعينيات ربطا مباشرا دون تدقيق في الفترة الزمنية التي تصورها الرواية من خلال أحداثها. وبعبارة أخرى إن دارسي ريح الجنوب خضعوا للفترة الت صدرت فيها الرواية، أكثر مما خضعوا للأحداث التي تحدد داخل الرواية، أي أنهم انساقوا وراء أحداث السبعينيات أكثر من انسياقهم وراء الفترة التي أرادت الرواية تصويرها فالدكتور عبد الله الركيبي يقول عن ريح الجنوب " تعالج موضوعا تلتقي فيه مع رواية أخرى وهي الزلزال ونعني به موضوع الثورة الزراعية" ومرة أخرى يربط حديث ريح الجنوب عن الاصلاح الزراعي والثورة الزراعية، والأمر نفسه نجده عند أغلب الاراء التي أبداها الدكتور عمر بن قينة في شخصية عابد بن القاضي الذي داهمته فكرة أخرجته مما هو فيه من حيرة، وخوف عن أرضه وماله من الثورة الزراعية والحرص على تأمين أحكامه وماله من شبح الثورة الزراعية الذي أفزع أمثاله وحين لاح شبح الثورة الزراعية بعد الاستقلال مع 1970 هرع من جديد إلى مالك يتودد إليه ويذكره بالماضي.
وقد ربط الدكتور بشير بويجري ربطا مباشرا بين الثورة الزراعية وتصرفات عابد بن القاضي الذي لا يدافع إلا عن أرضه التي كان يتهددها خطر الثورة الزراعية ولذا نجده يسرع إلى تقديم ابنته الثانية نفيسة، التي كانت هي أيضا طالبة جامعية، زوجة لمالك تفاديا لخطر الثورة الزراعية.
كما نجد أراء أخرى أبداها بعض الدارسين مرتبطة بالحديث عن الفترة التي صورتها رواية ريح الجنوب فهي تتناول الفترة التي سبقت إصدار قانون الثورة الزراعية بقليل وبالضبط أواخر الستينات والرواية بمحيطها وشخصياتها أولا وأخيرا تعبير عن وضع ريفي، بداية السبعينات لا يزال مستسلما لمشاكله ونستنتج أن الاستشهادات السابقة ترمي إلى ترسيخ شيء واحد هو الفترة الزمنية التي دارت فيها أحداث رواية ريح الجنوب، وهو ما نراه مخالفا للتحديد الذي استنتجناه من الرواية ذاتها كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
ويجب أن نشير إلى رأي الدكتور محمد مصايف في عدم حديث ريح الجنوب عن الثورة الزراعية، حتى لانغمطه حقه عندما ذهب إلى القول: "إني أختلف مع الدكتور عبد الله ركيبي فيما أكده من أن رواية ريح الجنوب تلتقي مع رواية الزلزال للطاهر وطار في كون كل منهما تعالج موضوع الثورة الزراعية، فشعار الثورة الزراعية لم يكد يرد في رواية ريح الجنوب على أي لسان".
فالدكتور محمد مصايف ينتبه إلى مسألة هامة ولكنه لا يلتفت إلى الفترة التي تحددها الرواية نفسها.
ويبدو أن الشواهد السابقة التي سقناها على تحديد الدارسين للفترة التي تدور فيها أحداث الرواية من تاريخ صدورها وليس من الفترة التي تومئ إليها الاحداث نفسها، ليس تمحكا أو عملا يقصد منه التطاول على الاخرين بقدر ما يهدف إلى قراءة الرواية من خلال أحداثها لا من خلال الفترة التي صدرت فيها. وهذا ما يدفعنا إلى الوقوف عند الرأي الذي أبداه الدكتور واسيني الاعرج في قوله: "فصدق ابن هدوقة الفني هو الذي دفع به إلى القدرة على التنبؤ". إن ابن هدوقة لم يكن يتنبأ بصدور ميثاق الثورة الزراعة، بقدر ما كان يصور حدثا ظاهرا على أرض الواقع ألا وهو الاصلاح الزراعي، مادامت أحداث الرواية تدور سنة 1964، أي بعد مرور أكثر من سنة على صدور مراسيم الاصلاح الزراعي في مارس 1963 وهو ما أشرنا إليه في أثناء حديثنا عن المكالمة الهاتفية التي دارت بين مالك ورضا.
أما العذر الرابع الذي التمسناه للدارسين في موقفهم من تحديد فترة أحداث الرواية، فيتمثل في نظرة عبد احميد بن هدوقة نفسه إلى الاصلاح الزراعي، الذي صدرت مراسيمه بعد استيلاء الفلاحين والعمال الزراعيين على مزارع الأوروبيين، على حين وجدنا رواية ريح الجنوب تولي اهتماما أخر يتعلق بتأميم أراضي كبار الملاك الجزائريين وبعبارة أوضح لقد صورت ريح الجنوب ذلك الهلع الذي استحوذ على كبار الملاك من مراسيم الاصلاح الزراعي، مع العلم أن تلك المراسيم لم تول أهمية تكاد تذكر لكبار الملاك الجزائريين، إذ أنصبت جلها على استعادت أراضي المعمرين وتنظيم تسييرها، وإن لم يمنع هذا من تأميم بعض المزارع التي كانت في حوزة كبار الملاك الجزائريين.
أي أن ابن هدوقة هنا انساق وراء بعض جزئيات الاصلاح الزراعي من دون التركيز على ميزاته العامة، مما أدى برواية ريح الجنوب إلى أن تخسر جانبا على غاية من الاهمية خاصة وأن الرواية كتبت بعد فترة من تجربة الاصلاح الزراعي في الجزائر.
وهكذا نرى أن الفترة التي كتب فيها ابن هدوقة روايته أثرت إلى هذا الحد أو ذاك في طريقة تعبيره عن فترة سابقة لها. وأن النقاد أثر فيهم النقاد السياسي والاجتماعي الدائر بعد صدور رواية ريح الجنوب، مما دفعهم بمختلف اتجاهاتهم إلى ربط الرواية بفترة الثورة الزراعية على نحو أو أخر.
الهوامش:
- ينظر عبد الحميد بن هدوقة، ريح الجنوب، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر ط.د.ت +ط 3 1976 ص10-216-218-226.
- المصدر نفسه ص 50 ونلاحظ أن هناك خطأ في الطبعة الثالثة إذ ورد أن عمر نغيسة 18 سنة ينظر الرواية ص 50.
- المصدر نفسه ط1+ط3 ص 52.
- المصدر نفسه ص 52.
- المصدر نفسه ط3 ص 92.
- المصدر نفسه ط1 ص92.
- المصدر نفسهص 227.
- الدكتور عبد الله الركيبي،تطور النثر الجزائري الحديث 1830-1974 معهد البحوث والدراسات العربية مصر ط1 1976 ص 199
- المصدر نفسه ص 200.
- د. عمر بن قينة، دراسات في القصة الجزائرية (القصة القصيرة والطويلة)
- المصدر نفسه ص 161.
- الدكتور عمر بن قينة، في الادب الجزائري الحديث (تاريخيا..وأنواعا وقضايا..وأعلاما) ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر 1995 ص 208
- بشير بويجرة محمد، الشخصية في الرواية الجزائرية "1970-1983" ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر الجزائر 1986 ص 14.
- المصدر نفسه ص 86.
- واسيني الاعرج، اتجاهات الرواية العربية في الجزائر-بحث في الاصول التاريخية والجمالية للرواية الجزائرية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر ط1 1986 ص 384.
- المصدر نفسه ص 387
- الدكتور عمر بن قينة، في الادب الجزائري الحديث ص 219
- الدكتور محمد مصايف، الرواية العربية الجزائرية بين الواقعية والالتزام الدار العربية للكتاب تونس-ليبيا والشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر 1983 ص 180.
- واسيني الاعرج ص 396.
- الدكتور أحمد بعلبكي، المسألة الزراعية أو الوعد الراقد في ريف الجزائر منشورات عويدات ببيروت لبنان ط1 1985 ص 184.