دلالات العنوان في رواية "غدا يوم جديد" لعبد الحميد بن هدوقة

بقلم الاستاذ يوسف الاطرش - جامعة سطيف -
إن القراءة الاولى للعنوان "غدا يوم جديد" تحيل على مسألة بديهية، والى فهم عادي جدا، لأن الغد يكون في العادة يوما جديدا. لكن القراءة المتفحصة، الواعية، التي تنطلق من خفية معرفية تبعد هذا الفهم الساذج، وتحاول أن تفسر عبارة العنوان تفسيرا ايحائيا بعيدا كل البعد عن المعنى الذي ينتجه هذا التركيب اللفظي.
فالعنوان هو أول ما يصادفه المتلقي في أية عملية قرائية، يتلقاه بوصفه "بنية مستقلة تشتغل دلاليا في فضاء خاص بها" (1). وفي الوقت نفسه يجب أن يدرك هذا القارئ بأن بنية العنوان هذه تتجانس وتتشابك مع بنية النص الدلالية. وهو – أي العنوان – بمثابة محفز قوي لفعل القراءة. والعادة أننا نكتشف بعد قراءة الاثر كله نوعا من التكافؤ السيميائي بين العنوان والمتن (2). لأن العنوان يوضح عادة بعد الانتهاء من كتابة النص. ويكتشف القارئ هذا التكافؤ عندما يقلب العملية؛ فيبدأ بقراءة العنوان – بالمفهوم الاصطلاحي للفظة قراءة – أي أن يعيد انتاج العنوان الذي يعد خلاصة للعلاقة التي ربطت النص بالكاتب؛ نفسيا واجتماعيا وفكريا وجماليا. وبالتالي فإن العنوان "صلة قائمة بين مقاصد المرسل وتجلياتها الدلالية في العمل" (3).
"غدا يوم جديد" عنوان يوحي الى عدة احتمالات؛ فغدا تعني تعدد الازمنة، والغد يتضمن الامس واليوم/الحاضر والمستقبل بالضرورة، مما يوحي بأن الكاتب يتبنى رؤية يدسوسير – تاريخية لواقع تتصارع فيه القوى الاجتماعية، وتتصارع فيه المصالح على عدة مستويات، فهناك، إذن، غد اليوم الحاضر، وهنا غد الامس الماضي.
أما لفظة "يوم" فإنها في العادة ترمز الى التفاؤل، والى نوع من الاستقرار، لأنها تتضمن الامتداد الزمني، كلفظة شهر وسنة و.. وقد تنوب عن فترة أطول إذا قرأناها رمزيا-استعاريا. مما يجعلنا نقول بأنها ترمز الى مرحلة أفضل من المرحلة الراهنة – الماضي - .
وإذا نظرنا الى نص العنوان أفقيا استنتجنا جملة من الفرضيات استدعيت توظيف هذه العبارة/الجملة، منها على وجه الخصوص التركيز على عناصر الحاضر؛ حاضر الكاتب النفسي والاجتماعي والفكري. وبالتالي عناصر إفرازات الماضي تستلزم غدا مشرقا/الاشراق. هذا الماضي الذي هيأ النفوس الى استقبال زمن زاهر؛ أي الانتقال من حالة سيئة الى حالى أفضل. وعندما نتعمق أكثر، ونعيد قراءة العنوان، ونتبين الصيغة النكرة فإن ذلك يفتح مجالات التداعي الدلالي، وأمكننا القول بأن العبارة بهذه الصيغة توحي الى الغموض والإبهام. والتاريخ الانساني أثبت أن مراحل التحول تكون دائما مفتوحة على احتمالات عديدة.
أما لفظة جديدة فإنها في العادة تفسر على أنها صفة لحالة حاضرة، أو حالة متوقعة، والجديد يحمل – في العادة – الخير؛ على الاقل فأل الخير، ومن عادة الانسان أن يتفاءل بالجديد.
وبناء على هذه التفسيرات لمفردات العنوان أقول: إن ارتباط هذه الالفاظ الثلاثة ببعضها بنيويا "غدا يوم جديد" يبعث على الاندهاش، إنه عنوان مدهش بالفعل؛ إنه يحيل على زمن معلق (en suspens)، يعكس حالة بسيكوزية (psychose)، أو هيتشكوكية، مزجت الامل والانشراح باليأس والقلق...، وهذه الحالة دليل على انفتاح نص العنوان، بوصفه نصا نوعيا "له بنيته الشكلية وإنتاجيته الدلالية" (4).
وما دام القارئ يدخل الى النص من باب العنوان، وهو يحمل كل هذه الاحتمالات التي استنطقها إثر تفاعل عبارة العنوان بخلفيته المعرفية، فإنه من دون شك سيؤثر ذلك على استنطاق دلالية النص. فتأويل نص العنوان هو مسح قبلي لقصيدية الكاتب. وهذا يجعل العنوان علامة تامة تماثل علامة النص. فالعنوان سمة النص لذا يستلزم عناية خاصة من قبل الكاتب. وقد قيل قديما الكاتب من أجاد المطلع والمقطع.
فبعد القراءة الكاملة للنص يصبح العنوان علامة على دلالة هذا النص. وبالتالي فإنه يتحول في ذهن القارئ، كما هو في ذهن الكاتب، الى خطاب يرسم حدود خطاب النص. وهو جزء من أجزاء عملية التفاعل المتشابكة بين شتى عناصر الاثر الادبي – التي تمتد الى عدد الكلمات الموظفة في العنوان والى الصيغة الفعلية والصيغة الاسمية، والى الالوان التي تزين صفحة العنوان الى غير ذلك من العناصر الـــــتي تـــــشـــــكــــل الــــمحيط النصي (le paratexte).
إن العنوان يقع بين عالمين/فضائين، ويبعث عليهما؛ إنه يفتح على الخارج: الواقع الاجتماعي، التاريخي، أي يحيل على المرجعية السوسيو - تاريخية، كما رأينا في الجدلية القائمة بين الأزمنة: الماضي، الحاضر، المستقبل التي ولدت لفظة "غدا"، الماضي/الثورة الحاضر/الصراع الايديولوجي – الثقافي – البحث عن الهوية. والمستقبل الغامض المفتوح على كل الاحتمالات.
كما يهيئ العنوان ذهنية القارئ للدخول الى عالم النص إنه محفز للقراءة لما يحمله من غموض وإبهام، وسخرية إذا وضعنا خطاب الرواية "غدا يوم جديد" في سياقها الزماني: زمن الكتابة هي الجدة/الجديد؟ بل هي عودة "رياح الجنوب" المخزنة، باعثة القلق واليأس!
العنوان "غدا يوم جديد" يحمل خطابا إذا نظرنا اليه من حيث كونه فعلا لغويا – اجتماعيا يستدعي بعدا بسيكو – ثقافيا..يردده الناس في حالات القنوط واليأس "غدوة يرحمها ربي"، مما يجعلنا نقول بأن الكاتب متأصل في ثقافته وروح زمانه. وبهذا المفهوم نقول بأن هذه الصيغة الساخرة ترحاب لاستقبال القارئ.
تحول هذه المفاهيم عبارات العنوان القليلة الى رسالة تنبه معرفة القارئ، وتحرك جهازه المفهومي، واستعداده النفسي للدخول الى عالم النص. ويفتح – أيضا – المجال للتعادي الحر بين المستوى المعرفي للقارئ من جهة،وتفاعله مع خطاب الكاتب من جهة ثانية. إن هذه الحالة تنتج عند قراءة النص قراءة إيحائية (une lecture associative)، يعكس القراءة السياقية/التركيبية (une lecture syntagmatique) التي تدل على الحضور. أما الإيحائية فإنها تحيل على الغياب: فكلمة غدا تستحضر الذاكرة وما تحمله من خلفيات حول ماض يقصده الكاتب: الثورة والكفاح المسلح من أجل تحقيق الكرامة والسعادة، ولفظة "جديد" تستحضر القديم الذي يستدعي استبداله بما هو أفضل، والجديد في السعادة أفضل من القديم... الجديد حبو والقديم لا تفرط فيه" – ولهذا المثل الشعبي قراءة خاصة تتطلب وقفة أيضا..ربما في دراسة أوسع.
فالعنوان، إذن، واجهة الاثر الادبي "يعمل على خلق علاقة سياقية، أما التلقي فإنه يعتمد أساسا على تحريك العلاقات الارتباطية" أي أن القارئ بمجرد استقباله عنوان يتلقاه عموديا بعد قراءته أفقيا، مما يجعله لا يتوقف على توليد الدلالات "وكل مكتوب هو موضوع تأويل بامتياز" كما قال جادامير. وإذا فتحنا هذا المجال فإننا بالضرورة نستحضر جميع عناوين عبد الحميد بن هدوقة بدءا ب "ريح الحنوب" – وريح الجنوب عادة ريح غير مرغوب فيها..لأنها تعني الجفاف الذي يولد اليأس والقنوط وإنها ليست الريح التي ترمز الى التغير والى الثورة كريح "شهيلي" الريح الغربية التي تغير وتزرع الامل. ريح ابن هدوقة تحمل الحزن والعزلة والخوف والموت..!
"نهاية الأمس" توحي الى الحاضر – انتهى الامس إنها نهاية لا تحمل أي أمل، إنها نهاية وانتهى..أضع نقطتي تعجب واستفهام أمام هذا العنوان.
"بان الصبح" – توحي الى الانفراج، الى العودة، أنه التفاؤل..ثم عودة الى الصراع في "الجازية والدراويش" بين الماضي والحاضر، وغموض المستقبل إنه حاضر فيه غرائز الانسان؛ حب التملك، وعشق الذات، والأنانية..وتأتي "غدا يوم جديد" الحالة المفتوحة على كل الاحتمالات؛ إن الماضي عند ابن هدوقة إيجابي رغم مآسيه. أما الحاضر فهو سلبي عنده غير مرضي والمستقبل عنده فيه إبهام، غموض، إنه مفتوح كثيرا نحو المجهول (trop ouvert) العادة أن يكون الماضي سلبيا والمستقبل أكثر إيجابية..لكن فلسفة ابن هدوقة الزمنية ناقضت هذه الفرضية، وهذا ما وضحه خطاب الرواية/البنية الدلالية للنص الروائي الذي ينسجم انسجاما كبيرا مع البنية الدلالية للعنوان "غدا يوم جديد".
أخيرا، أقول إن مشكلة الزمن عند عبد الحميد بن هدوقة هي المحور الاساسي الذي تدور حوله رؤاء الفكرية والإيديولوجية – أي رؤية العالم – الغولدمانية. فالزمن عنده يشكل جزءا من مشكلة الوجود نفسه، كما عند الوجوديين الذين برهنوا على لا معقولية الوجود؛ كما اتضح لنا أيضا ونحن نحلل دلالات العنوان – غدا يوم جديد – بأن كل كلمة من هذه الجملة زمنية. بل إن عناوين رواياته جميعا زمنية..وقد قادني هذا الاكتشاف الى مقولة فلاسفة (5) الزمن بأن الانسان مفطور على حاستي الذاكرة والتوقع إذ أنه ينظم حياته داخل شبكة نسيجها الماضي والحاضر والمستقبل نكره – غدا – متى هذا الموعد..متى !؟