ريح الجنوب الفضاء "الدلالة"

بقلم الدكتور عمرو عيلان من جامعة قسنطينة
محورية الفضاء في رواية ريح الجنوب:
تجري أحداث رواية الجنوب في حيز مكاني هو القرية، وفي فضائها تتكثف جملة من العلاقات الانسانية محددة طبيعة الصراع الفكري والإيديولوجي الذي تغذيه مختلف الشخصيات الروائية بقناعتها المتباينة المنضوية ضمن سياقين لإيديولوجيين مهيمنين، يسعى الاول لتغيير وضعه الاجتماعي وظروف حياته اليومية، في حين يسعى الثاني للحفاظ على الاوضاع كما هي عليه ليضمن استمرار نفوذه وحماية مصالحه، وإذا كانت مختلف عناصر البناء في الرواية تستند صياغة قيم فكرية ايديولوجية فإن الفضاء يشكل في الرواية العنصر البناءي الاساسي والجوهري في بناء الدلالة ولا نخطئ إذا قلنا بأنه الاساس المركزي الذي أقيمت حول نواته مختلف الابنية الاخرى فبؤرة الصراع التي انبثقت منها مختلف الاحداث الروائية نتجت عن الخوف من فقدان المكان الارض الذي هو الفضاء الحيوي لإقامة نسق خاص من التنظيم الاجتماعي، الاقتصادي ومجال يحدد جغرافية السلطة في الريف، ومجرد طرح اشكالية ملكية الارض يقودنا وفق منطق التداعي الطبيعي للانتقال إلى البيئة الريفية، والحديث عن القرية وطوبوغرافيتها ونظام الحياة بها، والقيم التي تثيرها وتحفل به من علاقات بين سكانها والصراع بين الفلاحين والملاكين..."فالمكان في الرواية خديم الدراما، فالإشارة إلى المكان تدل على أنه جرى وسيجري به شيء ما، فمجرد الاشارة إلى المكان كافية لكي تجعلنا ننتظر قيام حدث ما. وذلك أنه ليس هناك مكان غير متورط في الأحداث(1) وفي رواية ريح الجنوب فإن السبب دفع ابن القاضي للعمل على تزويج ابنته نفيسة من مالك هو محاولته الحفاظ عل أراضيه من التأميم وتسلسلات بقية الوقائع في الرواية انطلاقا من هذا الغرض الجوهري، فابن القاضي "لولا ما يخشاه من ضياع أرضه لاستطاع أن يدعها تعود للجزائر لمواصلة دراستها ولأمكنه أن لا يرغمها على الزواج إذا لم تكن راضية...لكن الموفق يدعو إلى السرعة فالإشاعات المتعلقة بالإصلاح الزراعي كثر دورانها على الألسنة" (2) وبذلك يكون الحيز الذي يشغله الفضاء الحيوي المتصل بالسلطة الاجتماعية والاقتصادية، محل تبئير لمجمل وقائع الرواية، وحافز بالنسبة لحركة الشخصيات وأفعالها وتصرفاتها المختلفة والتي تصورها الخاص في تنظيم المكان، لأن علاقة الانسان بالمكان تخضع في أساسها إلى طريقة تنظيمه واستغلاله والتي يتم وفقها تقسيم السلطة وتدرجها وفق طبيعة المجتمعات وتطورها، فتغدو الحرية الانسانية للفرد أو الجماعة مرتهنة للنظام الذي يتوليى تحديد وتسيير سلطته في المكان الذي يخضع بالتالي للمنهجيات الايديولوجية الواقفة وراء أسلوب تنظيمه، وفي هذا السياق يشير "بول كلافال "PAUL CLAVAL" في كتابه "المكانة والسلطة" ((أن الدرس الكبير نأخذه من وقائع السلطة هو أنه لا يوجد في نطاق المكان حرية، بدون حد أدنى من التنظيم، لكت هذا التنظيم هو تهديد لكل شخص، ويقيد استغلال الاختيارات)) (3)
فبقدر ما يمنح التنظيم الحرية فإنه يفيدها هذا ما نجده عند "ابن القاضي" في رواية "ريح الجنوب" فقد استوعبه بعمق وهو يرفض التنظيم الجديد المتمثل في "قانون الاصلاح الزراعي" الذي يعيد تشكيل جغرافية السلطة في الريف، ويسعى للحفاظ على التنظيم المكاني النابع من رؤيته الإيديولوجية، لأن الارض هي مصدر قوته وسلطته وقيمة وجوده الاساسية.
ويؤسس المكان بوصفه فضاء، حيويا خاضعا لتصور ايديولوجي، موقفا ثابتا يمثله "مالك" الذي يقف على النقيض في مواجهة "ابن القاضي" ويحمل رؤية تدعو لتطبيق الاصلاح الزراعي كأسلوب تنظيمي ينعكس على مختلف جوانب الحياة في الريف (4) ومن هنا يكون قد أصبح الساس الذي تركزت حوله حلقة البناء المركزية للرواية، وجعل عالمها يترد في بيئة ريفية لتسهل المقابلة بين الرؤى الايديولوجية، ويتبين مساراتها انطلاقا من عرض فضاء القرية بمستوياته الطبيعية والاجتماعية والثقافية وانعكاساته المتشكلة في نفسيات الافراد.
وإذا انتقلنا إلى مستوى ثان للحديث عن المكان بوصفه مجالا للحدث الروائي وحيزا تتحرك ضمنه شخصيات الرواية فإننا نجد المكان ببعديه الحقيقي الواقعي والمجازي مهيمنا على رواية "ريح الجنوب" ولا تصل بنفسيات الشخصيات وأصبح يحمل طاقة دلالية متميزة جعلته يشكل الهاجس المركزي في الرواية: فنفيسة ترفض الحياة في فضاء القرية الذي يشكل حاجزا أمام طموحاتها ومصدر قلقها الدائم، والقرية بالنسبة لها خراب وصحراء ومنفى (5) ورمز للموت ومصدر كبت وظلم ومصادرة للحرية ولإنسانية الانسان فالحياة بالقرية كابوس يجثم على صدرها، ويقلم رؤيتها للمستقبل، ولذلك فهي تسعى للانتقال من فضاء تراه معاد، إلى مكان أخر يفسح لها المجال لممارسة قناعتها، (وأغمضت عينيها كأنها تود بذلك أن تفلت من المكان...ومن هذا الواقع البشع) (6)
والإفلات من سلطة المكان في رواية ريح الجنوب لا يكون بالعمل على تغيير العلاقات التي تسيره وتحكمه، بل بالانتقال إلى فضاء أخر يحقق التوازن ويجلب السعادة، ويؤكد الذات ويغير القيم، وهذا الفضاء "الهروبي" المنجز في مستوى الحلم يقف عند نفيسة في مقابل الفضاء الواقعي المسيج بالممنوعات والنواهي فتنقلها أفكارها باستمرار إلى استرجاع صور ومشاهد مدينة الجزائر (7) فمناظرها وبناياتها وحياة الناس بها تشكل بالنسبة لها أفق الانعتاق من هيمنة "السلطة الأبوية" وإذا كان ذكر مدينة الجزائر يتصل بمدى الاستذكار والاسترجاع، فإن مدى الاستشراف ينتقل إلى الحلم بأماكن يطغى عليها الطابع العجائبي والسحري، وتتحقق الحركة في الرواية عبر موقف الشخصية بالانتقال في المكان من واقع القرية إلى أفضية خالية مجازية نابعة ومتولدة عن الرغبة الفعلية في تغيير الإقامة، (8) فحلم نفيسة بالتغيير كقيمة فكرية، متصل بصورة أساسية بتغيير المكان وهو موقف مالك الذي يتبناه كأفق منطقي للوفاء بالالتزامات التي قطعها على نفسه خلال حرب التحرير، فسلبيته في مواجهة الواقع الفكري السائد في القرية، وعجزه عن تجذير رؤيته الجديدة ونشرها في أواسط الفلاحين، جعله يراجع كل الاحلام التي بناها سابقا ويقرر بأن الهجرة هي سر النجاح يقول (أبقى هنا، هنا إلى الابد...هكذا كنت أقول،هكذا كنت أغني...أبقى هنا وإلى الابد لأسمع باستمرار أحاديث ما وراء الابد ! ربما استطعت ذلك، استطعت أن أغير وأبدل، لو كنت رسولا، حتى الرسل لم يغيروا أو يبدلوا إلا بعد أن هاجروا...) (9) إن المكان من هذا المنظور امتلك طاقة انجازية واضحة في المستوى الدلالي، بانتقاله من مجرد بعد هندسي إقليدي إلى عنصر بنائي حافل بالرؤية الفكرية للشخصيات، (إن الوضع المكاني في الرواية يمكنه أن يصبح محددا أساسا للمادة الحكائية ولتلاحق الاحداث والحوافز أي أنه سيتحول في النهاية إلى مكون روائي جوهري ويحدث قطيعة مع مفهومه كديكور) (10). وتبقى ثنائية الانتقال في الفضاء كعنصر فاعل في التحول عند الشخصيات بمثابة تجسيد لمحورية الفضاء، ومكوناته المكانية والاجتماعية، ومسارا حتميا يفترضه البناء الفكري للرواية، فتفاعل الشخصيات مع الفضاء الذي تعيش فيه ينتج رؤية خاصة، وأحكام قيمة تتبعها مواقف فعلية تصنف في خانة رد الفعل المندمج أو المنفصل الرافض، وفي رواية "ريح الجنوب" يكون رفض قيم الفضاء الاجتماعي للقرية بالتفكير في تغيير المكان، وإذا كنا قد لاحظنا ذلك عند نفيسة ومالك فإن رابح الراعي يسلك نفس المسار، فحين أراد تغيير وضعه الاجتماعي بتوقفه عن الرعي فإنه يفكر في الذهاب إلى فرنسا للعمل (11).
إن النماذج السابقة توضح اتصال البنية الحديثة في الرواية وسيرورتها بحضور أفضية متعددة واقعية أو خيالية، وهو متأكد عندما نعاين درجة كثافة المكان في الرواية بالمقارنة مع الافعال المنجزة، حيث نلاحظ هيمنة للفضاء وتركيزا في توضيح عناصره المتعددة، مما يسمح بتشييد رؤية دلالية، ترتكز على إشارات التي توفرها الاماكن المختلفة في رواية ريح الجنوب واتصالها بالعناصر الاجتماعية التي تعكس نفسيات الشخصيات والقيم السائدة في الريف فتستحيل إلى أفضية نابضة بدلالات فكرية، نفسية واجتماعية، فإسقاط الحالة افكرية أو النفسية للأبطال على المحيط الذي يوجدون فيه يجعل للمكان دلالة تفوق دوره المألوف كديكور أو كوسط يؤطر الاحداث إنه يتحول في هذه الحالة إلى محاور حقيقية (12)
دلالات الفضاء في الرواية:
إن حركة الشخصيات في المكان وتفاعلها معه تجعلنا نحدد ونصنف جملة من الاماكن كأفضية دالة في الرواية، انطلاقا من مكوناتها الطبيعية والسوسيوثقافية ودرجة توجيهها للمعنى وإثرائه وقوة رمزيتها، وفي هذا السياق يمكننا أن نشير إلى فضاء القرية كعالم يحتوي أفضية صغرى متصلة به بنيويا وتشكله معنويا كالبيوت، المقهى، المقبر، يقابله بشكل عابر فضاء المدينة، ونحن إذ نشير إلى المدينة كفضاء للدلالة لا نسعى لإقامة دراسة تقاطبية بين الامكنة في الرواية لأن طبيعة الفضاء في ريح الجنوب أحادية، أحداث الرواية متركزة في مكان جغرافي واحد، أما التقاطب الذي تطرحه الرواية، فإنه يتحقق في المستوى الذهني بالدرجة الاولى، وهو ما يؤكد الطابع الدلالي الرمزي للفضاء في الرواية، فالقارئ وهو يطالع الرواية ينتقل بين عناصر متعددة للوحة واحدة، وكل أجزاء الفضاء في الرواية متكاملة في دلالتها على وضع سوسيو ثقافي خاص يدفع القارئ لمقارنته بفضاء أخر.
تهدف الرواية عبر رؤية الراوي لطرحه كبديل مشروع وأفق ضروري ويستوضح ذلك إذا تأملنا الدلالة التي ينتجها فضاء القرية، البيوت، المقبرة، المقهى.
1-فضاء القرية:
في حديثنا عن الدلالة التي يولدها فضاء القرية، نتناول عنصرين متكاملين مكونين لهذا الفضاء وهما طبيعة القرية وموقعها في المستوى الأول، وما ينعكس داخله من حياة اجتماعية مرتبطة به تكون المستوى الثاني، الذي يحدد منظومة القيم والمعاملات والأفكار. فالبنية الاجتماعية الثقافية السائدة في مجتمع قرية ريح الجنوب منسجمة إلى حد بعيد مع طبيعة البيئة الخارجية وملازمة لها، والتفاعل الناجز بينهما هو الذي يحدد خصوصية حياة الشخصيات في الرواية ورؤيتها الايديولوجية المستندة في موقفها على خلفية وحكم واضح من الواقع.
1-1-القرية وهيمنة الطبيعة:
إن الموقع الذي تحتله القرية جعلها تغيب في ديكور الطبيعة ويختفي حضورها المتميز الذي يفرض نفسه كتجمع سكاني حضري، فغدت جملة من المنازل المتناثرة عدا بعض البيوت والجامع والمقهى التي تشكل مركز القرية الذي يرتاده السكان، بالإضافة إلى ذلك فإن القرية معزولة عن بقية القرى الاخرى والمسالك المؤدية إليها غير مأمونة حتى أن الطريق الوحيد الذي يربطها بالقرية المركزية غير معبدة. (لم يجعل في الواقع لمرور السيارات إنما أصلحت أثناء الثورة لمرور جيش الاحتلال) (13) وعزلة القرية جعلتها تعيش على هامش التطور العمراني والحضري وتخضع بشكل كبير للطبيعة المحيطة بها، من جبال وربى وهضاب وأرض بور غير صالحة للزراعة.
فانكفأت على ذاتها وقطعت الصلة بالعالة الخارجي وأصبح كل شيء فيها مرتبطا بالطبيعة التي تحتضنها (حتى الاصوات التي يمتلكها فضاء، القرية وما حولها قليلة ومعروفة، فهناك صوت الريح...صوت الرعد...أصوات الحيوانات الاليفة...أصوات الطيور وأصوات الذئاب، فكل أصوات القرية إذن من طبيعتها) (14) وهو ما يشير إلى الغياب الكلي للعناصر الصناعية الحضارية التي من شأنها أن تكون بمثابة انتقال نوعي في حياة القرية وتطويع للطبيعة الجغرافية لها بما يتماشى وتحسين ظروف العيش والانتقال من مستوى التبعية الكلية والمباشرة للشروط البيئية، إلى درجة أكثر استقلالية في التنظيم الاقتصادي المتصل بزراعة الارض وفلاحتها.
أما المظهر الثاني فيكتسي بعدا رمزيا جماعيا يبرره تجاوب سكان القرية مع أنغام الناي التي تحدد كقطب دال على الانعتاق والحرية لأن مصدر هذه الأنغام ليس المحيط الداخلي للقرية، وإنما الآفاق الممتدة بعيدا عنها بكل ما فيها من انطلاق وفسحة ومستقبلية فمصدرها غير المنظور وغير المعروف، يجعلها بمثابة الصوت الآتي من أعماق الأمل الممكن في التغيير بموقف وبرمزية تواجه هيمنة ريح الجنوب ( فالموسيقى الشعبية في ريح الجنوب تعبر عن الألم الذي يعانيه الكادحون من جراء الاستغلال وعن ثورتهم على هذه الوضعية، وهي أيضا تعبر عن أملهم في مستقبل مشرف... كما أنها تمثل بالنسبة للقرية عنصر الحياة) (29)
2- فضاء المقهى:
إذا كان فضاء القرية في اتساعه وشموليته يزخر بدلالات اجتماعية وفكرية، تنهض على المستوى الطبيعي والاجتماعي عبر الإشارات التي تنتج عن التفاعل بين الانسان والطبيعة فإننا نجد في ريح الجنوب أفضية أخرى أقل إقناعا من فضاء القرية- بل محتواه فيه- لكنها لا تخلو من عناصر تنتج في سياق حضورها. وعلاقة السكان بها، دلالات رمزية وإيديولوجية ومن بين هذه الأفضية نجد فضاء المقهى الذي يتأسس كمحور تواصل بين السكان والوسيلة الوحيدة لتلتقي الأخبار والاطلاع على مستجدات القرية والقرى المجاورة.(30)
وبذلك تتضح أهمية هذا الفضاء في كونه يشكل صدى للحياة الاجتماعية، ويعكس الأفكار المنتشرة ويعرض لنمط الفعل الاجتماعي وخصوصيته. فالمقهى فضاء انتقالي تفرض عليه طبيعته الانفتاح على محيطه الذي يتعامل معه وهذا التفاعل يؤدي حتما إلى إصباغ صورة من الروابط الفضائية الاجتماعية التي تدل على المنحى الحافل بالرموز والدلالات.
وإذا اعتمدنا التصور السابق انطلاقا من العلاقة التي تربط المكان بالإنسان الذي يؤمه فإننا ندرك طابع الدلالة الذي يولدها المقهى كمكان وفضاء انتقالي.
إن مظهر المقهى الداخلي يكشف عن الصورة الاجتماعية لرواده وطبيعة اهتماماتهم. ونسق الحياة التي يؤدونها (إنه مكان مؤول بما احتواه من جغرافية مموهة بالأفكار)(31) فمظهر لاعبي الدومينو والورق الذين يفترشون أحصرة الحلفاء، يشير إلى طبيعة اهتمامهم الأساسي وإذا عرفنا بأن هاته اللعبة تمارس باستمرار وتحدث بسببها مناوشات، تصل إلى قناعة مؤادها، أن الاهتمام الأساسي والانشغال الجوهري لرواد المقهى بعيد كل البعد عن أن يؤسس اهتماما بواقعه الاجتماعي ومحاولة تفسيره. فيتحول فضاء المقهى الذي من المفروض أن يؤدي وظيفة تحفز على العمل إلى فضاء يكرس الكسل والخمول والانشغال بقضايا هامشية في حياة الإنسان وهو ما يدفع إلى العطالة الفكرية والتهميش إلى جانب هذا يتخذ فضاء المقهى طابعا متميزا يجعله بمثابة اللقاء والملاذ الوحيد للشخصيات في الرواية.(32)
وهاته العلاقة التي تربط الشخصيات بالمقهى تحدده علاقاتها بهذا الفضاء الذي يختلف في نظرها ومفهومها عن بقية رواده. فمالك لا يدخل المقهى إلا للحصول على معلومات وأخبار أو تكاليف من ينفلها و ( رابح الراعي) يدخل المقهى بدافع الفضول لا أكثر فهو يحس بأن جوه الخانق لا يلائم طبيعته.
ابن القاضي لا يذهب إلى المقهى إلا بغرض يتصل ومصالحه، ومن هنا تتضح فضاء المقهى في كونها لا تلائم الشخصيات التي تحمل رؤية فكرية ناضجة، بينما يصبح فضاء شبه دائم لبقية السكان الذين تعكس مناقشاتهم الطابع الفكري السائد، الذي لا يتعدى التعليق عن أحداث دون الإسهام فيها وهكذا يصبح المقهى يمتلك خصوصيات تجمع بين مستويين من الاهتمام الإنساني بواقعه.
3- فضاء المقبرة:
إذا كان فضاء المقهى يعكس الحالة الاجتماعية للسكان، فإن المقبرة تتخذ بعدا فكريا ونفسيا يحفل بدلالات مختلفة، تتوحد في سياق أساسي يعكس مدى حضور الماضي في نفوس السكان وعلاقتهم ببيئتهم، فالمقبرة تحتل أحسن موقع في القرية والطريقة الموصلة إليها لا يكثر فيها الصعود والهبوط. إنها الطريق إلى الذاكرة وإلى الماضي وإلى العادات المتوارثة، على عكس الطريق المؤدية إلى القرية المركزية الذي بقي غير معبد وهاته المقاربة تشير إلى المسافة التي تفضل السكان عن المستقبل وتجعلهم أكثر حنينا إلى ماضيهم كما أن موقف السكان من بناء المدرسة التي اختلفوا في موقع إنشائها، وإجماعهم على بناء مقبرة للشهداء يتجاوز المعنى المباشر للواقعة، ليرقى بها إلى مستوى الدلالة الفكرية. فالسكان متفقون على تمجيد الجوانب المشرقة من ماضيهم لكنهم يختلفون في الصورة التي سيكون عليها المستقبل.
وهذا الاطمئنان الماضي ترك شخصيات الرواية، تجعل من المقبرة فضاء استحضار، وحنين، وتعويض عن الواقع البائس. فـ "خيرة" تستدعي ماضيها البعيد من خلال قبر أمها وتقارن بين علاقتها بأمها حيث كانت ترى الحياة والأشياء من خلال زاوية نظر أمها ... تحب من تحب هذه، وتكره من تكره، وتفرح لفرحها وتبكي لبكائها(33) وتقارن ذلك بموقف ابنتها نفيسة التي لا تهتم ولا تنشغل بأفكار أمها وتصوراتها بل تسعى لخلق شخصيتها بصورة تجسد فيها حريتها ففضاء التذكر في المقبرة يقيم مقارنة في العلاقات الاجتماعية بين الأجيال. أما العجوز رحمة التي تردد باستمرار على قبر زوجها الذي مات منذ زمن بعيد، فيشير إلى الوفاء للماضي وللتقاليد الاجتماعية، وهذا الوفاء يجعل من الذاكرة مساحة للحوار، فالعجوز رحمة تحاور زوجها في القبر وتطلعه لكل مستجدات القرية وعن مشاريعها الخاصة في صناعة أوانيها (34) وهذه العلاقة الإنسانية مع العالم الآخر تجعل الفعل المنجز يشحن بدلالة البناء الفكري الذي يسعى دوما إلى الارتباط بالماضي ومساءلته واستنطاقه لبناء تصور عن الحاضر والمستقبل.
ولعل هذا المنزع هو الذي جعل العجوز رحمة لا تستطيع أن تنجز آنية جديدة لم تصنعها من قبل فالمستقبل لا يمكن أن ينجز بالاعتماد الكلي على الماضي دون الأخذ بمعطيات الحاضر.
أما مالك الذي كانت علاقته بالمقبرة تختلف نوعا ما عن العلاقات السابقة فإنه لا يخرج عن سياقها العام فوقوفه أمام قبر زليخة خطيبته التي استشهدت في حادثة القطار(35) يدفعه للإحساس بالذنب والتقصير اتجاه الماضي، ولذلك فهو يسعى إلى إعادة إنتاجه من جديد عبر رغبته في الزواج من نفيسة ابنة ابن القاضي، إن الماضي يعيد نفسه في حياة مالك وعلاقته بابن القاضي واستئناسه لهذا الماضي هو الذي كان سببا في فشله وإخفاقه في تحقيق مشروعه التغييري، فإذا كان التاريخ يعيد نفسه أحيانا، فإنه يخضع بدرجة كبيرة لمعطيات الواقع الجديدة وإهمال هاته المعطيات لا يمكن أن يخلق فضاء جديدا يمثل الماضي ولا يكرره.
طبيعة الوصف و دلالته:
نحاول في سياق البحث في طبيعة الوصف ودلالاته أن نمسك بالدور الذي ينهض به عرض الفضاء الروائي عبر تقنية الوصف من إنتاج الرموز الدالة على القيم الفكرية والإيديولوجية المختفية خلف العناصر المتعددة للفضاء والطريق التي تم بها تركيب هذه الأجزاء، ومنهجية تشكيلها. محاولين تجاوز الصعوبة التي يفرضها التداخل الطبيعي لمكونات النص الروائي الذي يلتحم فيه السرد بالوصف وإذا كنا قد تناولنا في المحور السابق علاقة الفضاء الطبيعي بالفضاء الاجتماعي، فإننا سنقصر هذا المحور على دراسة القيمة الرمزية التي تنتجها الصور الوصفية ومجالاتها، والعلاقات الدلالية التي تشير إليها. دون إهمال دراسة وظيفة ودور الراوي في تحديد منظور الوصف، الذي يحدد زاوية الرؤية ومجال النظر، لاستيعاب اللوحات الوصفية التي نركز فيها على ما يسميه جينيت الوظيفة التفسيرية الرمزية الدالة على معنى معين والتي يقابلها بالوظيفة الجمالية التزينية للوصف(36) دون أن تتناول الوصف الذي يقدم حركة الشخصيات في الفضاء، حيث تتداخل المقاطع السردية بالوصف وبذلك يتم التركيز على وصف الفعل وينتج سباق خطابي يتألف من وصف + حركة، اقترحت سيزا قاسم تسميته ب "الصورة السردية"(37)
وإذا كان جينيت قد قصر العنصر الرمزي الدلالي على الوصف السردي أو الصورة السردية، فإننا نلاحظ بأن الوصف الخالص طاقة إيحائية دالة على قيمة فكرية أو اجتماعية، اعتبارا من أن الأشياء الموصوفة تتصل حتما بأفضية اجتماعية أو فردية، تضفي عليها خصوصية وتفردا وكما يرى مشال بوتور فإن (للأشياء تاريخا مرتبطا بتاريخ الأشخاص، لأن الإنسان لا يشكل وحدة بنفسه بل جسدا مكسوا بالثياب)(38) ومن هذا المنطلق الذي يجمع بين الأشياء و الدلالة التي تنتجها تسعى لتحديد مسار الوصف في رواية ريح الجنوب ومستويات التأويل التي يمنحها للبنية الإيديولوجية للنص.
1- الراوي و طبيعة الوصف:
يخضع البناء الروائي في مجمله إلى الموقع الذي يتخذه الراوي من فضاء الرواية، والطريقة التي يتبعها في تقديم معالمها للقارئ. وإذا كنا قد تحدثنا في الفصول السابقة عن علاقة الراوي بصيغة الخطاب الروائي، وبناء الأحداث والفكرة، فإننا سنتناول في هذا المحور، علاقته بالوصف الذي يشكل مكونا جوهريا ينهض عليه النص في رواية ريح الجنوب تشكل الرؤية من الخلف التقنية التبعة في بناء رواية ريح الجنوب. وهذه التقنية جعلت الراوي يتمتع بحرية مطلقة في وصف الفضاء الروائي، وتقديمه للقارئ وفق منطق خاص وزاوية محددة، تتحكم في تقديم المناظر واللوحات والأشياء. وهذا المنطق التصويري يدفع للإحساس بأننا أمام شاشة تعرض عليها مشاهد تلتقطها عدسة الراوي، فتتقلص حرية المشاهد لترتبط كلية بما يقدمه المصور، الذي يقصد إلى إحداث تأثير معين في المتلقي.
ومن هنا فإن الراوي يشتغل على مستويين: يقوم الأول على اختيار مجال الوصف، وضبطه بما يتلائم والقيمة الفكرية الإيديولوجية المقصود إثارتها وطرحا. لأن (المكان المتخيل في نص أدبي يشكل المجال المفضل الذي تعلن عنه إيديولوجية معينة) (39)
أما المستوى الثاني: فيعمل على كشف مكونات المجال الموصوف. ويتم ذلك بدوره وفق صيغتين هما: الاستقصاء والانتقاء، تسير الأولى في اتجاه تقديم المكونات الجزئية والدقيقة المجال الموصوف، في حين تكتفي الصيغة الثانية بذكر الملامح العامة للمجال أو انتقاء جزء منه ووصفه.
وحين نقوم بالجمع بين المستويين السابقين، من اختيار للمجال وصيغة تناوله، تكتمل عناصر الصورة الوصفية، وتنبثق عنها قيمة ذهنية لدى المتلقي، تحيله إلى تأويلها ضمن سياق مفهومي مدرك ضمن البيئة والوسط الثقافي الاجتماعي.
وفي رواية ريح الجنوب، تناول الوصف الفضاء الانساني في شموليته، المتضمنة لطوبوغرافيا الطبيعة ومناخها، وأماكن الإقامة والانتقال، كالبيوت والمقهى والأشياء الملازمة له في حياته، كالأثاث، والملابس، والأطعمة. وتعدى ذلك إلى وصف الملامح الفيزيولوجية الخاصة بالشخصيات. غير أن هذا الوصف يختلف في درجته من عنصر لآخر- إذا اعتمدنا في تحديد مستويات الوصف على مشجر "جان ريكاردو" الذي يعين فيه الشيء وموقعه، خصائصه الشكلية، مكوناته وعناصره، محتواه ووظيفته- و سنقتصر على مكونات معينة في العنصر الواحد دون غيرها، و يتبين ذلك بصورة مكتملة كالآتي:
1-1 وصف الطبيعة:
تكاد تخلو رواية ريح الجنوب من المقاطع الوصفية الطويلة، التي تحدد طبيعة المكان الذي توجد فيه القرية. ولا نكاد نعثر على مواصفات طبيعتها إلا متناثرة في ثنايا الرواية. فوصف الطبيعة يتم بشكل مقتضب، لا يورد التفاصيل الدقيقة بشكل منهجي ومتسلسل، فكل ما نعرفه أن القرية تحيط بها الجبال من كل جانب، تكثر فيها المرتفعات و المخفضات، وتشبه واديا كثير التعاريج، و على مسافة ساعة من السير يوجد مكان ظليل، تغطية أشجار الصنوبر والعرعر، وتكثر فيه الحلفاء والديس، وأشجار شائكة أخرى.(40) أن عدم الإسهاب في وصف المحيط الطبيعي للقرية، و الاكتفاء بالإشارات القليلة، يوحي بالفراغ و انعدام الحياة. و المقطع الوحيد الذي يتناول طبيعة القرية، يتحدث فيه الراوي عن فقر البيئة الطبيعية للقرية، فيقول واصفا حياة الراعي (فمن دار ابن القاضي إلى الجبال المطوقة للقرية، حيث ترعى أغنامها، مساحة ضيقة محدودة الآفاق، يد العمران لم تضع فيها عمودا لكهرباء، و لا جسرا لعابر. حتى الأصوات التي يعرفها فضاء القرية قليلة ومعروفة، فهناك أولا صوت الريح الجنوبية... وهو صوت يشبه الغضب، لكن ما يوحي به ليس الثورة بل الحزن العزلة الخوف الموت... وهناك صوت الرعد وهو صوت يشبه العنف والقوة والجبروت... و الرعد في سماء هذه القرية تكثر زياراته في أوقات الحصاد حيث تقترب آمال الناس من الوصول إلى تحقيقها، فيقضي عليها... وهناك أصوات الحيوانات الداجنة...هناك أصوات بعض الطيور التي لم يدفعها فقر القرية للجلاء عنها وفاء لموطنها... ثم هناك أصوات الذئاب...) (41) في هذا المقطع الوصفي نلاحظ بأن الراوي يسعى لتوظيف العناصر المقدمة، كمنطلقات لبناء تصور ذهني عن المعانات و البئس، وببساطة الحياء في مجال هذا الوسط الطبيعي الذي توجد فيه القرية فالراوي عبر تعليقاته وتأويلاته، يوجد طبيعة القراءة النصية لإنتاج المعاني والدلالات وفق منظوره الخاص فيتحول صوت الريح الجنوبية إلى رمز، يتجاوز النظام الحقيقي للعلاقة التي يقيمها نظام اللغة بين الدال والمدلول، الذي تصبح بموجبه ريح الجنوب إشارة طبيعية معروفة ومحددة، وهو المعنى الأول الذي يتحول بدوره إلى دال ممكن، يوظف بلاغيا إنتاج معنى ثان ويقوم الراوي بإعطاء البعد الدلالي الخاص بالريح، ليصبح رمزا للحزنو والعزلة والقلق والخوف فيتحقق بذلك المستوى الذهني، الذي يحيل على الشحنة الايديولوجية المبثوثة وفي هذا السياق يحدد "رولان بارت" الايديولوجية (كشكل لمدلولات المعنى الثاني، بينما تكون البلاغة هي شكل ما يعبر عنه المعنى الثاني أي دوال هذا المعنى) (42).
و هذا البعد الترميزي المصاحب لريح الجنوب، يحولها إلى كلمة مفتاحية تستند إلى التكرار في الرواية، لتعيد إنتاج نفس الصورة الرمزية.
و نفس الملاحظة يمكننا أن نتناول من خلال انتقال صوت الرعد الذي يشتغل كإشارة تدل على إمكانية سقوط المطر، من مستوى الدلالة الطبيعية التي تتراجع فيها العلاقة الاعتباطية بين الدال و مدلوله، إلى صورة تؤسس لبنية ذهنية تنتقل إلى مستوى الرمز، الذي يشير إلى حقيقة الحياة الفقيرة بالقرية، و خضوعها المطلق للرعد الذي يقضي على محاصيلها، و يبدد آماله او أحلامها. و إذا انتقلنا إلى مستوى آخر من الوصف، نجد أن صورة طبيعة القرية التي يقدمها الراوي من منظور شخصيات الرواية، تقع في سياق نفس الحقل الدلالي الذي يؤكد على الفراغ، و تعطل الحياة و انعدام مقوماتها. تقول العجوز رحمة و هي تقارن بين مدينة الجزائر و القرية: ( هل قريتنا و مدينة الجزائر متساويتان في كل شيء هناك النور و الدور و السيارات و الجنات... و هنا يا بنيتي إن خرجت ماذا ترين؟ هنا لا شيء أكواخ و جبال و ليل و نهار.) (43) فالمقابلة بين الفضاءين تحمل في أساسها جانبا من الوصف الضمني للقرية، التي يمكن اختصار وصف طبيعتها إلى محورين الأول يشغله المكان الانساني، و الذي لا تعدو أن تكون بيوته إلا لتحمل صفة الأكواخ، بكل ما لهاته الصفة من طاقة رمزية، دالة على مستوى اجتماعي متدني، و ما يستعيده من معانات و بؤس و شظف في العيش. أما محور المكان الطبيعي للقرية، فإنه جاء كإستناد للصفة الأولى المنبثقة عنه، فالجبال كحيز و عنصر طبيعي مميز للقرية، تقف مانعا في وجه أي استغلال للأرض، و توفير الحاجيات الغذائية للسكان، فهي مصدر فقر و حرمان، أما من منظور نفيسة فإن طبيعة القرية تتخذ صفات: الخراب، الصحراء، المنفى، القرية الخيالية، الصمت.(44) و إذا كان هذا الوصف نابعا من خلفية نفسية للشخصية، في علاقتها بالفضاء، فإن الراوي يوظف المقابلة بين الأفضية للزيادة في إقناع المتلقي بحقيقة الوصف المقدم. و تصبح صورة العدمية التي تطبع القرية، أمرا مسلما به، فنفيسة حين تقدم وصفها للقرية إنما تنطلق من تجربتها المعيشة، و الفترة التي قضتها بمدينة الجزائر للدراسة.
كما يثير الوصف بالصيغة السابقة، تمثيلا بصريا يستحضره المتلقي في تفاصيله و خصوصياته، مرتكزا على ما تستدعيه العلامة اللغوية من صور ذهنية، تحدد مظاهر صفات الخراب، و الصحراء، و المنفى ليتحول الوصف باتجاه قطب دلالي واحد، يدل على الفناء و الموت (45) كخاصية مميزة لطبيعة القرية. إن شعرية الوصف تكمن أساسا، في إمكانية تحويل العلامة اللغوية، إلى شكل تعبيري رمزي، يخترق مجال الدلالة، ليستخدم (الصفة) واسطة للتعبير عن فكرة. فالراوي حينما يقدم المنظورات الوصفية للشخصيات، لا يهدف إلى تحديد المظهر الطوبوغرافي للمجال الموصوف، بقدر ما يسعى لخلق فعل إدراكي محسوس، ينمي فكرة القناعة بضرورة التغيير. إنه يوظف أشكالا للتعبير الرمزي كمعادلات أيقونية للفكرة (46) مستعينا بأسلوب الانتقاء، الذي ينسجم إلى حد بعيد مع التصور و الدلالة التي تعضد تجسيدها في ذهن المتلقي. و يمكننا إدراك هذا المسعى، بتفكيك الايحاءات التي يثيرها وصف القرية، عندما تهب عليها ريح الجنوب و حالتها حين تهب ريح الشمال ففي الحالة الأولى فإن سمات الوصف تشير إلى الريح، الغبار، الحرارة التي تذيب الجلود، الدوي العنيف، الآفاق المعتمة بغيوم الحر، زوال البرودة العليلة، اللجة الدكناء من الغبار و التراب، الاختناق في النفوس، فحيح و صفير الريح، الهلع في النفوس، الرعب في القلوب، الفزع. أما إذا انتقلنا إلى وصف المظهر، الذي تشيعه ريح الشمال، فإنه يتميز ب: الاعتدال، الهدوء، الصفاء، النور، إزالة الضيق و الحيرة، الغروب الجميل، الأشعة الذهبية، الجو الرائق، فكلا
الوضعين يحمل صورة دالة، على حالة القرية منظورا إليها من منطلق الأثر الظاهر للعيان. و تبعا لتركيز الراوي على صفة دون أخرى، فهو يقدم وصفة للريح و آثارها أحد عشرة مرة في الرواية، ضمن مقاطع قصيرة، مقدمة في مجملها في سياقات مباشرة صريحة.(47) يشير تكرارها إلى الفكرة التي تحدثنا عنها سابقا، و هي تأكيد هيمنة الطبيعة بمفهومها الصراعي الذي توجهه العلاقة مع الانسان، و المتميزة بالانفصال و القطيعة، و يستقيم هذا الطرح إذا نظرنا إلى المقاطع الوصفية، التي تبين علاقة التواصل و الانسجام بين الطبيعة و الانسان فنجدها تنحو منحى إيجابيا يثمن حضور ريح الشمال، كدافع للأمل و التعلق بالحياة. غير أن خفوت و تقلص الوصف، إلى أربعة مقاطع قصيرة، يدفع المتلقي إلى تشكيل صورة واحدة عن طبيعة القرية، و يكون فيها الجو الرائق هو الاستثناء.
و إذا حاولنا دفع التحليل إلى مستوى أعلى، تشحن فيه العناصر الطبيعية، بطاقة دلالية رمزية فإننا سنصل إلى نتيجة مؤداها، أن التقابل الناجز على مستوى النص، بين ريح الشمال و ريح الجنوب، و مدى التأثير المحقق في طبيعة القرية و سكانها، و الطابع الاجتماعي و الثقافي السائد. إنما يعكس هذا التقابل الصراع الاجتماعي، الذي تتواجه فيه رؤيتان متناقضتان تمثل الأولى واقعا سائدا مهيمنا يجسد القاعدة المتداولة بكل نقائصها و سلبياتها. في حين تمثل الثانية تصورا ممكنا يطفح بالإيجابية و التغيير الذي يعيد التوازن للإنسان و الطبيعة.
إن تركيز الراوي و إصراره، على تقديم صيغ وصفية منتقاة، دفع بالصورة الموظفة للانزياح و التحول، إلى معنى بلاغي ذي أبعاد فلسفية. فالقارئ يدفع لتصور الأشياء، دون أن يرفع بصره عن سياق الخطاب، الذي تعمل الصورة على تأسيسه، و دعمه، و تعيين خطه الفكري، مستعينة بالأسلوب البلاغي الاستعماري، الذي يعمل على تقاطع الشيء المذكور و الفكرة المتميزة النابعة منه.(48)
1-2- وصف الفضاء الانساني:
أ) البيوت: يشمل الفضاء الإنساني الذي نتناوله في هذا القسم، فضاء الإقامة و الانتقال. الذي يتصل بصورة مباشرة بحركة الانسان، و سكونه فيه، و ما ينتجه من ايحاءات و قيم، نابضة بالدلالات المتجلية في الوصف، الذي يشكل نموذج الحياة التي تعيشها الشخصيات. و فضاء الإقامة الأساسي الذي تقدمه رواية الجنوب، فضاء إقامة اختياري، إلا أنه أحيانا يتخذ الطابع القسري، و الاجباري، في منظور الشخصيات المقيمة فيه. فيتحول إلى (مكان دال على موقفها، و على حالتها الشعورية، و كذا وجهة نظرها، و يرمز إلى وعيها، إلى إرادتها و رغبتها، و حلمها و رؤيتها إلى باقي الشخصيات، و الأشياء في الزمان و المكان) (49)
و قد خضع وصف فضاء الإقامة في الرواية، إلى انتقائية منظور الراوي، الذي وجه الوصف لخدمة تصوره و نظرته الخاصة. الهادفة إلى إقامة و تشييد الفكرة، انطلاقا من وصف المكان. ليثمن الدلالة الاجتماعية لفضاء الإقامة الذي قدم في صورة تصنيفية، أكثر منها تحليلية استقصائية. فنحن لا نجد وصفا دقيقا، لكل البيوت التي تجري فيها الأحداث، أو تقيم فيها الشخصيات، و إنما اختار الراوي نموذجين متباينين هما: غرفة نفيسة، و بيت العجوز رحمة - التي توسع وصفها أكثر من الأولى – لتحديد الدلالة الاجتماعية لهما. أما بقية الأماكن فإن الراوي، اكتفى بذكر مظهرها الخارجي للدلالة عليها. فحين يتحدث عن دار ابن القاضي، بذكرها مرة واحدة بأنها ذات غرف كثيرة و قرميد أحمر. أما بيت الراعي رابح، فإنه يصفها بالكوخ السود و نفس الشيء بالنسبة لبيت العجوز رحمة، و قد اكتفى الراوي بهذه الإشارات الهيكلية الخارجية، الدالة على المنزلة الاجتماعية، مختصرا بذلك الطريق في إقامة الفكرة التي يولدها التحليل المؤلفاتي comosentielle analyse (50) لتصنيف المدلولات. إن وصف معاني لفظتي: دار، و كوخ، يفترض استحضار كل السمات المعنوية المتميزة، و المرتبطة بكل لفظة، و التي تشكل المؤلفات الدلالية لكل من اللفظتين السابقتين، اللتين وظفتا كرمز للتباين و الاختلاف الاجتماعي و الفكري. فالقارئ يمتلك حرية، في تصور مكونات كلى الفضاءين، و محتوياتهما. إلا أنه مقيد بما يرمز إليه الكوخ الأسود، أو الدار كثيرة الغرف ذات القرميد الأحمر، (فالرموز هي تلك التي لا يكتفي فيها بمجرد الدلالة، بحيث يكون هناك الطرفان فقط: العلامة الدالة من جهة، و طرف الشيء المدلول عليه من جهة أخرى، بل يضاف إلى مجرد الدلالة، شحنة عاطفية من نوع معين يراد بها أن تنزو في نفس المتلقي) (51). و العنصر المولد ( للشحنة العاطفية)، هو الصور الذهنية المنبثقة عن الصور و الصفات، التي توحى بها لفظة كوخ، أو دار متعددة الغرف ذات قرميد أحمر، و التي يمكن أن نقدم نموذجا منها ضمن الجدول الآتي:
الدار ذات القرميد |
الكوخ |
|
مكان إقامة |
مكان الإقامة |
الوظيفة |
موقعه متسع تحيطه البساتين متسع مضاء عرف متعددة ه نوافذ صحى مركبة غير محلى مؤثث... |
يقع في أعلى ربوة ضيق مظلم غرفة واحدة عديم التهوية غير صحى مواد بناء بسيطة طارع بنائه محلى غير مؤثث... |
الصفات |
إن الجدول السابق الذي يعتمد التحليل المؤلفاتي، يقودنا إلى تفسير اكتفاء الراوي بالإشارة الخارجية، دون اعتماد الوصف الاستقصائي تحديد الدلالة الاجتماعية، و من ثم القيمة الفكرية و النمذجة الإيديولوجية التي يفترض أن يمتلكها كل فضاء. فاختلاف مكان إقامة رابح الراعي عن مكان إقامة ابن القاضي، سيؤدي حتما وفق السياق العام لنص رواية ريح الجنوب، إلى تصادم و قطيعة ايديولوجية مؤكدة يتوقعها القارئ، و يفترضها انطلاقا من اقتناع مبدئي مفاده أن المكان يتضمن دلالته الخاصة و تماسكه الإيديولوجي معال (52) و إذا كان الراوي قد وظف المرجعية الاجتماعية للاستغناء عن استقصاء فضاء الكوخ و الدار المشيدة فإنه يلجأ إلى ولوج غرفة نفيسة و بيت العجوز رحمة لخصوصيتهما، و ارتباطهما بالتدليل على نفسيات الشخصيات و رؤيتهما الفكرية و وضعيتها الاجتماعية، و لذلك فهو حين يصف غرفة نفيسة يركز على الأبعاد الهندسية ليبين الحالة النفسية التي تعانيها و أن رغبتها في الاستقلال برأيها، و عدم الذوبان في المحيط العائلي و سلطة ضيق ن مجال حركتها و حجمه: ( الحجرة ضيقة طولها ثلاثة أمتار و عرضها كذلك بها كوخ خارجية مطلة على جزء من البستان، ارتفاعها سبعون سنتم و عرضها خمسون سنتم، و في هذه المساحة السرير القديم الذي تنام عليه نفيسة و خزانة أشد قدما منه حيث حقيبتها و أثوابها و كتبها. و قرب الطوة منضدة و مقعد خشبي) (53) إن هذا المقطع الوصفي غير مقصود لذاته و دون أبعاد خارجة عن التعيين و القياس الذي يحدده الراوي. فهو تشكيل بصري يستعير اللغة لتقديم صورة الغرفة، و إحساس ساكنها، عبر التركيز على المظهر الحسي( الضيق، باستعمال الصفة و الوصف الهندسي و هو ما ينقل الصورة المعروضة من مستوى المكان النفسي(54) كما أن عدم استقلالية المقطع السابق في إنتاج المعنى بذاته و ارتباطه
بالمعنى المتضمن في السرد السابق و اللاحق له يشير إلى قصدية الراوي و انتقائيته للوصف الذي يهدف من خلاله إلى بناء الفكرة التي يسعى لطرحها و التي لا ترتبط بالدلالة الاجتماعية بل بالأبعاد الفكرية و النفسية فالراوي يستبق المقطع الوصفي بعبارة تغني القارئ عن الاستفادة من التفاصيل و هي الغرفة الضيقة غير أنه بعد نهاية المقطع يقدم شروحا تلغي كل دلالة تتصل بالوضعية الاجتماعية كالفقر و الحاجة يوحي بها الوصف ليوجه القارئ نحو قراءة رمزية لوصف الغرفة تحيل على رؤية فكرية لنفيسة فيقول ( ما يدفع نفيسة للنوم بهذه الحجرة كلما رجعت من الجزائر شيآن أولا الكوة الخارجية التي تفسح للنظر مشهدا خلفيا جميلا نهايته القصوى جبال جرجراء (هكذا) ثانيا هي لا تستطيع النوم مع أمها و أخيها في الفراش العائلي كما هي العادة لدى سكان القرية فهي تفضل هذه الحجرة الضيقة على الذوبان النهائي في الأسرة)(55) فالانتقال الناجز من المعنى إلى الوصف ثم العودة إلى المعنى، يفقد الوصف حريته و يجعله خاضعا للسياق المعروض من قبل الراوي الذي وظفه في الحالة السابقة لخدمة رؤيته.(56) و للتأكيد على سعي الشخصية للحرية و الاختبار قصد التغيير. و إذا انتقلنا إلى دراسة وظيفة الوصف و طبيعته، صمن فصاء إنساني آخر، فإننا نجد الراوي يحافظ على نفس المنهجية، عندما يصف لنا بيت العجوز رحمة. مع تركيز أكبر على عناصر دون غيرها ليوجه الدلالة نحو أفق جديد يختلف كلية عن الغرض الذي حدده في المقطع السابق. فإذا كان الضيق اختيارا من أجل التغيير في الحالة الأولى، فإن صفات: قديم، مظلم، تنهض كتصنيفات دلالية، تقيم علاقاتها ضمن الخطاب و الوصفي، لتعيين الصورة الاجتماعية الدالة على الفقر و الحرمان و المعاناة. و قد عمد الراوي لتقديم فضاء البيت في زمنيين مختلفين بصورة نستنتج منها أن الصورة الاجتماعية لم تتغير و أن الفضاء الموصوف يمثل ذاكرة حية، كما أن لجوءه إلى الوصف الاستقصائي لمحتويات البيت يهدف إلى تحفيز الإيهام بالواقع لدى المتلقي لتثبيت القيم التي تحملها الشخصية المقيمة بالمكان. و ينتقل المكان من مستوى الارتباط النفسي لقاطنه إلى الدلالة الاجتماعية و إذا حاولنا البحث في عناصر الوصف التي تحيل على هذه الدلالة نجدها تقدم كالآتي: (57)
الشخصية |
اللباس |
الأشياء |
وصف البيت |
ذراعها عاريان تشبهان عودين واهبين لم يبقى فيها إلا الجلد يضم العظام وجه العجوز داكن |
عباءة زرقاء أخذ لونها يحول حبل من الصوف إبزيم من الفضة رأسها مغطى بعدد من المناديل عمة دكناء رأسها مغطى بمناديل خشنة من قماش مربوطة بعصابة من شاش صر لونها الأبيض رماديا على ظهرها وضعت حائك من صوف العباءة الوحيدة التي تلبسها لألوان من شدة القدم |
أواني فخارية حصيرة حلفاء غطاء صوفي خشن قربة ماء مزود دقيق قدر صغير صندوق أسود جرة سمن صغيرة ملعقة خشب حقة فلفل قصعة قديمة وسادة محشوة بالرقع القانية و الخرق البالية قنديل مصنوع من علب المصبرات |
باب أسود غليظ قاعة بيت زواياها مظلمة بيت العجوز مظلم الباب ألواح من خشب قديم تمسكه مسامير خشنة صدئة من القدم بين اللوحة و الأخرى انفراجات تسمح لدخول اليد فضلا عن الريح الموقد حفرة في الأرض سماء مظلم |
إن قراءة الجدول السابق تقودنا للوصول بالتحليل للقول بأن وصف البيت (يكتسب إلى حد بعيد مدلولا أقرب يكون إلى المدلول الاجتماعي منه إلى المدلول النفسي) (58) فالبيت خال من العناصر الضرورية للحياة و كل ما يحتويه يمتاز بالبساطة و القدم و قد لجأ الراوي إلى استبعاد وصف بيت العجوز رحمة ضمن مقطع وصفي متسلسل و مستقل عن المسار السردي حتى يتمكن من الاستفادة من العنصر الزمني، في تثبيت المظهر الاجتماعي و ضبطه للمعنى. كما يستفيد من الوصف في توسيع القصة، فمن طريق تذكر بيت العجوز رحمة و استحضار صورها في الماضي أثناء فترة الاحتلال، نتعرف على جزء من حياة مالك التي قضاها في بيت العجوز، بسبب إصابته بجروح أثناء قنبلة القرية (59). و في سياق الاستحضار يقدم وصفا للبيت يتطابق بشكل شبه كلي مع حقيقتها الحاضرة في مرحلة الاستقلال و هو ما يجعل الوصف يلح على معنى منسجم و دلالة واحدة كما أن وصف الأواني الفخارية و استنطاق خبايا رسومها، يجعلنا نلم بقسم من تاريخ القرية، و إلقاء الضوء على حقيقة بعض الشخصيات في الرواية، كأم الراعي مثلا التي نتعرف على سبب إصابتها بالبكم انطلاقا من الشروح التي تقدمها العجوز رحمة ل رابح الراعي حول بعض الرسومات المنجزة على الأواني الفخارية (60). و هكذا نجد بأن وصف البيت لم يتخذ طابع الوصف المدرسي الذي يتابع تكديس الأشياء و تصنيفها بغرض تزييني (61) بل ثمن مكونات البيت لتتشبع بوظائف بنائية في سياق القص، تفتح آفاق التأويل و الرمز و الدلالة.
2- الأشياء و دلالتها في الرواية:
يعيش الانسان بين عدد هائل من الوسائل، التي يوظفها كمعين لتلبية حاجياته المختلفة و يستخدمها أساسا في التعامل مع بيئته و وسطه الحيوي و لذلك فإن حضورها يكتسي أهمية بالغة بالنسبة للوجود الإنساني و هذه الوسائط هي ما نسميه ب: الأشياء، التي لازمت الإنسان منذ وجوده ملأت حياته فارتبطت بدرجة تطوره بمستواه الاجتماعي و الثقافي و عبرت عن رؤيته للكون. و إذا استقرأنا التاريخ البشري نقف عند حقيقة ثابتة، مؤداها أن الإنسان يصنع و يقتني الأشياء التي ترافق بيئته و بذلك أصبحت عنصرا دالا عليه، و مؤشرا على نمط عيشه و سلوكه الحضاري. فباختلاف الأشياء بين البساطة و التعقيد، أو بين الوفرة و الندرة، في موادها و أشكالها، و أحجامها، و ألوانها... تتميز حقيقة الإنسان في علاقته بمحيطه، و ينكشف الفرق بين الإنسان البدائي و الإنسان التكنولوجي أو بين أفراد طبقات اجتماعية داخل المجتمع الواحد، و عبر هذين النموذجين تصبح الأشياء تعبيرا عن المستوى الفكري و تحديدا للمنزلة الاجتماعية للإنسان.
و إذا كانت الأشياء وفق المنظور السابق تمثل مظهرا إنسانيا فإن حضورها في الأعمال الأدبية التخيلية يصبح أمرا ضروريا في نفس منزلة المكونات الأساسية للنص، فكتابة الرواية مثلا (لا تقوم على الجمع بين أعمال بشرية و حسب بل كذلك على الجمع بين أشياء مرتبطة جميعها بأشخاص ارتباطا قريبا أو بعيدا) (62) و هذا الارتباط بشكل إحالة فكرية إيديولوجية، و اجتماعية على الشخصية التي ترتبط بالسيء. فتنهض القيمة الدلالية أو الرمزية بناء على الصلة القائمة فيغتني النص بقيم جديدة مولدة من المعنى المجازي الذي تؤسس له الأشياء.
و إذا سعينا لتطبيق المفاهيم السابقة على رواية ريح الجنوب و ربطها بالسياق الوصفي للأشياء في الرواية، استعبرت لدلالة على وضع اجتماعي و رؤية فكرية إيديولوجية يبثها الراوي لكسب تأييد القارئ المتلقي فالراوي في رواية ريح الجنوب ينتقي الأشياء التي يقدمها للقارئ و يقدمها في شكل ينسجم مع طبيعة البناء الروائي في مجمله ليرسم صورة للبيئة الاجتماعية و الفضاء الإنساني في القرية فركز اختياره على الأثاث و الأواني و اللباس، كمؤشرات تفيد في تعيين الدلالة الاجتماعية النابعة من منظور ثقافي خاص يقيم أحكامه على الأشياء بناء على مواصفات ثابتة و إذا قمنا بجرد الأشياء في الرواية فإننا نحصل على الجدول التالي:
مقهى القرية |
نساء القرية |
الكوخ الراعي الأم |
بيت العجوز رحمة |
دار ابن القاضي نفسه |
التعيين |
مقعد طويل من خشب أحصر خلفاء مفروشة صندوق صبره القدم أسفح اللون طاولة سوداء عليها الكؤوس |
|
الأثاث لا شيء |
حصير حلفاء صندوق أسود لحفظ الأشياء القديمة قنديل مصنوع من علب المصبرات غطاء صوف خشن وسادة محشوة بالرقع الفانية و الخرق البالية قصعة قديمة قربة ماء ملعقة خشب |
سرير قديم خزانة بها الأثواب و الكتب منضدة مقعد خشبي صندوق من خشب أزرق اللون |
الأثاث |
مجموعة من المغالي الصغيرة كؤوس قديمة فناجين- أكواب قصديريةلا سطلان كبيران سود |
|
مقلاة صنعها رابح من علب المصبرات فنجان من فخار قديم |
أواني فخارية |
طبق نحاسي |
الأواني |
|
أثواب عادية قديمة بالية اذرعهن و ارجلهن لا تحمل أساور و لا خلاخل |
أم الرعي فستان أزرق اللون تزينه أزهار صغيرة تشبه أزهار اللوز يوم أن كان جديدا حميلة من صوف محكمة بعقد من القطن الملون كانت وردية اللون يوم أن كانت جديدة منديل أحمر يوم أن كان جديدا أسمال تبد للوهلة الأولى عديمة اللون رابح أسمال و رقع بالية |
عباءة زرقاء لونها يحول جل من الصوف مناديل خشنة من القماش عمة كناء عصابة شاش صار لونها الأبيض رماديا حاشك من الصوف العباءة الوحيدة الألوان لها من شدة القدم |
أم نفيسة أثواب مصوغات نفيسة فستان حريري ازرق اللون ذو أزهار اللوزية الزاهرة حزام أبيض لامع جميل |
اللباس |
إن القراءة المتأنية للجدول السابق تفيدنا بجملة من الاستنتاجات المتحددة على مستوى الدلالة التي ينتجها تصنيف الأشياء في الرواية، و الذي ينحو بإتجاه الإنتقال من نظام المعنى التعييني إلى الدلالة القائمة خلف مجموعة الإشارات التي تنجزها محاور التصنيف المحددة بالأثاث الأواني و اللباس.
و إذا انطلقنا من المشجر الذي يقترحه فرانسوا راستييه rastier fronçois لتحديد نظام المعنى المتعلق بوصف الأشياء (63)، فإن الأشياء في رواية ريح الجنوب يتم التركيز فيها أساسا على عناصر: اللون، الحجم، القدم، بالإضافة إلى مادة الصنع، و حتى لا نخوض في مجال الدراسة التصنيفية الدقيقة، فإننا نلاحظ بأن العناصر السابقة يتم توظيفها للدلالة على الوضعية الاجتماعية، وفق قطبين دلاليين: أحدهما إيجابي و الثاني سلبي.
ففيما يتعلق بعائلة ابن القاضي فإن الأشياء تتحدد بأنها ذا ألوان ثابتة فالصندوق أخضر اللون، و الفستان الحريري أزرق اللون، و الطبق نحاسي و بالرغم من بساطة هذه الأشياء، فإنها في ريح الجنوب تشكل عنصر تمايز إذا ما قورنت بنفس الأشياء عند سكان القرية أو العجوز رحمة، حيث الصندوق أسود اللون و الأثواب عديمة اللون أو سوداء و رمادية، و الأواني مصنوعة من علب المتصبرات و التركيز على عنصر اللون، يشير إلى طبيعة الأشياء، و وضعها المتحصل بين القيمة الإيجابية و السلبية، فكل ما له لون يحمل قيمة الحياة و الوجود الفعلي، و كل ما حال لونه يتصل بقيمة التدهور و الموت و الفقر و هذا التصنيف ينسجم مع الطابع العام لدلالة الفضاء في الرواية الذي يسعى لتحديد الوضع الاجتماعي، و تأطير خلفية الصورة المنتجة للفكرة في النص.
الهوامش:
(1) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي: ص 30
(2) ريح الجنوب: ص91
(3) بول كلافال: المكان و السلطة: ترجمة عبد الأمير إبراهيم شمس الدين المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع بيروت ط1 1990 ص13
(4) ريح الجنوب ص 193
(5) ريح الجنوب ص 8-10
(6) نفسه ص86
(7) نفسه ص 13-216
(8) نفسه :104 p romans du niveru -boumeuf.R
(9)
(10) حسن لحلاوب: بنية الشكل الروائي ص 93
(11) ريح الجنوب ص 116
(12)حميد لحميداني بنية النص السردي ص 71
(13) ريح الجنوب ص 66
(14) نفسه ص 101
(15) ريح الجنوب ص 75
(16) نفسه ص 190
(17) ريح الجنوب ص 266.239.238.197.197.192.190.187.85.7.7
(18) ريح الجنوب ص7
(19) ريح الجنوب ص 266
(20) ريح الجنوب ص 192.191.190.187
(21) غاستون باشلار: جماليات المكان ص 67
(22) المرجع نفسه ص 66
(23) ريح الجنوب ص 7
(24) محمد الماكري: الشكل و الخطاب ص 285
(25) محمد سويوتي النقد البنيوي و النص الروائي إفريقيا الشرق الدار البيضاء ط1 1991 ص 78
(26) نفسه ص 43 و أنظر كذلك المعنى في الصفحة 26
(27) جان مالينو: سيمياء الموسيقي، الفكر العربي المعاصر عدد 18/19 مركز الإنماء القومي ببيروت 1982 ص 164
(28) ريح الجنوب ص 105
(29) عبد الحميد بورايو منطق السرد ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر 1994 ص 105
(30) ريح الجنوب ص 42
(31) ياسين النصير الرواية و المكان دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ص 45
(32) ريح الجنوب ص 221.161.143.75.69
(33) ريح الجنوب ص 24
(34) نفسه ص 21-23
(35) ريح الجنوب ص 56
G-GENETTE FIGURES 2 ED SEUIL PARIS 1969 PAGE 580 (36)
(37) سيزا قاسم بناء الرواية ص 112
(38) ميشال بوتور: بحوث في الرواية الجديدة ص 55
(39) Uneisenzweig lespace imaginaire du texte et lideologie societrique ed fermand Nathan paris 1979 page 186
(40) ريح الجنوب ص 241.103.101.87.38.20.7
(41) نفسه ص 101
(42) ستيفن نور دايل لاند: قراءة لروبارت مغامرة الدال ترجمة أحمد المديني الفكر العربي المعاصر ص 92
(43) ريح الجنوب ص 38
(44) ريح الجنوب ص 93.38.10
(45) محمد مصايف الرواية العربية الجزائرية الحديثة بين الواقعية و الإلتزام ص 182
(46) فاضل ثامر اللغة الثانية المركز الثقافي العربي بيروت ط1 1994 ص 33
(47) ريح الجنوب ص 266.238.191.187.94.85.75.74.26.7
(48)jean Pierre segium Diderot le discours et les choses: universite de lille 3 1981 page 132
(49) محمد سريتي: النقد البنيوي و النص الروائي ص 98
(50) موريس أبو ناضر: مدخل إلى علم الدلالة الألسني مجلة الفكر العربي المعاصر عدد 18/19 ص 35
(51) محمد زكي العشاوي فلسفة الجمال في الفكر العربي المعاصر عدد 18/19 ص 35
(52) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي ص 90
(53) ريح الجنوب ص 8
(54) عز الدين إسماعيل التفسير النفسي للأدب مكتبة غريب القاهرة ط 4 ص 59
(55) ريح الجنوب ص 9
jean Ricardou problemes de nouveau roman page 92(56)
(57) ريح الجنوب ص 156.148.14.138.120
(58) ميزا قاسم: بناء الرواية ص 87
(59) ريح الجنوب ص 146
(60) نفسه ص 13.0129.123
(61) ر.م البيريس: تاريخ الرواية الحديثة، منشورات عريدات، بيروت ط2 1982 ص 53
(62) ر.م البيريس: تاريخ الرواية الحديثة ص 59
(63)Fronçois Rastier essai de semiotique discursive ed MAE 1973 p 14