بنية شخصية مسعودة في رواية "غدا يوم جديد" لعبد الحميد بن هدوقة

نبيلة زويش
لا يقوم بناء الشخصية الروائية على جانب واحد، وذلك بسبب تنوع التبئير في النص معنى هذا أن الشخصية الروائية إنما تعرف من زوايا مختلفة، ومن ثم وجب على الروائي الاعتناق بتنسيق كل الجوانب التي تؤلفها والتي يمكن أن تعرف من خلالها.
نبيلة زويش
لا يقوم بناء الشخصية الروائية على جانب واحد، وذلك بسبب تنوع التبئير في النص معنى هذا أن الشخصية الروائية إنما تعرف من زوايا مختلفة، ومن ثم وجب على الروائي الاعتناق بتنسيق كل الجوانب التي تؤلفها والتي يمكن أن تعرف من خلالها.
هذه المكونات الاساسية للشخصية عدها الكثير من النقاد واختلفوا حول بعضها كما اتفقوا على البعض الآخر وكانت النتيجة تنوع الدراسات، فمنها من تعرض لوظائف الشخصية معتبرا إياها الوسيلة الاولى في التعريف بالشخصية، وهناك من اهتم بطبع الشخصية وراح يؤكد على أن الرواية في ذاتها تتوقف على "وصف الطابع ولا شيء آخر، وذكر آخر البطاقات الدلالية التي تلعب دورا كبيرا في التعريف والتمييز بين الشخصيات وركز آخرون وعلى رأسهم "قريماس" على العامل وفصل الترسيمة العاملية التي تسيطر على النص وتحركه وبين اختلاف الأدوار العاملية من شخصية الى أخرى طبقا لاختلاف كفاءات الشخصيات الى غير ذلك من الدراسات الجادة التي أسهمت في تطوير عملية القراءة.
ومما بدا لي أن عبد الحميد بن هدوقة في روايته "غدا يوم جديد" قد بذل مجهودا كبيرا في الاعتناء بشخصيات هذه الرواية وخاصة مسعودة التي يبدو عليها أنها شكلت من منظور واحد صرف بسبب غياب الافعال والأقوال وهيمنة التقويمات ذات المنطلق الواحد، بفعل تواجد السارد تحت تأثير الشخصية (مسعودة) وإن كانت هذه العلاقة مجرد تقنية تضليلية توهم المتلقي بأن السارد أصغر من الشخصية نظرا لتوتر الرؤية من الأمام أو لاعتماده الرؤية بحيث يتساوى مع الممثل مع تغييب شبه كلي الرؤية من خلف، لأن مسعودة تبدو حرة ومهيمنة على الحكاية.
ونتيجة لهذا المنظور سبق وأشرنا الى أنه مجرد تقنية تضليلية نحاول في هذه المداخلة تتبع هندسة هذه الشخصية بالتركيز على جانبين فقط من بنية شخصيتها:
- البطاقة الدلالية.
- مسعودة السارد، مسعودة المسرود له (المتلقي).
1-البطاقة الدلالية:
يمكن لاسم الشخصية أن يكون مفتاحا لقراءة النص تماما كما هو الحال بالنسبة للقراءة نفسها، أضف الى هذا أن دراسة الشخصية هي أولا إمكانية تعيينها وأول ما يعينها ويحددها ويميزها عن بقية الشخصيات اسمها الذي يعتبر أول نقطة يمكن التركيز عليها عند القراءة وأول ما يخزن في ذاكرة المتلقي، ومن منا ينسى اسم "مسعودة" بعد أن يقرأ "غدا يوم جديد"مسعودة التي ستنادي وتسمي وتلقب وتحدد بقية الشخصيات وتقدمها وتعرف بها عندما تقوم بوظيفة السرد والمقطوعة الآتية توضح: "أعذرني إن قصة حياتي أعز علي من حياتي، إنها عزيزة علي الى درجة أنني أود أن أضعها في يد كل عابر. كما وضعت جسمي ذات زمان وأنا غرة، تغريني البسمات، في متناول كل راغب، لماذا أقول لك هذا؟ لا أدري...أحببت أن أعري كل الذين عرفتهم في حياتي، لا لأفضحهم، لا وإنما لأراهم من جديد أحياء أمامي، أريد أن أرى (عزوزا)، (الحاج أحمد): لست أدري لماذا وصفني بالمعزة؟ من أين له أن يعرف كيف كنت؟ هو لم يرني الى اليوم، أريد أن أرى الحبيب، أريد أن أرى قدورا صامدا للعذاب كالدهر لا يتزعزع أريد أن أرى المحطة أن أرى ظلي وراء الحاج أحمد بلاغية. أريد النساء أريد أن أرى..."
نلاحظ من العينة التالية كيف تذكر مسعودة كل تلك الشخصيات بأسمائها وألقابها إنها تعود إليها في مستويات أخرى من انص لتعريها كما قالت أولا ولتراها مجددا دون فضحها.
لكن الملفت للانتباه أن النص لا يبدأ بذكر اسم مسعودة، بل يواجه المتلقي بمجموعة من الصور عن امرأة يشار إليها بتاء التأنيث أولا، ثم بضمير الغائب ثانيا، وبعدها تظهر بضمير المتكلم الى أن يرد اسمها على لسان الكاتب في مستوى لاحق من النص.
تبدأ الرواية: بقوله "رفعت الحجاب!
ورأيتها
بدت لي وهي أمامي على مقعدها كأنها جالسة على الزمن! كل حركاتها الخارجية مفككة، لكن كل حركة منها كتاب مفتوح على الماضي، وزهد في متاع الدنيا. لاشك أنها رأت الكثير. عاشت حياتها بكثافة وعمق. لكن ما يشدني إليها أكثر، كلماتها، كم هي مستقيمة، عذبة حتى في ما لحق لهجتها الريفية من هجنة في المدينة" (1).
يتشكل في هذه المقطوعة المكثفة الصور مسارا صوريا يوصل المتلقي الى اكتساب بعض المعلومات الاولية التي تعرف بهذه المرأة وتقدم مجموعة المسارات الصورية دورا موضوعاتي لها.
لا تتوقف البطاقة الدلالية لهذه المرأة عند هذا الحد من المعلومات بل تتواصل تارة على لسانها وتارة أخرى على لسان السارد الخارج حكائي، فهي تقول مثلا: "أبنائي أبوهم ليس قدورا. ما عدا الشهيد. الحياة قصيدة والزمن طويل. نصف قرن وربع قرن...حلم وحرب وثورة، ثم أصبح قبلة لكل طامع" (2).
وتواصل في تعرية ماضيها ومن ثم تقديم هويتها للقارئ فتضيف في مقطوعة لاحقة: "...كنت في الماضي محل طمع لجسدي الطري المغري. الآن تغير الحال..." (3).
ويتعرف القارئ من خلال هذه المقطوعات على بطاقات جديدة لمسعودة، فهي تعلم الكاتب بأن أبناءها ليسوا جميعا من نسل قدور ما عدا الشهيد. وهذه المعلومة بالذات نجدها تتكرر كثيرا للتأكيد عليها.
كما نتعرف على سنها: "نصف قرن وربع قرن" ولعل القارئ يدرك من طريقة ذكر عمرها أنها تشعر بثقل الزمن فهي لا تقول خمسة وسبعون سنة، بل لتخلق لدى المتلقي شعورا أعمق بعبء السنين تقول: "نصف قرن وربع قرن" (4).
إنها تشعر يثقل الزمن وأثره على روحها وجسدها الذي عندما تتحدث عنه فيما مضى تقول: "جسدي الطري كان محلا لأطماع الكثير" (5).
وهي تحيل كاتب قصتها على التعريف بشخصيتها، لا تكتفي بالماضي بل تعود في كثير من المقطوعات الى ما آلت إليه حالها وتشير في كل مرة الى موقف الآخر منها، فكما تساءل عن موقف السيد أحمد، في المحطة، من شكلها عندما وصفها بالعنزة، وطيبة تعامله معها و...إلا أنها تأتي وهي متيقنة من موقف الاخر منها في الحاضر لتقول: "ألأنني أسكن في قصر بناه معمر؟ ...أم لأن بندقيات أبنائي أذلت رجالكم؟ لماذا الكلمات المعسولة التي تخفي وراءها ما تخفي؟
نلاحظ من المقطوعة أنها تحلل سبب الموقف المتخذ منها من قبل هذا الاخر ولأنها بداخلها تتوقع أن يكون شأنها غير هذا لولا الرفاهية والغنى والجاه...لما كان هؤلاء ليحترموها ولأنها تعيش مرارة هذا النفاق تعري مرة أخرى نفسها للكاتب: "أبنائي ما عدا الشهيد، آباؤهم ليسوا آباءهم، لكني لم أخن أحدا" (6).
لعل المتتبع لهذا العرض لبطاقتها يدرك نوعا من التناقض عند هذا المستوى في كلامها، فهي تروح وتجيء بين حاضرها وماضيها لا تعرف بنفسها في ماضيها أو في حاضرها فقط، بل يشعر المتلقي أنها تعود الى الماضي لتبرر الحاضر، وهذا واضح خاصة عندما تقول: "الاوروبية التي اشتغلت عندها أخذتني ذات يوم الى الشاطئ...كنت ساذجة...رأيتهما يبتسمان، قلت في نفسي من أين جاءتهما الغلطة التي حذرتني منها "المعلمة" كما كنا نسميها، كانت هناك سيارة...أشار إلينا أن نركب. قالت لي لا ينبغي أن نعارضهما" (7).
تدل أول هذه البطاقات المحتواة في هذه المقطوعة على أنها عملت خادمة عند أوروبية، أهم نقطة في هذا الشأن أنها كانت تنفذ الأوامر، ولتؤكد هذا تقول "المعلمة"، وثاني بطاقة هي الاحالة على سذاجتها التي دفعتها الى القيام بكل ما فعلته وهي سذاجة غريبة نوعا ما لأنها لا تربطها بسببية معينة، خاصة إذا كان المتلقي يعلم أن المجتمع الريفي الذي جاءت منه مسعودة لا يقر بمثل ما صنعت بل يصل الى حد التحريم والمنع والقتل عند ارتكاب مثل تلك الأخطاء، لكن مسعودة تريد أن تبر نفسها. وهي تكرر المعاني والتبريرات نفسها في مستويات كثيرة من النص: "أقول لك أعرف أن الله سيعاقبني على كثير من أفعالي...إني لم أفعل فعلا يمس الآخرين. ذنوبي وهي كبيرة عن سذاجة وكرم. كنت لا أستطيع أن أرد أحدا رغب في شيء أملكه. وكنت جميلة" (8).
نلاحظ أنها تضيف أعذارا أخرى لما قامت من أفعال وغدت في حاضرها تراه أخطاء "كرمها" ونتساءل هنا عن نوع هذا الكرم المقصود/ ثم "جمالها".
غير أن مسعودة تحيل الكاتب على التغير الذي حدث في حياتها نتيجة مخالطتها للفرنسية التي كانت تعمل عندها.
وها هنا قد يتساءل المتلقي أين غدا محلها من تلك السذاجة التي تؤكد عليها. "علمتني تلك الفرنسية كل شيء كيف آكل، كيف أشرب كيف أتجمل...باختصار علمتني حياتي هذه التي جعلت مني أما لوزراء" (9).
تتوالى الصور وتُكثّف عبر كل مقطوعات النص وفي كل مرحلة من مراحل حكيها مكونة بذلك مسارات تصويرية جديدة توصل المتلقي الى أدوار موضوعاتية جديدة أيضا فيتعرف في كل مرة على مسعودة أكثر حتى تنتهي من سرد حكايتها التي كشفت من خلالها عن حياتها بكل أخطائها التي تريد أن تطهّر نفسها منها بالتوبة والاستغفار وغسل العظام في مكة هذا المشروع الذي يبدو أنه سببا رئيسيا في إرساء كل هذه القصة ولهذا يرد مكررا عبر كل النص.
نشير في ختام هذا الجانب من التحليل الى أن مسعودة لم تعرّ نفسها فقط، وقد تعرضت للتعريف بغيرها من الشخصيات من خلال علاقتها بهم، وقد حاولت الكشف عن شخصياتهم بقدر ما كشفت عن نفسها لكننا ركزنا على بطاقتها بالذات لأن ذلك كان هدفنا في الدراسة.
مسعودة السارد، مسعودة المسرود له:
يلاحظ من الوهلة الاولى أن أول لقاء بين الكاتب السارد وشخصية مسعودة هو أول حدث على مستوى الحكاية. إن الاحداث التي ستسرد في القصة هي أحداث سابقة، كون الرواية مبنية على مفارقات وتنافرات زمنية في القسم الاكبر منها، ومن ثم كان النمط السردي المسيطر ذا طابع تسجيلي، لأن زمان الكتابة تابع لزمان اللقاء غير أننا لا نستطيع تحديد الفاصل الزماني بينهما لانعدام أي علاقة تدل على المسافة بين السرد الشفوي والسرد الروائي، أي بين السرد الاول المسند الى مسعودة، والسرد الثاني المسند الى الكاتب والذي يمكن القول بأنه إعادة صياغة لسرد مسعودة وهذا ما نتبينه من المقطوعة الآتية: " أكتب قصتي بما تعرف من كلمات...كتابتي أنا لا أستطيع أن تتحمل الهواجس والمكنونات، أبي علمني الحروف والكلمات، أبناء الجيران في المدينة علموني أشياء، الثورة علمتني معاني الاشياء وغاياتها لكن الكتابة الادبية إلهام لم يحم في سمائي، أكتب ما أقصه عليك بكلماتك، ما يملأ رأسي لا تفنيه كلماتي. أنت تستطيع الكتابة الملونة...أكتب بالألوان التي تروقك، كلماتي أننا منسوجة بالأبيض والأسود. تصلح التوثيق فقط" (10).
نتبين من المقطوعة التالية أن مسعودة تفهم الكاتب أنها لا تستطيع تسجيل أو سرد قصة حياتها في أسلوب قصصي أدبي إبداعي وهي بذلك تميز بين الكتابة الابداعية وما لها من خصائص وقدرات سحرية على نقل الاحداث والمشاعر والهواجس بألوان تعيد إليها الحياة وبين التوثيق ولهذا سردها للحكاية أولا على الكاتب المتلقي الضمني الاول لها كان من أجل الوثيق فقط والمطلوب منه بعد ذلك، الابداع، أي كتابة نص روائي بالمعنى الذي يحمله كل خطاب روائي من خصائص وتقنيات فنية.
وقبل التوغل في الحديث عن السارد والمسرود له نشير الى أن الملفت للانتباه أن النص يحمل في طياته إشارة يمكن أن يأخذها المتلقي والدارس أيضا كبداية لسرد الاحداث قبل أن يعيد الكاتب، السارد الثاني بنينتها لفظا وأسلوبا إذ يحيلنا النص في بعض مقطوعاته الى أن الرواية كتبت ما بين 05 أكتوبر 1988 وسنة 1992 تاريخ طبعها وتبقى الفترة التي استغرقتها البطلة في سرد الحكاية والفترة التي استغرقها الكاتب لإعادة الصياغة، نستنتج مما سبق أن قصة مسعودة قد سردت مرتين من سارد داخل حكائي متماثل حكائيا هو "مسعودة" لأنها تنقل قصة حياتها وهي الى حد كبير بطلتها وسارد ثاني خارج حكائي متباين حكائيا لأنه يكتفي بسرد المادة التي تلقاها من مسعودة وهو الكاتب المبدع غير أننا نلاحظ أنه في مستويات كثيرة من السرد يتحول الى سارد متماثل حكائيا عندما تختلط عليه أحداث قصة مسعودة بأحداث يتذكرها وتتعلق بطفولته ولهذا فإن السارد الكاتب يلعب وظيفتين نحويتين مزدوجتين، السرد مثله مثل مسعودة الساردة الأولى، أضف الى هذا أننا نلاحظ بأن السارد الكاتب وهو يكتب قصة مسعودة لم يكتف بما أوردته عن ماضيها وبما روته هي عن حاضرها، بل راح يروي للمتلقي الثاني أي القارئ باعتبار أن المتلقي الاول لما كتبه هو مسعودة بعضا من لقطات حاضره ولقاء مع مسعودة وهنا نتبين تلاعبا كبيرا بالساردين ووظائفهما.
وقبل الاشارة إليه في شكل جدول نستشهد بالمقطوعة الاتية: "كم كذبت نفسي وأنا أنظر إليك وأستمع الى ماضيك! كم قلت لنفسي: أني أحيا مع الماضي! لكنك تقومين أمامي قوية عنيدة. فأعيد النظر: وأقول أنها الحاضر الذي يخشاه الناس! وهكذا أجدني ذاهبا آيبا بين أمس الغد وأمس اليوم".
وإذا يمكننا أن نستنتج الجدول الآتي:
السارد |
المسرود له |
|
2- الكاتب |
3- الكاتب |
4- مسعودة |
4- الكاتب |
5- القارئ |
تجدر الاشارة الى الانزلاقات التي حدثت على مستوى السرد التابع جاءت بسبب تعدد المصادر والوسائط المستحضرة للخطاب.
إن حدث مقتل المخفي مثلا كنموذج بارز تمت إذاعته من قبل راوي مجهول نصيا، فمعاودة الماضي المبني للمجهول "قيل" لا تحتاج الى أي تعليل للدلالة على أن هناك تغييبا للسارد الحقيقي وتعديلا على مستوى المبنى والمتن.
يقودنا هذا التحليل الموجز المختصر الى النتائج الآتية:
1- انمحاء النقل الوفي للأصل الذي كان يظهر السارد الكاتب بمظهرين:
- سارد كاتب مبدع يملك موهبة لا تملكها مسعودة.
- مجرد ناسخ أو آلة عاكسة للجانب الاملائي.
2- التواء مسار السرد لهذه الرواية نتيجة تعدد الرواة واختلاف رؤاهم. رؤية مسعودة للأحداث التي عاشتها وكانت جزء منها رؤية الكاتب المتلقي والغريب عن الحكاية.
3- جلاء علاقة الكاتب المباشرة مع البطلة إذ تحيلنا مقاطع عديدة على التقائهما على مستويين، زمانيا ومكانيا.
المـــراجـــع
- الرواية ص 76
- الرواية ص 9
- الرواية ص 10-11
- الرواية ص 11
- الرواية ص 11
- الرواية ص 11
- الرواية ص نفسها
- الرواية ص:
- الرواية
- الرواية ص 126-177
- الرواية ص 14
- الرواية ص 07