الحركة النقديةالعربية: من الفاعلية إلى الوهن
د. صالح هويدي*
" لماذا تَحولْنا إلى نموذج سيزيف المعذَّب الذي
لا يصل أبداً إلى القمة، بل عليه أن يعاود دائماً
حمل صخرته من أسفل الجبل؟"**
د. صالح هويدي*
" لماذا تَحولْنا إلى نموذج سيزيف المعذَّب الذي
لا يصل أبداً إلى القمة، بل عليه أن يعاود دائماً
حمل صخرته من أسفل الجبل؟"**
فتحي عبد العليم
تقديم:
تندرج ورقتنا ضمن المحور الرابع من محاور هذا المؤتمر المهم، الذي يسعى ضمن تقاليده إلى الوفاء لجهود المبدعين الرواد، متخذًا من هذا الاحتفاء منطلقًاللكشف عن التجارب الإبداعية المنفتحة على التجديد والتجريب، محققًا بذلك، جدل المعادلة الحقة للإبداع.
يكتسب المحور النقدي الذي تأتي ورقتنا المتواضعة للإسهام فيه أهميته، من اهتمامه بمساءلة حركة الخطاب النقدي، ضمن اتجاهين: الأهمية، والأثر؟ وهو سؤال لم يحظ كثيرًا بالعناية والاهتمام الكافيين من قبل الباحثين ومؤسساتنا الثقافية.
ستعمد الورقة إلى إلقاء الضوء على الخطاب النقدي بعامة؛ العربي منه والعالمي، وذلك لوجود مظاهر التقاء وافتراق بين الحركتين؛ بدءًا بالموقف القديم من الخطاب النقدي، وازدرائه أو النظر إليه نظرة دونية، لا ترى فيه عملًا إبداعيًا، مرورًا بمرحلة فاعلية الخطاب النقدي في الوطن العربي وظهور قامات نقدية كبيرة ومؤثرة في حركة الأدب والثقافة من جهة، والمبدعين من جهة ثانية. وهي مرحلة نقدية كان فيها للصوت النقدي هيمنة في الوسط الثقافي، نذكر من هؤلاء النقاد: طه حسين، والعقاد، ومحمد مندور، ولويس عوض، ومحمد النويهي، وشكري عيّاد، وأنور المعداوي، وغالي شكري، ورجاء النقاش، على سبيل المثال لا الحصر.
قد يبدو عنوان محورنا على جانب من الغموض، برغم وضوح قصده وهدفه؛ ومصدر غموضه يكمن في عمومه وإطلاقه، إن لم تقيد الحركة النقدية هنا؛ فهل المقصود بالعنوان عموم الحركة النقدية في عالمنا؟ وأيًا ما يكون الأمر فإن من المشروع فهم العنوان على هذا النحو، إذا ما أخذنا بسنن اللغة واستعمالاتها وقواعدها، بعيدًا عن النوايا وسياق الملتقي المخصص للرواية العربية. لكننا بعد ذلك سنعمد إلى إيلاء الخطاب النقدي العربي وحركته الأهمية الأكبر في ورقتنا، على الرغم من أننا لن نغفل واقع العلاقة بين العربي والعالمي وحركة التأثير والتأثروالتفاعل فيما بينهما.
العلاقة المريبة بين الأدب والخطاب النقدي:
ونود أن نبدأ ورقتنا بالإعراب عن اعتقادنا بأن مسيرة النقد الأدبي، سواء منه العربي أو العالمي، كانت - ولا تزال- محفوفة بمشاعر التشكيك والعداء من قبل جمهرة من المبدعين الذين كانوا يرون فيه إبداعًا من الدرجة الثانية، ويرون من يقوم به مبدعًا، اختار أن يجربحظه في تقويم الأدب والحكم عليه، بعد أن فشل في أن يكون مبدعًا، في أي حقل من حقول الأدب. فها هو صاحب طبقات فحول الشعراء، يروى لنا مشهدًا من محاورة عابرة، لكنها ذات دلالة مهمة على وجهتي نظر كل من المتلقي والناقد، وبما يكشف عن ضيق الجمهور بمن نصب نفسه حكمًا وقاضيًا في مجال الأدب:
" وقال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر استحسنته فما أبالي ما قلت أنت فيه وأصحابك. قال: إذا أخذت درهمًا فأستحسنته، فقال لك الصراف: إنه رديء! فهل ينفعك استحسانك إياه؟"(1).
ولا نشك في أن جواب خلف هذا قد باغت من أراد الاستخفاف بسلطته وأفحمه، إذ بدا متسلحًا بقوة المنطق، ومستندًا إلى حقائق الحياة (الصيرفة)، وواقع المؤسسات التي تحكم العلاقة بين الناس. ولا يكاد عصر من عصور العرب المزدهرة يمر من دون أن يشهد مثل هذا الجدل الخصب. فهذا المتنبي أحد أكبر شعراء العربية، يعبر في لحظة زهو، وإن بطريقة إيحائية، عما بلغه من شرف ومكانة، دونها مكانة الآخرين، أدباء ونقادًا، حين يقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
وإذا تركنا الأقدمين، من أدبائنا وكتابنا،لنوجه وجوهنا صوب الثقافة الغربية، فإننا سنجد عشرات المواقف التي سعى فيها الجمهور إلى تجاهل دور النقاد والنيل منهم، بطرائق متهكمة تصل إلى حد التعريض والغمز واستخدام أوصاف وتعبيرات فضائحية أحيانًا.(2)فها هو جورج ستينيرلا يرىفي جهود الناقد إلا تحولاً من الأدب إلى النقد، ليمثل له هذا التحول من ثم ضربًا من ضروب الفشل وقلة الحيلة:
" من ذا الذي يرضى أن يكون ناقدًا إذا استطاع أن يكون كاتبًا مبدعًا؟".(3)
ولا يكتفي ستينير بهذا، بل يواصل تهكمه من الناقد ودوره، حين يراه عاجزًا عن عمله، مالم تقدم له قصيدة أو رواية أو مسرحية، وهو ما يجعله تحت رحمة عبقرية المبدع. ولا يتوقف عن شغبه هذا، إذ يرى رضا الناقد بهذا الدور ضربًا من ضروب الضحك والسخرية التي تقود إلى الهدم، فهو لا يرى في النقد مهنة عالية، كما يراها من يقوم بها، بل يراها هزيمة وتصالحًا مع رماد الحياة وحصى الموهبة المحدودة:
" ويظن الشاب اللامع أن النقد مهنة عالية، وذلك بدلاً من أن يعده هزيمة وتصالحًا تدريجيًا عاريًا مع رماد الحياة، ومع حصى الموهبة المحدودة للإنسان. وربما كان هذا مجرد شيء مضحك، ولكن له تأثيرًا هدامًا."(4)
لقد رأى في الناقد بعضهم، أنه على الرغم من عجزه عن الخلق الفني، فإنه يظل قويًا وقادرًا بطريقة غير لائقة على تدمير سمعة المبدع بضربة واحدة من قلمه المسموم!(5)وهو تعبير يكشف على نحو واضح مدى التحامل على وظيفة الناقد، في الوقت نفسه الذي يثبت فيه قدرة الناقد وسلطته.
على هذا النحو تصور عدد غير قليل من المبدعين والقراء في الأوساط الثقافية العالمية الناقد كائنًا طفيليًا يعتاش على ما يقدمه له المبدع تارة، ويعاني من عقدة النقص التي يحاول أن يعوض، في ممارساته النقدية، عن فقر موهبته تارة أخرى، إلى جانب رؤية بعضهم له شريرًا يسعى إلى التقليل من شأن من يمتلكون القدرة على الإبداع بأنفسهم. ولعلنا لا ننسى قولةأحد نقاد فرنسا الذائعة: "الناقد أديب فاشل". وليس أقل سخرية منها، تلك النصيحة التي توجه بها سيبيليوس إلينا،حين طلب منا ألا نصغي إلى النقاد لأننا – كما يقول– " لم نر يومًا نصبًا يقام لناقد."(6) وهو ما حدا بمؤلف كتاب "موت الناقد" إلى التذكير بوجود تمثال للناقد الفرنسي سانت بوف في حدائق اللوكسمبورغ بباريس.
أثر الخطاب النقدي في الأدب والأدباء:
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: هل كان للإبداع والإبداع الروائي أن يصل إلى ما وصل إليه، وأن يقدم لنا الروائع الإنسانية التي أمتعتنا، وأسهمت في رقينا الذوقي ومقاييسنا الجمالية، لولا وجود النقد والنقاد. ولعله يكفي أن نستذكر دور أرسطو في مجال التأسيس لنظرية الأدب وما أحدثه كتابه (فن الشعر) الذي يرجع تأليفه إلى 335 ق.م، وأرسى فيه العلاقة الوثيقة بين النقد والإبداع. فقد ظلت نظريته وأصولها وقواعدها، في التفسير وصناعة الأدب، بل وتمكين الأدب من الوعي بذاته وبوسائله، قرونًا طويلة، هيمنت خلالها أفكاره في الأدب والكتابة، على النقد والإبداع، حتى وسمت مراحل من مسيرة الأدب الأوربي، طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر الأوربيين، ما جعل النقاد يهتدون بها، ويشيدون بقدرته على التحليل والتوجيه، ولم يتحقق لهم التمرد عليها إلا في القرن التاسع عشر على أيدي شعراء الرومانسية، إثر ضيق مبدعيها بقيود الهيمنة على الإنتاج الإبداعي، والوصاية على إبداعهم طوال القرون السابقة.(7)
لقد ظهر الأدب والإبداع وظهر معه متلقوه ونقاده، فقد كان لابد لأي منتج أدبي من متذوقين؛ كان منهم جمهور المتلقين والقراء، وكان منهم فئة أخرى عرفت بالنقاد. وقد كان دور الناقد مختلفًا عن دور المبدع؛ منشئ الأدب، إذ جاء نشاطه معرفيًا، يهدف إلى الكشف عن أسرار الأعمال الأدبية وطرائق تشكلها وعناصر بنائها، للمبدع والمتلقي على حد سواء. من هنا فقد نهض النقد بمهمات الشرح والتفسير والتحليل والحكم،على النحو الذي كشف فيه عن طبيعة إنتاج المبدع، وانعكاس أثره وشخصيته في عمله، فضلاً عن كشفه طرائق النفاذ إلى فهم تلك المكونات والوصول إلى فهم دلالات البناء الفني وعلاقة الأنواع الأدبية ببعضها، وتطور الأنواع الأدبية.(8)
لقد قدم النقد الأدبي، عبر كشوفه المعرفية واشتغالاته العلمية التحليلية، خدمات جليلة لجمهور المتلقين، سواء على مستوى تعميق وعيهم بالبعد الجمالي للأعمال الأدبية، أو على مستوى النظريات النقدية التي قدمت للقراء كشوفًا مهمة، جعلتهم ينظرون إلى الأعمال الأدبية في ضوء سياقاتها التاريخية والاجتماعية، وعلاقاتها الداخلية، وتفكك سيرورتها أو انتظامها في أشكال مؤتلفة تارة ومختلفة أخرى، أو من خلال عقل تأويلي يقظ منفتح، يتجاوز ربط دلالة النصوص الأدبية بكتابها أو بوقائعها المباشرة. وبهذا انتقل النقد والناقد بالمنشيء والقارىء معًا من مرحلة التلقي الانطباعي البسيط إلى أفق المعرفة الجمالية والفلسفية، ليكتسب النص من ثم ثراء وعمقًا، دافعًا به إلى مراحل من التطور الأجناسي والتجريب غير المحدود.
لقد تركت طروحات بعض النقاد أثرًا كبيرًا في المجتمعات الثقافية، وكان لبعض الكتب النقدية تأثيرٌ في ظهور حركات وأنواع واتجاهات أدبية جديدة، فقد استقبل كتاب الناقد الفرنسي أرثر سايمونز Arthur Symonsالمعروف ب (الحركة الرمزية في الأدب) 1899 بحفاوة وإعجاب كبيرين، حتى قيل إنه ما كان يمكن للرمزية الفرنسية أن تنتقل إلى إنكلترا وأن تحدث الثورة التي شهدها عالم الكتابة هناك، من دون هذا الكتاب، بل يكفي أن نعرف ما قاله ت. إس. إليوت عنه، من أنه غير مسار حياته، لندرك قيمة هذا الكتاب النقدي.(9)
ولعل في هذه الإضاءات الكبيرة والمهمة التي قدمتها لنا حركة النقد في العالم ما يجعلها عنصر إثراء لخطاب الأدب والإبداع وإسهامًا في ما شهده من تحولات وتطور، وامتلاك لقيمته الدلالية التي تتجلى في كلمات الناقد جورج ستينير حين قال: "إن مهمة النقد الأدبي أن يساعدنا على القراءة بوصفنا آدميين نحس بالوحدة والشمول، فيعلمنا الدقة والخوف والاستمتاع. وهذه المهمة ثانوية إذا قورنت بعملية الإبداع، ولم يكن لها أبدًا أكثر من هذه المكانة، ولكن الإبداع بدونها قديكون صرخة في واد".(10).
إن النقد كما هو معروف ذو مستويين؛ نظري وتطبيقي، وقد كان للنقد النظري أثره في ما تحقق من كشوف واستبصارات، وتأسيس للنظريات المنهجية وللجذور الفلسفية، وأصولها المعرفية ومعاييرها وأدواتها، وكيفية نشأتها وتطورها، وهي الخطوات التي كانت تسبق على الدوام التأسيس لأية قضية أو خطوة نقدية لدراسة النص الأدبي وتحليله وقراءته، فضلًا عن دور الخطاب النقدي في تقديم الرؤية المنهجية للقارىء في مقاربة الأعمال، واستنطاق بناها والكشف عن علاقاتها ودلالاتها، وتصنيفها، من خلال عدد من المناهج والنظريات التي أفادت القارىء وشكلت مدونة مهمة للقارىء والكاتب في الوقت نفسه، وعلى النحو الذي لم يكن واعيًا فيه، بكثير من أسرار عمله الأدبي وخفاياه، وبما أنار السبيل أمام جمهور القراء والمبدعين، وكشف لهم عن المعاني المخبوءة في أعماق النصوص الأدبية. وهذا هو ما يميز المسيرة التاريخية للخطاب النقدي المسلّح بالرؤية العميقة الثاقبة، من جهود القراء والكتاب الفردية العابرة،والتي لا يمكن أن تكون بديلًا عن الجهد النقدي االعقلانيالصارم.
إن العالم كله مدين لجهود النقاد الذين أسهموا في خلق أذواقنا وصياغة حساسياتنا ووجداننا، بعد أن وقفوا بنا على أسرار الجمال وطرائق تشكّله داخل النص الأدبي، وعلى ثراء الأعمال الأدبية ودور الكلمة والصورة والفضاء والرمز والموسيقى والزمن، وسوى ذلك من الأطياف والروائح والمشاعر غير المرئية أو المحسوسة لنا. إن كثيرًا ممن يهجون النقد والنقاد، ويتحدثون بلغة استهجان عنهما، لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن دفعهم اليأس من الوقوف في طوابير مرور النقاد، على أمل الالتفات إليهم أو سماع كلمة إطراء أو تنويه بهم، من دون أن يتحقق لهم ذلك.
إشكاليات الخطاب النقدي العربي:
رافق النهضة الأدبية في الوطن العربي تخلّق حركة نقدية، سرعان ما تبلورت ملامحها، لتكشف عن عطائها المنهجي الحديثقبيل منتصف القرن الماضي. وهي الحركة التي تبلورت معطياتها في جهود عدد من الرموز التي نجحت في إرساء تقاليد جيلية نقدية، استمرت لعدد من العقود، ولا سيما في مصر، قبل أن تنتقل فاعليتها إلى بعض دول المغرب العربي في الثمانينيات، بسبب حركة المثاقفة الفاعلة مع المناهج النقدية الغربية، وميل الحركة النقدية في مصر وعدد من الأقطار العربية إلى المراوحة والضعف. فمن رموز حركة النقد العربي الذين أسسوا لوعي نقدي مؤثر في الساحة الثقافية: طه حسين ومحمود عباس العقاد ومحمد النويهي ومحمد مندور ولويس عوض ومحمد شكري عيّاد وغالي شكري ورجاء النقاش، ومن تلاهم وتابع مسيرتهم، أمثال: مصطفى ناصف ومحمود الربيعي ولطفي عبد البديع وجابر عصفور وصلاح فضل وسواهم.
لكن الملاحظ أن الأجيال النقدية التي تلت هذه المرحلة،منذ منتصف القرن الماضي وحتى يومنا هذا، قد اختلفت في معطياتهاوتقاليدها، إذ فقد نقاد المرحلة التاريخية الجديدة قوة التأثير وملامح الوحدة والتماسك، للانتقال من مستوى التقاليد الجيلية إلى حالة من الضعف والتشرذم والعمل المتشظي إلى نويّات منفردة، سواء في مشرق الوطن العربي أو مغربه.
وعلى الرغم من أن مرحلة الثمانينيات التي حمل عبء النهوض النقدي فيها نقاد بشروا بمناهج واتجاهات نقدية حداثية أكثر جدة واستبصارًا فلسفيًا ومعرفيًا، لكن هذه المراحل ظلت أقل تأثيرًا وفاعلية، في جهودها وعطائها، من جهود رموز النهضة النقدية السابقين عليهم. ونحن نميل إلى تفسير ما نذهب إليه بعدد من العوامل الموضوعية والذاتية. فمن هذه العوامل الموضوعية أن المرحلة التاريخية التي أعقبت مرحلة النقاد الرواد، لم تعد مؤهلة لإنتاج شخصيات نقدية ذات أفق موسوعي وتأثير فردي طاغ مؤثر. وهو ما جعل تأثير الجيل التالي لجيل الريادة النقدية، سواء في قرائهمأو في الوسط الثقافي العربي، أقل من تأثير سابقيهم، وجعل من قامات المتأخرين أدنى من قامات من سبقهم، ومن قوة حضورهم. إنه عصر الفردانيةالآخذ بالتشظي كما يبدو. أما العامل الثاني، فيعود - في ظننا- إلى طبيعة الاتجاهات النقدية الحداثية نفسها، ولا سيما تلك التي غلبت الطابع النسبي على اشتغالاتها، وتمركزت حول أفكار وطروحات أفقدت الناقد مكانته التقليدية السابقة، لصالح القارىء وتعدد رؤى القراء. وثمة عامل ثالث جاء على نحو مكمل لما انتهى إليه الأمر، ونقصد به دخولنا مرحلة العصر الرقمي وثورة التقنيات والمعلومات التي أنتجت ظاهرة ثقافة المدونات على الشبكة العنكبوتية، ونوادي الكتب ومجموعات القراءة، لتبشر بسلطة الجمهور، وبالإعلام التفاعلي وديمقراطية الرأي؛ تلك الظواهر التي كشفت عن رغبات التمرد على سلطة الناقد ونخبويته، والسعي إلى تكريس سلطة الجمهور الرافض للتوجيه، ورغبته في قراءة أو مشاهدة ما يريد، بعيدًا عن أي وصاية أو هيمنة أو تقرير ما ينبغي أن يُقرأ أو لا يقرأ، بل عن رغبتهم في ازدراء سلطة النقاد الذين لم يعودوا بحاجة إلى وصاية منهم.(11)
ولا ريب في أن ما انتهى إليه حال النقد والحركة النقدية في الوطن العربي، كان في جزء كبير منه، انعكاسًا لما يحدث في حركة النقد في الغرب؛ وذلك لأن ما نشتغل به من مناهج ونطريات ليس سوى بضاعة لم نفلح في تخليقها أو تبيئتها وإعادة إنتاجها، وفق سياقات المراجعة المنهجية وتقاليد العقل النقدي. فلقد قادت الاتجاهات الهيرمينوطيقية وجماليات القراءة والتقبل ومنهج التفكيك التي سادت في الخطاب النقدي، إلى الحدّ من قدرات الناقد وسلطته التقليدية، وأحكامه القيمية، لتفتح المجال واسعًا نحو سلطة الجمهور، ونسبية القراءات، وعدم وجود قراءة يقينية أو ثابتة.
على هذا النحو ترسخ الوعي النقدي بتناسل النصوص، وبظهور نظريات التناص، وموت المؤلف التي قادت إلى التفكير بموت الناقد. لقد كانت للناقد التقليدي سلطته المهيمنة، وتحليلاته التي تفرض نفسها على القراء،على نحو بدا أقرب ما يكون إلى المنظومةالجبرية أو المعادلة الرياضية أو الحتمية التاريخية. ينطبق هذا على النقد التاريخي الذي تصور الخطاب الأدبي بوصفه محصلة لعوامل العنصر والوقائع التاريخية والسمات الفردية(الشخصية والسيكولوجية)، ليبدو كما لو أنه ثمرة لهذه العوامل. مثلما ينطبق على النقد الاجتماعي الذي يرجع خطاب الأدب والإبداع إلى واقع السياق الاجتماعي، وطبيعة العلاقات الطبقية، وشكل وسائل الإنتاج المتحكمة في بنية المجتمع الاقتصادية، تمامًا مثلما ينطبق على نقد التحليل النفسي(السيكولوجي) الذي يرى الخطاب الأدبي بوصفه تعبيرًا عن عالم اللاشعور لدى المبدع، وعن عقده وخيباته ومركبات نقصه. وفي الوقت الذي بدت فيه هذه الاتجاهات أقرب ما تكون إلى المنظومات الفكرية والأيديولوجية المحكمة، تبدو المناهج الحداثية وما بعد الحداثية أقرب إلى الأطروحاتالنسبية والديمقراطية.وفي عالمنا العربي يبدو انعكاس الخطاب النقدي الغربي في مرآتنا ذا انحسار مضاعف، وتراجع أكبر؛ لأنه يمثل ضروبًا من الهجنة والاشتغال العشوائي، والتناقضات التي تكشف عن ألوان من الهرطقة والتشويش والتدليس والمحاكاة الفاقدة للروح. فثمة في مقابل البنيوية في الغرب بنيويات لا ضفاف لها، وثمة تفكيكات لا طائل وراءها، وثمة اتجاهات قرائية لا يشبه بعضها بعضًا، مع ملاحظة ما يسود تلك المناهج والاتجاهات من سوء فهم، ورداءة ترجمة، وفقر إنتاج، وترخّص في المصطلحات، وتشوش في المفاهيم. وكي لا أقع تحت طائلة سوء الفهم غير المقصود، لا بد لي من توضيح موقفي الذي أؤمن به، وهو أن المناهج الحداثية التي نؤمن بها اليوم، ونشتغل عليها، أكثر أهمية وفاعلية في فهم الظاهرة الإبداعية ومقاربتها في تقديري، من المناهج التي كان رواد الحركة النقدية العربية يقاربون بها أدبنا، كطه حسين والعقاد والنويهي ومندور، على أهمية عطائهم، واستبصارات اشتغالاتهم وتعذر المقارنة فيما بينهم وبين من تلاهم. لكن هذا لا يمنعني من الاعتقاد بأن الجيل النقدي الأولكان الأكثر تأثيرًا وفاعلية فينا، وفي حياتنا الثقافية. واسمحوا لي أيها الزملاء أن أصارحكم على نحو لا يخلو من حرج، وأنا في ضيافتكم وبينكم بشيء، كثيرًا ما استوقفني. وهو أمر لا يتعارض مع اعتقادي بأن حركة النقد العربي في مغرب وطننا العربي اليوم هي الأكثر حيوية وإخصابًا منها في مشرقنا العربي. أما الأمر الذي أود أن أفضي به إليكم فهو ضرورة أن نتجاوز موقف المتابعة الذلول لما ينتجه الآخر، وألا نختصر علاقة المثاقفة المعرفية في ضرب من ضروب التقليد الساذج. ففي الوقت الذي أؤمن فيه بجدوى الاتجاه السيميولوجي في مقاربة النصوص الأدبية وتحليلها، أجدني غير مدرك ما ينطوي عليه المشهد الثقافي الجزائري،وأقل نسبة منه المشهد النقدي في دولة المغرب. فلم ألتق حتى الساعة بمثقف أو أكاديمي جزائري يمارس النقد أو الاشتغال في حقول إنسانية، كعلم الاجتماع ونظرية الأدب والنقد الأدبي إلا وكشف لي عن اشنغاله على النظرية السيميائية والاتجاه السيميولوجي في النقد!
وليس الاعتراض أو الدهشة متأتية هنا من الاتجاه المعرفي، بقدر ما هي متأتية من هذا التكأكؤ على هذا المنهج الأوحد!فهل تمتلك هذه النظرية وذلك الاتجاه النقدي مفتاحًا خاصًا لسبر النصوص وفك مغاليقها أكثر من سواه؟ أيحمل هذا المنهج إغراء معينًا أو سحرًا لا نعرفه، بين سائر المناهج والنظريات؟ هل هو أكثر المناهج فاعلية أو جدوى أو سهولة ياترى؟ وأخيرًا هل لخطاب الأدب مصلحة في الاحتشاد له، ضمن رؤية واحدية على هذا النحو؟ بمعنى آخر: ما تأثير رؤية أغلبية نقادنا، وهم يقاربون نصوصنا وأعمالنا الروائية والسردية؛ القديمة منها والحديثة، ضمن رؤية المنهج السيميائي؟ وما وقع هذا الاحتشاد وتلك الظاهرة النمطية على المتلقي، ونحن نتحدث عن مظاهر ضعف حركة النقد في عالمنا العربي، وانحسار الاهتمام بها، من قبل جمهور القراء؟
حقًا لقد اختلف إيقاع الحياة الأدبية اليوم عن إيقاعها زمن نقادنا الرواد أو من تلاهم، فقد كان الروائيون العرب الذين يحققون حضورًا ومقروئية آنذاك، لا يقارنون بكتّاب الرواية الذين يملأون الفضاء اليوم، ولا تستطيع أي حركة نقدية من أن تتابع ما يصدرونه، وهو ما يدخل سببًا في تخلف الحركة النقدية عن مجاراة حركة الإبداع وضعفها. وإذا كان هذا المعطى يعزى إلى العامل التاريخي الذي يتصل بالمتغيرات العالمية والظروف الثقافية، فإن ثمة عوامل ذاتية أخرى، يمكن تأشيرها، منها التحلل من الصرامة والجدية التي كان يتسم بها جيل الناقدين الأوائل، ووقوفهم ضد آفات المجاملة والتساهل والمصالح التي بات نصيبها كبيرًا في زمننا الراهن، إلى جانب افتقار نقادنا اليوم إلى شجاعة النقاد السابقين في فرز الظواهر، وتشخيص النماذج الضعيفة، وتعريتها بجرأة ووضوح. وهو ما أصبح لدى نقادنا اليوم أمرًا نادرًا، فإذا ما وُجد مثل هؤلاء النقاد، فإن وجودهم يشكل ظاهرة شاذة، تجعل من سلوكهم هذا أقرب ما يكون إلى المغامرة التي تجابه بألوان من الكراهية والمحاربة وتضييق أبواب الفرص أينما وجدت أمامهم، ولا سيما من لدن من يمسكونبمقاليد الأمور على نحو خاص.وما دمنا نتحدث عن العوامل الذاتية التي أسهمت في ضعف حركة النقد العربي اليوم، مقارنة بما كانت عليه، فإن علينا أن نشير إلى تراجع مؤسساتنا الثقافية والإعلامية التي لم تعد ترعى الأدب وأهله والنقد ورجاله، فلقد انحسرت الصفحات التي كانت تفرد لهم، وخبت جذوة الحوار الخصب، والمساجلات والمتابعات وعروض الكتب، بعد أن زحفت عليها أخبار الفن ونجومه والرياضة ومحترفوها والإعلانات ومروجوها. أما مكافآت الكتاب الذين يكتبون هنا وهناك، فلم تعد تسمن ولا تغني من جوع، بما فيها منابر الإعلام في الدول الخليجية، ناهيك عن أن ما تبقى من هذه المظاهر الأدبية وشبه النقدية، يأتي أغلبه مبوبًا ضمن توجيهات وآليات تنسيق، لما ينبغي الكتابة ضمنه، على وفق أولويات. ولا ريب في أن ذلك كله أسهم في تعاظم عوامل البيئة الطاردة لنمو الحركة النقدية واستمرارها وتطورها، في وقت تتسع فيه آفاق الأدب التفاعلي وثقافة المدونات ونوادي الكتب والنشر النيء الذي يطرح نفسه كبديل عن جيل الوصاية الذي يود جيل الشباب التخلص منه، وتقرير ما يقرأونه وما لا يقرأونه، ويتذوقونه أو يزورّون عنه.
كلمة أخيرة:
لست ممن يعتقدون بأننا مهيئون لإصلاح حالنا أو قادرون على تحقيق ما نرجوه على المدى القريب أو متى ما شئنا، فلقد اتسع الخرق على الراقع، وأن ما نشكو منه في مجال الأدب إنما هو جزء من ظاهرة ثقافية وأزمة حضارية أكبر، تعيشها مجتمعاتنا. إن علينا أن نعيد النظر في علاقتنا بالآخر على مستوى المثاقفة المختلة المنقوصة، وأن نكف عن النظر إلى ذواتنا كمسخ وإنتاجنا كاستهلاك لما ينتجه الآخر المتقدم، مثلما ينبغي أن نعيد الاعتبار للعطاء الثقافي والفكري ونعنى بعلوم الفلسفة، ما دمنا قد نفضنا أيدينا من العلم، وبتنا خالي الوفاض منه؛ لأنه عنوان الصفحة الإبداعية التي يمكننا أن نبدع فيها ونثبت للآخر تميزنا، إلى أن يحين اليوم الذي يقيض لنا الله فيها من يهيء البيئة لاستنبات العلم والمعرفة التي يتنافس فيها المتنافسون لتحقيق ما نرجوه من رفعة وتقدم.
الهوامش والإحالات:
(*)- ناقد وأكاديمي من العراق.
1.محمد بن سلام الجُمحي: طبقات الشعراء، مع تمهيد للناشر الألماني جوزف هل، ودراسة عن المؤلف والكتاب لطه أحمد إبراهيم، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، 1422ه- 2001م، ص27-28.
2. من ذلك وصف الكاتب المسرحي الإيرلندي (برندان بيهان) النقاد بقوله: " النقاد هم خصيان وسط الحريم؛ إنهم يعرفون كيف تجري العملية، وهم يشهدون ممارستها كل يوم، لكنهم لا يستطيعون أن يفعلوها بأنفسهم"، ينظر رونان ماكدونالد: موت الناقد، ترجمة وتقديم فخري صالح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة علوم اجتماعية، المركز القومي للترجمة، مكتبة الأسرة، ص27.كما للكاتب المسرحي صموئيل بيكيت مواقف سخر فيها من النقاد في بعض حواراته المسرحية.
3. مجموعة من المؤلفين: حاضر النقد الأدبي- مقالات في طبيعة الأدب، ترجمه وقدم له وعلق عليهد. محمود الربيعي، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة، 1998، ص35.
4. المصدر نفسه: ص36.
5. ينظر رونان ماكدونالد: موت الناقد، مصدر سابق، ص15.
6. المصدر نفسه: ص27.
7. آن موريل: النقد الأدبي المعاصر- مناهج، اتجاهات،قضايا، ترجمة إبراهيم أولحيان ومحمد الزكراوي، المركز القومي للترجمة، المشروع القومي للترجمة(1179)، القاهرة، 2008، ص ص14، 18، 19.
8. ينظر جان لوي كابانس: النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، ترجمة د. فهد عكام، ط1، دمشق- سوريا، 1982، ص ص12،13.
9. ينظر رونان ماكدونالد، موت الناقد، مصدر سابق، ص30.
10. مجموعة من المؤلفين: حاضر النقد الأدبي، مصدر سابق، ص47.
11.للوقوف على ما أحدثته المتغيرات العالمية وثورة المعلومات والاتصال في علاقة الناقد بالجماهير، ينظر رونان ماكدونالد، موت الناقد، مصدر سابق، ص ص22،23.
مراجع البحث:
- آن موريل: النقد الأدبي المعاصر- مناهج، اتجاهات،قضايا، ترجمة إبراهيم أولحيان ومحمد الزكراوي، المركز القومي للترجمة، المشروع القومي للترجمة(1179)، القاهرة، 2008.
- جان لوي كابانس: النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، ترجمة د. فهد عكام، ط1، دمشق- سوريا، 1982.
- رونان ماكدونالد: موت الناقد، ترجمة وتقديم فخري صالح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة علوم اجتماعية، المركز القومي للترجمة، مكتبة الأسرة، 2015.
- مجموعة من المؤلفين: حاضر النقد الأدبي- مقالات في طبيعة الأدب، ترجمه وقدم له وعلق عليهد. محمود الربيعي، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة، 1998.
- محمد بن سلام الجُمحي: طبقات الشعراء، مع تمهيد للناشر الألماني جوزف هل، ودراسة عن المؤلف والكتاب لطه أحمد إبراهيم، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، 1422ه- 2001م.