الاشتغال العاملي في رواية "غدا يوم جديد" لعبد الحميد بن هدوقة - دراسة بنيوية –

السعيد بوطاجين من جامعة الجزائر
السعيد بوطاجين من جامعة الجزائر
1 – المدينة – الموضوع
يبدو جليا أن هناك علاقة انفصالية بين الذات والموضوع، بين مسعودة والمدينة، ولتحقيق هذه الرغبة يستلزم خلق علاقة انفصالية أخرى بين الذات والدشرة، وتوفير كفاءة مزدوجة لتحقيق رغبتين متقابلتين: الانفصال عن الدشرة التي تحتل خانة الإيعاز والاتصال بالمدينة - الحلم والقيمة.
أما الدشرة، كما ورد في الرواية،فهي مجموعة من القيم التي تشبه بوعلام باشاغا، الشخصية المرجعية التي وظفتها البطلة للبحث عن دلالة ملائمة لأناس "برؤوس تنتمي إلى قرون أخرى"(1).
إن هذا المكان المغلق، من منظور مسعودة، هو الذي دفعها إلى السعي لتحقيق رغبتها، ومن ثم الاقتران بقدور، كما يبين الملفوظ التالي:
"أيامي ... يالأياميᴉ طفلة، زوج أمي أرغم" قدورا على خطبتي، وأرغم أمي على الموافقة، أنا فرحت، حلمي كان اسمه حينئذ: المدينةᴉ "(2).
ويتدعم هذا الموضوع تدريجيا عن طريق المعاودة، والتكرار اللفظي والمقطعي، ويحدث أن تتجاوز الدلالات برغم التباينات اللفظية والأسلوبية. لكن الموضوع يظل ثابتا، كما يبيّن السرد من الدرجة الأولى:
" وهي لا ترغب في الرجوع إلى الدشرة، ولا تريد استئناف الحياة فيها. انتهى كل ذلك الآن، وقد تزوجت بهذا الرجل الذي يعمل بالمدينة. إنها لم تتزوج الرجل، تزوجت المدينةᴉ(3).
لا يمكن اعتبار شخصية قدور سوى أحد عناصر الكفاءة بالنسبة لمسعودة، أي معرفة الفعل، وهو يدخل في إطار برامجها الاستعمالية d’usage Programme narratif)) التي تمهد لاتصالها بالموضوع المركزي.
لقد ركز الكاتب على هذا العنصر لإبراز العلاقة الحقيقية بين الشخصيتين في ظل غياب المساند القاعدية. إنها علاقة في درجة الصفر، كما يبين السرد المكرر. وبهذه الطريقة يتضح الموضوع القيمي.
" هي رضيت بالزواج من أجل المدينة. "تزوجت المدينة""(4).
ولتأكيد عنصر الرغبة ومنحاه، وتقريب الذات في علاقتها بقدور وبالمدينة، يضيف السارد:
"لو كان لها أن تقول للناس بصراحة، لماذا تزوجت برجل لا يعرف من حياة القرية إلا الطريق الموصل إليها، لقالت بكلمات ملونة: "قدور؟ من هو؟ زوجي؟ لا. خافوا اللهᴉ أنا لا يهمني. لم أتزوج به، تزوجت بالمدينة، بالحلمᴉ آخر رعاة القرية أقرب إلى قلبي منه""(5).
تبين القوانين المنظمة للعالم المحكي تواجد المراحل الثلاث المكوّنة للمقطوعة الابتدائية التي قمنا بتلخيصها في جملة واحدة اعتبرناها نواة. وتتمثل المراحل الثلاث في:
- الفرصة(*)، أي عنصر الرغبة المراد تجسيده.
- التحيين(**)، ويتمثل في طريقة تجسيده.
- الغائية(***)، هي النتيجة التي تؤول إليها الفرضية.
غير أن الغائية، في الجملة السابقة، تبدو خارجية لتعلقها بموجود آخر غير الذي خطط لها، لأن ذهاب مسعودة إلى العاصمة ذات الخبز الابيض واللحاف الأبيض والليل الابيض، مرهون بشخصية قدور.
وللتمثيل على ذلك نقترح الترسيمة التالية:
ما يهمنا في هذه الترسيمة هو المرحلة الثالثة: الغائية، أي عدم تحقيق الرغبة، ومن تم حصول تدهور ناتج عن ظهور عراقيل تسببت فيها عدة جهات دون أن تكون ذواتا بالمعنى الحقيقي، كونها ليست وراء برامج سردية ضديدة تنوي إنجازها لإفشال مخطط البطلة.
وتتجلى هذه المعارضة العفوية في:
- تأخر القطار " القطار لم يصل. وقته حل وهو تأخرᴉ أخرج قدور ساعته من جيب صداره، قرأ عقاربها مليا ليتأكد من الوقت. تم أعادها إلى مكانها. "ماله تأخر؟" مسعودة لم تجرؤ على سؤال زوجها (...) صوت المرأة عورة"(6).
وقد أدى ذا التأخر إلى تصعيد التأزم نظرا للعلاقات السببية التي ساهمت في التدهور التدريجي والابتعاد عن الهدف. وهي عوامل خارجية مرتبظة بممثلين آخرين ساهموا مجتمعين في عرقلة مسعى الذات.
- ظهور رجل المحطة: إن هذه الشخصية لم تتلفظ بشيء ولم تقم بأي فعل لإثارة الآخر. لكن حركاتها العفوية كانت رزمة من العلامات في مكان مغلق مشكل من أربعة ممثلين على الأقل: رجل المحطة قدور، مسعودة. وهناك ممثل مرجعي غائب نصيا والمتمثل في المجتمع، لذا أصبحت الحركات بمثابة أفعال وكلمات في جسد منطوق.
إن هذه الحركات الجسدية، كما يبرز السياق، عدّت "أداة في نظام التبادل/ العلامة"(7). أي أنها، من منظور شخصية قدور، محاولة لاذلاله أمام زوجته. ويتجلى هذا التلقي، المبني على مرجع علامي مشحون بالقيم الثقافية والاجتماعية، في الحوار الداخلي الذي ورد على لسان مسعودة، على رصيف محطة القطار:
" ابتعد أيها الرجل. اقسم لك بهذا السفر – الحلم، ابتعدᴉ لاتثر غضب زوج غيور، يأبى أن تمس النظرات أقدام زوجته"(8).
لذا نعتبر ظهور رجل المحطة مؤشرا لانقلاب الحكاية والبرنامج السردي معا، كونه يمثل إساءة معقدة تسهم في عرقلة مسعى الذات. لأن قدورا سيعتدي على رجل المحطة. ويكون هذا الاعتداء مقدمة لظهور معارض آخر.
- الدركيان كان اقتياد الرجلين من قبل الدركيّين آخر من مرحل التدهور الناتج عن
المقدمات السابقة. وهو بذلك يمثل نهاية الحلم والعودة إلى الحالة الأولية، إلى الوضع البدئي الذي يتسم باللاتوازن.
"بدلة الكاكي، القبعة، المسدس، وهذه اللغة الغرابية بغاآتها المتلاحقة هي التي حالت دون السفر إلى الحلم. تأخر القطار أيضا كان سببا"(9).
نلاحظ جيدا العناصر الجزئية المشكلة لعامل المعارضة من منظور الشخصية وتتمثل في خمسة عوامل ضديدة رغم أنها لا تسهم بضوح في عرقلة مشروع تحقيق الرغبة، أي في اتصال الذات بالموضوع الفرضي: الذهاب إلى العاصمة. ومع ذلك فقد كان لبدلة الكاكي والقبعة والمسدس واللغة الغرابية دور بارز في تعطيل المشروع.
هناك ثلاثة مستويات لوضع المعارض:
- المستوى الأول: المستوى النحوي. عامل: معارض.
- المستوى الثاني: طريقة التجلي، ممثل جماعي: بدلة الكاكي، القبعة، المسدس.
- المستوى الثالث: المستوى الدلالي: القيمة: الاستبداد.
وتمثل اللغة الغرابية غموض الإبلاغ أو اللغة الدخيلة التي تحيل على الاستعمار. إلا أن السياق يبرز عنصرا آخر مكملا للمعارضات الجزئية السابقة، لأن مسعودة تتراجع نسبيا عن رؤيتها ليتقلص عامل المعارضة تدريجيا.
"نقمة مسعودة ليست منصبة الآن على الدركييين، ولا على القطار الذي لم يأت في موعده، إنما على ذلك الرجل الذي كانت دودة تأكل رجليه! لو جلس كسائر الناس وانتظر القطار لكنا الآن في دنيا أخرى! يمشي ويجيء على الرصيف، يمشي ... كأنه يريد أن يرى الناس حذاءه اللامع"(10).
تبين المقطوعة عاملا جمليا دقيقا، إن رجل المحطة لم يكن معارضا للذات ولمشروعها من حيث أنه ليس على علم بعنصر الرغبة.
لو جلس وانتظر وصول القطار لما حصل التدهور. إن مشهد الذهاب والإياب أمام منظر قدور ومسعودة هو الذي أثار غضب الأول فاعتدى عليه. وقد مهد الاعتداء لتدخل الدركيين واقتيادهما إلى المركز. وبذلك ينتهي كل شيء المدينة والحلم والتوازن الافتراضي(****)، فتبقى مسعودة وحيدة على الرصيف المحطة قبل أن يأخذها الحاج أحمد إلى بيته، لتعود فيما بعد، رفقة عزوز إلى دارها.
أما السارد فيعلق على الغائية السلبية بعدة أشكال تصب في الدلالة ذاتها:
" ما أبعد ذلك الأفق الذي تريد أن تعرفه إنه صار الآن أفقا آخر، لا صلة له بآفاقها الزرقاء الحالمة. إنه أفق بعيد، بعيد! لا تصل إليه حتى الأحلام!(11).
تتواتر هذه الجملة بصيغ مختلفة ذات صبغة تأكيدية، تارة على لسان السارد وتارة على لسان البطلة، وذلك للتدليل على مآل البرنامج السردي الذي بدأ بوضعية انفصالية وانتهى إليها، ويحدث أن يأتي التكرار للتدليل على سبب الإخفاق من منظور ذاتي غير مستقر على علامات ثابتة نتيجة انحراف الصوت السردي، ومن ثم لا يمكن تحديد عنصر المعارضة إلا بتجميع العناصر المختلفة الدالة على حصول إساءة أو ظهور موانع حالت دون بلوغ مرحلة التوازن.
"والماضي الذي عاشته مسعودة بالدشرة هو الذي أصبح مستقبلا لها! ذلك الرجل اللعين الذي استفزّ قدور ... هو السبب الحقيقي، "هو" تؤكد على كلمة هو في نفسها حتى كادت تنطق بها"(12).
إن التحولات الممكنة لإنجاز الفرضية عن طريق الأفعال التحويلية اتهت إلى الفشل، وبذلك بقيت الحالة البدئية قائمة. أما ما يبرز استمرارية الوضع الأصل فيعود إلى إمحاء الغائية الداخلية لارتباط الذات بالآخر. لذا يصبح هذا الآخر جزءا من المعارضة لقيامه بتواطؤ عفوي.
أخيرا بإمكاننا سميأة(*****) الجملة النواة بالاعتماد على الترسيمة العاملية التي اقترحها غريماس في كتابة الدلالية البنيوية، بغض النظر عن مقروئيتها وعن الانتقادات التي وجهت لها(******).
تتكون الترسيمة العاملية من ثلاث مزدوجات متباينة من حيث الطبيعة والدور العاملي الذي تقوم به.
أ- مزدوجة المرسل - المرسل إليه:
تعتبر الدشرة الدافع الأساسي الذي جعل مسعودة ترغب في الانفصال عنها، وتبدو الدشرة على مستوى الصرفي عاملا مفردا، غير أنها في الحقيقة الأمر، عامل جماعي من حيث أنها تحتوي على مجموعة من الأفراد والقيم التي تجلت نصيا، عكس خانة التلقي التي تألفت من ممثل واحد يكون المستفيد من الحركة المكانية المزدوجة: انفصال، اتصال. وتؤدي في هذه الحالة، وظيفة نحوية مزدوجة، كون شخصية مسعودة تحتل خانتين متباينتين: التلقي، الذات الموجه للرغبة.
ب- مزدوجة الذات - الموضوع:
ثمة ممثل واحد يؤدي دورا عامليا على مستوى خانة الذات، لأنه لا توجد شخصية ثانية تشترك مع مسعودة لتحقيق عنصر الرغبة المتمثل في الانفصال عن القرية - القيمة والاتصال بالمدينة، في حين يظل الموضوع مجردا، ولو أن هناك إشارات دالة على أن المدينة نقيض القرية. مدينة الخبز الأبيض واللحاف الأبيض والليل الأبيض، وهي علامات حاملة الدلالة يمكن أن تنتقل من خانة الموضوع إلى خانة المرسل، كونها تساهم بشكل من الأشكال في تدعيم رغبة الذات وتقويتها.
جـ - مزدوجة المسندة - المعارضة:
تبدو الذات الرئيسية وحيدة في مسعاها الهادف إلى خلق حالة توازن نقيضة للوضعية الأولية. وذلك لخلو المساندة من الممثلين الذين يسهمون في تحقيق الرغبة، ما عدا إذا أخذنا قرار عزوز بتزويج مسعودة بمثابة مساعدة، غير أن القراءة السياقية ستثبت أن فعله يهدف إلى تحقيق موضوع آخر.
ويبقى عنصر المعارضة ثريا من حيث عدد الممثلين الذين يسهمون في القيام بدور عاملي واحد. هناك الدركيان، وهناك القيم التي تختفي وراء القبعة وبدلة الكاكي والمسدس واللغة الغرابية، إضافة إلى فعل ـأخر القطار الذي نعتبره جزءا من العراقيل. وفي الأخير نجد التواطؤ العفوي لقدور الذي اعتدى على رجل المحطة مما أدى إلى تأجيل السفر.
ولتبيان كيفية إنتشار العوامل واشتغالها، نقترح الجدول التالي يوضح مكونات الترسيمة العاملية والوضعيات التي تحتلها مختلف العوامل من منظور النحو السردي.
نشير إلى أن الخانة الثالثة مشكلة من عناصر ضمنية، لأن الدشرة - الحافز ليست مجرد تجمعات سكنية، إنها علاقات وقيم تجلت في ألفاظ مثل: الرتابة، الخصاصة، ضرة الأم، العذاب. وقد عبر عنها الراوي في حديثه عن رجل المحطة كما تبين هذه المقطوعة السردية:
"لعنة الله عليه" هي الكلمة التي عبرت بها عن حنقها على الرجل. وفعلا، لقد سوّد حظها بعد أن أوشكت على الإفلات نهائيا من حياة الرتابة والخصاصة، وكلمات ضرة الأم اللسعة، وعذاب الدشرة! لو كانت تدري أن زواجها لن يبلغ أبعد من هذه المحطة الكالحة المحترفة لما قبلت، ولو قطعت أطرافا"(13).
كما أن هذه الدشرة تتحول مع تقدم الحكاية إلى معارض، في حين يختفي المعارضون الآخرون، إن نحن أخذنا بعين الاعتبار ما ورد على لسان مسعودة، في مرحلة متقدمة من القص، إذ تتراجع عن مواقفها السابقة كي تسند الخطأ إلى القرية وحدها:
" أغفر لرجل المحطة أحقادي الماضية عليه، أعدّ تلك الدموع على حساب أقداري أنا. إنّه في حلّ من كل ذلك منذ الآن. لم يكن هو السبب فيما وقع لي. القرية هي السبب"(14).
أما العامل - المتلقي فيبدو منطقيا لأن مسعودة هي المستفيدة الوحيدة من الذهاب إلى العاصمة، رغم وجود بعض الإشارات الدالة على أن عزوزا قام بتزويج مسعودة لغرضين اثنين:
- التخلص منها.
ويظهر هذا عنصر في تساؤل الدركيين العربي والفرنسي عندما يعلمان أن عزوزا هو صهر قدور:
"عزوز، أو سي عزوز، كيف يمكن أن يصاهر هذا البائس؟ لكن اندهاشهما يزول عندما يعلمان أن المرأة ليست بنته"(15).
- الطمع في الأراضي:
يؤكد هذه النقطة الملفوظ الذي ورد على لسان البطلة لحظة اعترافها للكاتب بالجوانب المتعلقة بحياتها الماضية:
" زواجي بقدور لم يكن صدفة، كان سببه الأول طمع عزوز في بستان قدور وفي قطع الأراضي التي تركها لي أبي"(16).
كما يؤكد الغرض من مصاهرة قدور ما ورد على مستوى السرد من الدرجة الأولى، إذ كانت الأم تدرك جيدا الهدف الذي كان يصبو إليه زوجها عزوز من وراء تزويج ابنتها برجل لا يناسبها سنّا:
" إن زواجها برجل يكبها سنا ويأخذها إلى ديار الغربة، ولو المدينة تعتبره الأم شيئا مؤلما. إن عزوزا هو السبب. إنه رجل جشع، قاس، ظالم، يبيع أمه، لو كانت له أم من أجل المال! كل شيء عنده يباع"(17).
وبتغيير الزوايا النظر إلى الموضوع المبأر، تتغير الرؤية الناتجة عن تعدد الأصوات السردية كخاصية مهيمنة تتكرر باطراد. مع ذلك بإمكاننا اعتبار شخصية عزوز مستفيدة أيضا، ولكنها مستفيدة من زواج قدور بمسعودة وليس بالمدينة كقيمة مستقلة عن القيم التي يمكن أن تحملها العوالم الأخرى. لذا لا يمكن إدراج عزوز في خانة المرسل إليه، لأن سهم الرغبة في الترسيمة الماضية يتجه نحو المدينة - الموضوع، في حين أن رغبة قدور تتركز على الزواج الذي يحمل قيمة أخرى مختلفة عن قيمة المدينة. كما أن شخصية عزوز توجد وراء رغبات صغرى تؤلف مجتمعة الخط العام الذي انتهجه عزوز لفرض نفسه على الدشرة. لذا أفردنا لهذه الشخصية حقلا خاصا رغم أنها قد تبدو ثانوية إذا قورنت ببعض الشخصيات التي اعتبرناها رئيسية. لأنّ هذا التصنيف، من منظورنا‘ يظل مجرد مقاربة بحاجة إلى ضبط الأسس التي تعتمد عليها أثناء التقويم والتوزيع(*******). هل يتم الانطلاق من عدد تجليات الاسم نصيا أم بالقيام بعملية إحصائية للأفعال المسندة إلى الممثلين؟ لأن ظهورا عرضيا واحدا قد يحول مجرى الأحداث تحويلا جذريا. ويحدث أن يكون البطل غائبا.
2 - الكتابة - الموضوع
يجب الإشارة مسبقا إلى أن طريقة بنينة الجملة قد تقوم بتعديل بعض الأدوار العاملية أو انحرافها، لذا حرصنا على تثبيت البنى الجملية في علاقاتها بالسياق العام للمقطوعة المستقلة بنائيا ومعنويا.
من الأهداف الأساسية للبطلة تعرية الماضي بمجموعة من الانطباعات والاعترافات والتأويلات المتحولة تتخلص في جملة واحدة. مسعودة تطلب من الكاتب تدوين قصة حياتها.
تتشكل هذه الجملة النواة من ثلاثة عوامل: مسعودة، الكاتب، الحكاية، وتتوزع على زمانين: الحاضر، الماضي، وعلى مكانين: المدينة، الدشرة. ويشكل هذا الإطار الزماني - المكاني المخطط السردي العام لحياة الشخصية وتنقلاتها.
إضافة إلى الموضوع الفرضي الأول، المتمثل في الذهاب إلى المدينة، هناك موضوع أخر يجاور الأول: الذهاب إلى الحج. ولا يتحقق الموضوع الثاني إلا بعد كتابة قصتها، وللتوضيح أكثر نقترح هذا الجدول لإبراز كيفية انتظام البرامج السردية التي سنعتمد عليها لدراسة مختلف البنى العاملية.
نلاحظ أن الذات في العلاقة انفصالية بثلاثة عوامل، أي بثلاثة موضوعات تنوي إنجازها: الذهاب إلى المدينة، تدوين قصة حياتها، وأخيرا الذهاب إلى الحج. أما ما يتخلل هذه الرغبات الأساسية فيمكن اعتباره رغبات صغرى تبرز في عدة أشكال:
- الأحكام المعيارية.
- الأفعال التأويلية.
- الوظائف الانفعالية.
وتتمثل هذه الأخيرة في الوظائف الانفعالية للغة، أي "التعبير عن العواطف المرسل ومواقفه إزاء الموضوع الذي يعبر عنه. ويتجلى ذلك في طريقة النطق مثلا، أو في أدوات لغوية تفيد الانفعال"(18).
غير أن هذا لا يعني أن الرغبات الصغرى عديمة الأهمية، إذ إنه بإمكاننا أن نفرد لها ترسيمات عاملية أو برامج سردية في حالة تعاملنا مع البنى الجملية الصغرى.
تبدو الجملة المنتقاة مبنية على علاقة انفصالية ومتى حققت الذات - الموضوع الفرضي، فقدت وظيفتها العاملية، غير أن الرواية لجأت إلى البناء التدريجي للوقائع والأحداث، بحيث لم تتحقق الرغبة إلا ببلوغ الصياغة النهائية للمخططات السردية التي سطرها الكاتب.
لكن الإشكالية المطروحة تمكن في تحديد العوامل وضبطها، لأن اللعب الاستبدالي، القائم على محور الاختيار، يجعل الجملة ذات بنيتين مختلفتين تسهمان في استبدال وظيفة بأخرى. لذا فإن جملة: مسعودة تطلب من الكاتب تدوين قصة حياتها. أي أنها تكون مرسلا في الحالة الأولى وذاتا في الحالة الثانية، وبهذا سنصبح أمام جملتين مختلفتين:
- مسعودة تطلب من الكاتب تدوين قصة حياتها.
- أكتوبر يدفع إلى تدوين قصة حياتها.
تبين الجملة الأولى الوظيفة العاملية للشخصية الرئيسية: مرسل، في حين أن السارد يكون ذاتا.أما القراءة الثانية فتظهر أن مسعودة هي الذات لأن لها رغبة تنوي تحقيقها بإيعاز من "أكتوبر" كما يبين النص. وما السارد سوى الشكل التحييني اللازم لتحقيق الرغبة. وبذلك يصبح السارد ذاتا في الجملة وموضوعا في جملة أخرى. وفي الحالة الأخيرة، يمكننا اعتباره عنصرا من عناصر كفاءة الذات - مسعودة، إلا أننا توخيا للاقتصاد، ارتأينا التعامل مع البرنامج السردي الموالي، الذي سيتبع لاحقا بترسيمة عاملية شاملة.
في حين أننا لا نعثر على أي برنامج سردي ضديد نتيجة غياب المعارضة أو الرغبات المناقضة، أما السارد فيبدو شخصية منفذة لا أكثر، لأنه كان يتلقى الأفعال الطلبية دون مساءلة.
ولتفادي هذه الملابسات سنعتمد على بعض الجمل من شأنها تبيان تموقع السارد والمسرود له انطلاقا من مطلع الرواية حيث تبدو الوظيفة الغالبة محددة وواضحة.
العامل والجملة الاقتضائية:
يتميز مطلع الرواية بهيمنة الجمل الاقتضائية الهادفة إلى التأثير على الملتقي الذي سيغدو مرسلا(********). بالإضافة إلى محاولة توجيه طريقة الكتابة لتحقيق الموضوع المركزي حسب ال1صيغة التي تريدها الذات، ومن ذلك ما ورد على لسان مسعودة في قولها:
"اكتب قصتي بما تعرف من كلمات وإيماءات جميلة، كتابتي أنا لا أستطيع أن تتحمل الهواجس والمكنونات، اكتب ما أقصه عليك بكلماتك، ما يملأ رأسي لا تفنيه كلماتي. أنت تستطيع الكتابة الملونة، كل الذين يزورنني قالوا: إن في كتابتك صمتا يتكلم، وأحرفا لا ترحم، تصرف كما تشاء في حكايتي. لك مطلق الحرية، اكتب بالألوان التي تروقك. كلماتي أنا منسوجة بالأبيض والأسود، تصلح للتوثيق فقط. هي غطاء عادي كأغطية الرحل. كلماتك أنت زرابي يفترشها النظر قبل الفكر"(19).
مثل هذه التضخمات النصية، الدالة على التراخي الناتج عن الانطباعات، منشرة بكثرة. لقد سعت الذات على إنجاز موضوعها الفرضي مركزة على النوع الإبلاغي المناسب لتدوين قصتها. لذلك تعود ثانية إلى التأكيد على الملتقى - السارد:
"أكتب كل ذلك، لكن بصياغة أخرى، كلماتي أنا قديمة لا تجدب أحدا. أريد أن تكون قصتي جميلة، قصة بلا جمال تصبح حياة عادية"(20).
تبين المقطوعتان البناء التقابلي المرتكز على ثنائية أنت عكس أنا. أما الملفوظات المتقابلة فيمكن إدراجها ضمن الشكل التحييني، لتغدو في النهاية طرفا من أطراف الموضوع الأساسية. كما أنهما تحيلان بشكل جلي على تموقع الطرفين كما يبين الجدول الآتي:
بغض النظر عن الرغبات الصغرى، التي تشكل بمفردها مثلثات عاملية، فإن البطلة - الذات تستمر في التأكيد على الجوانب الجمالية التي تخص قصة حياتها. إنها تدرك جيدا موقعها وموقع الكاتب من حيث البلاغ. لأن الكاتب يمثل
القدرة على الكتابة وإعادة صياغة المروي، في حين أن كلماتها لا ترقى إلى مستوى التدوين.
إننا نعتبر هذه المقطوعات طريقة لإقناع الكاتب، الشكل التحييني، بضرورة الكتابة وفق منطلقات فنية مقنعة، لذا أمكننا الإبقاء على مسعودة ذاتا واعتبار الكاتب طرفا من أطراف الكفاءة الضرورية لبلوغ الهدف، لكن هذا لا ينفي قيامه بوظيفة نحوية مزدوجة، إن نحن أخذنا بعين الاعتبار الجوانب الاستبدالية للبنى الجميلة، إضافة إلى بروز مقطوعات صغرى دالة على الانحرافات العاملية، كما يبين الجدول:
تقوم مسعودة بسرد مجموعة من الوقائع والأحداث اعتمادا على السرد الشفوي، أما الكاتب فيتلقي الملفوظ ويعيد صياغته وبناءه من جديد ليغدو منتجا لجزء من الملفوظ ومرسلا له. في حين ينزاح الدور العاملي للذات المتلفظة الأولى لأنها تستمع إلى حكايتها وفق نسيج جديد. "أعدك الآن تستريح من هذه الثرثرة. وغدا، أو بعد غد تعد شيئا، عد إلى واقرأ علي حياتي يا ابن قريتي"(21).
لذا تصبح مسعودة في الخانة التلقي. وفي المرحلة الأخيرة ستكون مستفيدة بمعية أبناء الأثرياء من الحكاية المدونة.
تقول البطلة في سياق آخر:
"اكتب ما أمليه عليك، وما تعرفه أنت، لا يهم، اخلط الجميع، الحياة واحدة. جميع المسحوقين تقاسموا آلامها. جميع الأشقياء مثلي ومثلك، غرّتهم أحلام زرقاء، وخطب خضراء في سنوات الجفاف"(22)
في هذه المرحلة يتساوى العامل المرسل مع العامل المتلقي من حيث القيمة، كما يظهر في قولها مثلي ومثلك. وتستمر أفعال الأمر الدالة على الطلب. لكن الاختلاف الوحيد يمكن في الطريقة تشكيل المادة المحكية: ما أملية عليك، وما تعرفه أنت. هناك خروج من المعرفة الكلية للذات المتلفظة بإشراك المتلقي - المرسل الفرضي. الأمر الذي تؤكده المقطوعة الآتية، تقول البطلة للكاتب:
"اذهب إلى القرية. حيث الناس، اسألهم عن حياتهم هم، لا عن حياتي أنا لأنهم لا يعرفونها، سوف تجد منها صورا من حيلتي (...) كنت جزءا منها، كما هم الآن سكانها جزء منها. أبناء الأرض الواحدة يشكلون نموذجا واحدا. التربة والهواء والماء والشمس هي المكونات الأولى"(23).
نستشف من خلال المقطوعة استمرارية نمو الموضوع الصيغي المؤدي إلى الاتصال بالموضوع الفرضي: تدوين قصة الحياة. كما يمكن أن نلاحظ ظهور نقطتين.
- تشابه الجزء مع الكل، وهكذا يصبح الحديث عن القرية وناسها حديثا عن البطلة، وشكلا من أشكال الإلمام بموضوع الذات.
- ضرورة انفصال الكاتب عن المدينة والاتصال بالقرية، كما فعلت مسعودة بطريقة عكسية. ومن هذه الحركة يتم الحصول على المعرفة الضرورية للإلمام بمادة السرد.
ندرك مما سبق إمكانية حصول انفجار على مستوى الموضوع الصيغي إلى فروع أخرى: القرية، الناس، الكاتب. إذ أنّه لا يتم تقديم الحكاية، كما تريدها الذات، إلا باجتماع هذه العناصر. غير أن هذا التوسع المكاني القيمي يقابله حصر على مستوى شكل القول ومحتواه:
"إياك أن تمسخني بقلمك (...) أرجوك صورني كما يملي عليك خيالك، إلا المسخ! ... ضعني حيث شئت. لكن الأحداث، اروها بصدق الأديب، لا بصدق المؤرخ"(24).
يبين هذا الملفوظ، نوعية العلاقة بين الذات والموضوع الفرضي. إذ أنّه بالإضافة إلى إلحاحها على ضرورة تحقيق الرغبة الكبرى، فإن هذه الرغبة تغدو نوعية عندما تشترط الذات تدوين قصة حياتها بصدق الأديب لا بصدق المؤرخ. ومن ثم فرضية الصعود بالواقعي إلى مستوى الخيالي سواء بالحذف أو بالإضافة.
إن هذا الصدق لا يمكن أن يحدد بصفة متناهية كونه يندرج في إطار "المنطق المفتوح للدوال"(25). كما أنه يرتبط بمستويات التلقي لأن الكاتب، حسب المقطوعة السابقة، سينتقي مجموع الأحداث التي يتعامل معها وفق المنطلق جمال خاص. كما أن عملية التدوين لن تكون حرفية أو إملائية، إن نحن أخذنا بعين الاعتبار توجيهات الذات المتلفظة الملفوظة.
بإمكاننا الاستعانة بترسيمتين عامليتين لإبراز كيفية انتظام مواطن الخيال والعوالم الحكائية.
تبرز الترسيمة كيفية انتظام الشخصيات وتموقعها في الخطاب السردي المشمول. مع الإشارة إلى أننا تعمدنا قلب بنية الجملة النواة لإظهار بعض الانزلاقات العاملية. يعني أننا سنصبح أمام قراءات مختلفة لأن مسعودة، الذات الفرضية ستحتل خانة الارسال وتدفع الكاتب - الذات الذي يعتبر جزءا من الكفاءة، إلى كتابة القصة. وفي هذه الحالة سيبرز خلل في البنية العاملية لأن الكاتب غير مرتبط برغبة معينة ينوي تجسيدها. لذا نفصل الإبقاء على الجملة - النواة التي ثبتناها سابقا.
مزدوجة المرسل - المرسل إليه
إن ما يثير الانتباه في هذه الترسيمة هو ثنائية الإرسال والتلقي باعتبار أكتوبر حافزا خارجيا، وعادة ما تكون هذه مشكلة من حوافز داخلية توجه حركات الذات، مع احتمال عدم القدرة على تحديد الأسماء والألفاظ والقيم المجردة لتي تحتل هذه الخانة.
تقول البطلة:
""أكتوبر"" انطقني! أكتوبر الجزائر ... كنت أراه قبل يصل! الأطفال الذين ولدوا بالرغم من آبائهم، لا يمكن أن يسكتوا إلى ما لا نهاية، الأطفال الذين ولدوا في الأكواخ القزديرية التي بنتها لهم قصور الاستقلال، لا يمكن أن يسكتوا إلى ما لا نهاية"(26)..
نعتبر أكتوبر قيمة مجردة ذات دلالة ذاتية مبينة على دلالة نقيضة تتمثل في نوفمبر، كما يوضح هذا الملفوظ الوارد على لسان مسعودة:
"من ذا كان يتصور أن نوفمبر العظيم يلد أكتوبر، تلك أخطاء الأمس. ظننا الحرية توحد بيننا كما وحدنا الخوف"(27).
أما خانة المرسل إليه،المكونة من عامل جماعي\ن فإنها ذات صبغة قيمية أيضا، لأن عملية تدوين قصة حياتها تهدف إلى خدمة غايتين:
- تعرية أبناء الأثرياء بتعرية الماضي الذين هم جزء منه، وقد ورد بصيغ كثيرة متواترة نذكر منها قولها:
"اكتب من ذلك، أرجوك، قصة يقرأها الأطفال الذين ولدوا في المستوصفات والمستشفيات، ودثروا في القطن الناعم. حدثهم عن الأطفال الذين ولدتهم أمهاتهم على أدخنة الحطب الأخضر. ولدتهم وأيديهن ممسكات بحبال معلقة في السقوف السوداء"(28).
هناك مجالان تصويريان متقابلان يرتكز عليهما ملفوظ الذات: الغنى، الفقر، وهما يرتبطان بالسياق من حيث الدلالة. أما الهدف من هذا البناء التقابلي فيهدف إلى الكشف عن الأسباب التي أدت إلى أكتوبر.
إنها مقابلة بين الماضي والحاضر، بين الفضيلة والرذيلة حتى يدرك أبناء الأثرياء الحقيقة - الرذيلة.
"أكتوبر أنطقني (...) أدخنه الغازات والسيارات والبنايات المحترفة، أزير الرشاشات والبنادق والدبابات ذكرني في 11 ديسمبر، وأياما أخرى ... لكن دماء أكتوبر سالت في الشارع الذي بنته الرذيلة والنسيان! دماء ديسمبر سالت في الحلم الأخضر! ذلك هو الفرق"(29).
نلاحظ جيدا أن خانة الإرسال بدأت تتسع شيئا فشيئا، ولم يعد أكتوبر الإيعاز الوحيد، هناك الماضي الذي يعد جزءا من حياة الشخصية وهناك الحاضر بقيمة المتعارضة مع القيم الماضية، من منظور ذات الشخصية.
مزدوجة المساندة - المعارضة:
لا يوجد في حقيقة الأمر، برنامج سردي ضديد يسهم في عرقلة الذات، ولا توجد مساندة حقيقية للذات، إن نحن استثنينا بعض القيم المجردة، كالثقة في النفس مثلا، ويظهر الكاتب، في بعض الأحيان، مساندا، غير أننا لم نغامر لوضعه في هذه الخانة ما دام عنصرا من عناصر الكفاءة. وما غياب الحالات الصدامية إلا دليل انتقاء عنصري المساندة والمعارضة، وسير الحكاية في خط أحادي.
مزدوجة الذات - الموضوع:
هناك ذات واحدة ممفردة تسعى وراء توجيه سهم الرغبة نحو الموضوع - الفرضي، مما يؤكد وحدتها في ظل غياب عنصري المساندة والمعارضة، وإذا كانت الذات عاملا ممفردا ومشخصا فإن موضوعها ممفرد ومجرد من حيث التجلي النحوي ومن حيث القيمة، لأن فكرة تدوين قصة الحياة بوقائعها اللفظية والفعلية هي فكرة ذات أبعاد خطط لها مسبقا. لكنها قد تنزلق في بعض مراحل الرواية عندما يكون هناك حديث عن الأفراد والجماعات. أي أن موضوع - الذات يحتوي على عدة موضوعات جزئية تشكل مجتمعة الموضوع المركزي، لذا تصبح عملية تعرية الماضي والحاضر شاملة جامعة لأنها تمس شخصيات عديدة. لكن هذه الشخصيات المعمارية أحيانا، هي مجموعة من القيم المتضاربة المحتواة في المخطط السردي العام. لذا يغدو الحديث عنها حديثا عن القيم التي تحدد هويتها، أي أن القيمة ستلعب وظيفة البطاقات الدلالية المميزة لها.
الانزلاقات العاملية:
ذكرنا سابقا كيفية اشتعال النظام العاملي وتداخله أثناء ظهور بعض الانزلاقات الوظيفية لحظة تجلى الاستبدالات السردية وقيام السارد مقام الآخر. تقول مسعودة معلقة على طريقة التأليف:
" أعجبني أنك بدأت بالمحطة. شأن القطار في حياتي شأنه في ... النهضة الصناعية في أوربا، هو ذاك. من المحطة ابتدأت حياتي تدخل إلى العالم. كنت قبلا في شبه غيبوبة"(30).
وقولها في مرحلة لاحقة معلقة على التقنيات السردية التي استغلها الكاتب لعرض الشخصيات:
"ذكرت أبي على لسان عزوز، وذكرت قدورا على لسان أمي بالخصوص. أنا أقول لك أشياء أخرى عنهما تفصيلا:
لا يولد الإنسان إلها ولا نبيا ولا بطلا. ولكن قد يصير كل ذلك إذا تقاطعت الصدف في الوقت المناسب في نقاط معينة وفي مكان معين"(31).
نشير إلى أن المقطوعتين تبقيان على السارد ذات ملفوظ: بدأت، ذكرت. لقد كان ذات قول عندما شرع في التدوين. أم انحرف الدور العاملي عندما انتقل من القول - الفعل تاركا المجال للشخصية لإبداء الرأي.
إن البطلة لا تقوم بالسرد الشفوي وحسب، إنها توجه السرد المكتوب وتؤول أيضا، ويتم ذلك وفق منطلق بؤري خاص، بالاعتماد، في أغلب الأحيان، على سرد ذاتي صرف، أن يتدخل الكاتب، المرسل والمتلقي في نفس الوقت، في توجيه الحكاية والتعقيب على الأقوال. إنه في حالة إمحاء كلي لحظة السماع. ثم ينتقل تدريجيا من خانة التلقي إلى خانة الإرسال عندما تتخلى عن السرد لتسنده إلى الكاتب - الراوي، في اللحظة التي تشاء، ولكن ذلك لا يحدث إلا بعد أن تضيف مجموعة من الأخبار والوقائع المتعلقة بالشخصيات، بالطريقة التي تريدها هي، فبعد أن تعرض وتعلق الأحداث والصور معا تسند الحكي للكتب. لقد تحدثت عن قدور كما تراه، بسيط، طيب القلب، غيور، شرفه زوجته، لا شيء يربطه بالقرية سوى عمته التي يزورها في كل صيف ويقضي أيامه بالمقهى في لعب الدومينو، إلى أن تقول للكاتب:
"أدعك الآن تواصل قصة قدور"(32).
عند هذا الحد يبدأ الكاتب - السارد في إتمام الأجزاء الخفية الأخرى التي أغفلتها البطلة. فيقول:
" في بداية كان السكان يسخرون منه، من سرواله الطويل الأزرق والجبة البيضاء فوقه وشاشيته الحمراء التي يشدها بمنديل فوق رأسه ..."(33).
تمثل هذه الانفصالات والاتصالات شكلا من أشكال التداول السردي عن طريق اللعب الاستبدالي المحكم.إذ أن الكاتب وشخصيته يتوزعان على خانتين متباينتين من بداية الرواية إلى خاتمتها، وكلما توقف أحدهما عن القص عوضه الآخر، الشيء الذي أدى إلى تشابك الأدوار العاملية وانزلاقاتها المتكررة.
يقوم الكاتب بعدة وظائف من حيث أنه:
- يستمع إلى الحكاية الشفوية التي تعرضها الذات المتلفظة: متلقي.
- يعيد نسجها وفق منطلقات جمالية خاصة: مرسل.
- يستمع إلى تعليقات البطلة حول شكل الكتابة: متلقي.
- يعيد نسج الحكاية من جديد: مرسل.
في حين تقوم مسعودة بالأدوار الآتية:
- ذات الملفوظ، وذلك عندما تقص حكايتها.
- موضوع التلفظ، عندما تكون موضوع للسرد.
- متلقي الملفوظ، عندما يقرأ عليها الكاتب جزءا من الحكاية المدونة.
- ذات ملفوظ، عندما تصحح طريقة الكتابة أو تعقب على الكاتب.
وللتدليل على ذلك نقترح العينة الموالية: تقول مسعودة للكاتب، معلقة على طريقة الكتابة:
" بهذه الجلسة أعدتني إلى بدايات الحلم وبدايات الجرح! لماذا لم تكمل القصة كما حكيتها لك. قصة خديجة لا تقبل التجزئة. هي كل بلا أجزاء. قصتي أنا، نعم، تقبل التجزئة"(34).
المقطوعات التحتية:
أردنا من خلال العنوان تبيان مدى قدرة الجملة على استيعاب عدد كبير من الأدوار العاملية التي تتطلب عملا تجزيئيا غاية في الدقة.
إضافة إلى انفصال السارد عن موضوعه، في المقطوعة السابقة، وانتقال السرد من الدرجة الأولى إلى الدرجة الثانية، ومن ثم تغير الأدوار العاملية، تبدو الأفعال والذوات المشكلة للجملة نموذجا مثاليا لإبراز صعوبة التعامل مع المقطوعات التحتية في عمل روائي بحجم "غدا يوم جديد".
تتكون المقطوعة من عوامل ارتأينا توزيعها على الشكل الآتي:
- أعدتني إلى البدايات الحلم وبدايات الجرح.
- لماذا لم تكمل القصة.
- كما حكيتها لك.
- قصة خديجة لا تقبل التجزئة.
- قصتي أنا، نعم، تقبل التجزئة.
تبين الجمل الخمس إمكانية تقسيمها إلى وحدات صغرى تحتوي على مجموعة من العوامل التي تؤثر بشكل واضح على البنية الكبرى.
- أعدت (ن) (ي): الراوي / مسعودة ذات/ موضوع.
- لم تكمل القصة: الراوي / القصة ذات/ موضوع.
- كما حكيت (ها) لك: مسعودة / القصة / الكاتب ذات / موضوع / متلقي.
- قصتي تقبل التجزئة: القصة / التجزئة ذات / موضوع.
- قصة خديجة لا تقبل التجزئة: القصة / الوحدة ذات / موضوع.
تظهر الجمل السابقة غنى الأدوار العاملية على مستوى المقطوعات التحتية إن نحن لجأنا إلى النحو السردي وأولينا اهتماما خاصا لكل البنى الجملية الواردة في النص الأكبر.
إن الجملة الأولى مؤلفة من عاملين. الكاتب السارد الذي يقوم بدور الذات، والموضوع المشخص، أي الضمير المتصل الدال على مسعودة، أما الجملة الثانية فتتكون من عاملين أيضا، هناك السارد الذي يقوم مقام الذات، وهناك القصة - الموضوع التي تلقاها من الساردة.
وتتكون الجملة الثالثة من ثلاثة عوامل، تكون فيها مسعودة ذاتا باعتبارها المتلفظة، وتشكل القصة موضوع فعل التلفظ. في حين يحيل الضمير على الكاتب المتلقي.
في الجملة الرابعة تكون القصة ذاتا ما دامت تقوم بدور عاملي، كونها لا تقبل التجزئة، الموضوع المجرد.
ختاما فإن الجملة الخامسة تحتوي هي الأخرى على دورين عاملين. هناك القصة الذات، وبالمقابل نجد تركيب عدم التجزئة. ومن ثم فإنّ فعل القبول مسند إلى قصة مسعودة.
لقد اقترحنا هذه النماذج التحليلية لإبراز مدى تشابك الأدوار العاملية، في حالة تعاملنا مع أجزاء المقطوعة، وهي الطريقة التي انتهجها "غريماس". لكننا فضلنل تحليل المقطوعات المفاتيح لإظهار الجوانب البنائية للحاطب، بغض النظر عن البنى العاملية الصغرى المشمولة في النسق.
3 - الزاوية - الموضوع:
تبدو هذه المقطوعة مستقلة عن المقطوعات الأخرى التي تتمفصل حول شخصيتي مسعودة وقدور أو حول مسعودة والكاتب، وقد أدمجت في الحكاية للكشف عن ثلاث علاقات:
- مسعودة / رجل المحطة.
- مسعودة / الحبيب.
- الحبيب / رجل المحطة.
تقول مسعودة للكاتب أثناء حديثها عن الحبيب:
" لا يهم إن أحبّ تونسية أو مغربية، أو عربية أخرى، لا أغار. يكفيني أن رآني وأحبني. أنا أيضا أحببته (...) أحببته كما قلت أنت على لسانه: حبا عديما"(35).
كما تشير المقطوعة القادمة إلى التشابك العلاقات بين هذه الشخصيات، وبينها وبين الكاتب نفسه، بحيث تكاد تشكل بمفردها قصة مستقلة أو رواية داخل رواية نتيجة الطابع التضميني الذي احتل حيزا نصيا معتبرا.
يقول الكاتب معلقا على الرجل المحطة الذي كان سببا في عدم ذهاب مسعودة إلى العاصمة:
" لابد أن أحكي لها القصة، وفاء بعهدنا، أقول لها: إن الرجل الوسيم الذي كان يغدو ويروح بالمحطة يوم أن كنت مسافرة إلى الحلم، كما تقولين، إن ذلك الرجل الذي ضربه قدور، وسجنا معا، وكان سبب رجوعك إلى الدشرة وسبب تعرفك غلى الحبيب، هو صديق الحبيب (...) ,ان الحبيب حكى له قصتك، وأنه يعلم جزءا هاما من حياة قدور بالسجن والمحجز، شيء واحد لا أقوله لك: من هو الرجل؟ ما اسمه؟ (...) لقد أقسمت له بذلك"(36).
يتضح من خلال الاستشهادين أن تضمين هذه المقطوعة الكبرى هو محاولة لإضاءة جانب مبهم من العلاقات المركبة المذكورة آنفا، لذا أفرد الكاتب مساحة معتبرة للإحاطة بها، وبقي محافظا على خيط يؤدي إلى المجاورة الدلالية. أي أن طريقة العبور إلى المقطوعة الجديدة اعتمدت على التشابه الأصغر(37)، كما يوضح الجدول:
اعتبرنا المقطوعة الثالثة شبه مستقلة نظرا لخصائصها العامة. لقد بقيت محافظة على المماسة الدلالية لتغيير الأحداث تغيرا جذريا والإبقاء على شخصية مسعودة كخيط يجمع المقطوعتين والشخصيات الأخرى، دون أن تكون هناك مجاورة دلالية كلية. إضافة إلى ذلك، نلاحظ استبدال المسرود بمسرود آخر واستبدال الذات بأخرى، لذا برزت رغبات جديدة وموضوعات مستقلة.
تبدأ المقطوعة الثالثة، التي لخصناها في جملة واحدة، الحبيب يريد الذهاب إلى الزاوية، بقول السارد:
" اسمعي إذن من البداية بالكلمات المكتوبة (...) والبداية هي هذه:
" من نفس المحطة التي رأيتها لأول مرة في حياتك، كان أول سفر قام به الحبيب في حياته. تمرد على أبيه الحاج أحمد، كره حياته المتكررة بالقرية والصور المتكررة والقراءة المتكررة""(38).
يتضح جيدا أن دخول الحكاية الجديدة حدده السارد بقوله: والبداية هي هذه. من هذه النقط بالذات تبتدئ الحكاية المضمنة بمقدمة وعقدة وخاتمة وشخصيات مختلفة، أي بتوفر كل العناصر الضرورية للحصول على مسرود متباين. كما نستخلص من المقطوعة نفسها وحدات تركيبية ذات وظائف متميزة على مستوى البنية العاملية: الحياة المتكررة، الوجوه المتكررة، الصور المتكررة، القراءة المتكررة.
إن هذه الوحدات الأربع، التي وردت في شكل نعوت تصف حالة ثبات ولا توازن، ستكون بمثابة حافز أولي يدفع الذات إلى البحث عن النقيض، أي الذهاب إلى الزاوية والتخلي عن القرية.
ويمثل الحافز الثاني رجل المحطة وصديق الحبيب الذي حقق بعض توازنه بذهابه إلى الزاوية قصد الدراسة. وهذا التوازن هو الذي دعم حالة اللتوازن التي يعشها الحبيب، فبعد أن سمع أشياء كثيرة عن الزاوية وما تحتويه من كتب لا يعرف عناوينها، وبعد أن حدثه صديقه عن مختلف العلوم التي تدرس هناك، ورآه في تلك الهيئة التي أصبحت تمثل شخصا آخر سواء في الحديث أو في شكل اللباس، عندها ازداد احتقاره للقرية والناس وللباسة الذي يشبه كومة من القماش على حد تعبيره. وأدرك أن عليه هجرة القرية لأنها لا توفر له شيئا.
" لم تبق إذن إلا موافقة الشيخ أحمد، لو أعطاه من المبلغ الذي يعده للحج لخلّت مشاكل الحبيب. لكن المشكلة أن الشيخ أحمد لا يرضى بالحج بديلا، لا يمكن أن يؤجل حجه سنوات أخرى"(39).
توجد الذات في علاقة انفصالية مزدوجة عن موضوعين اثنين: الكفاءة وموضوع السعي. ولتحويل العلاقة الانفصالية الأولى إلى علاقة اتصالية وجب المرور بعملية تحويلية للعلاقة بين الذات والموضوع الصيغي.
بإمكاننا التمثيل لهذه الوضعية المركبة بالصيغة الموالية:
ق (ذ) ](ذV م ص) (ذV م ع)[
أي أن في حالة انفصال عن الموضوع الصيغي والقيمي معا، لذا وجب قلب هذه العلاقة إلى نقيضها مرورا بالبرنامج السردي الاستعمالي: إقناع الحاج أحمد بضرورة التنازل عن بعض ماله(*********). غير أن تنازل هذا نعتبر الرغبتين المتقابلتين مؤشرا لبروز حالات صدامية بين الذاتين، لأن كل واحدة منهما تنوي تحقيق رغبتها على حساب الأخرى.
أما إذا تعمقنا أكثر في تحليل الملفوظات السابقة نلاحظ كيفية تعارض الموضوعين، بحيث لا تتم عملية الاتصال بأحدها إلا بإمحاء الآخر. ويبقى المآل هو الطريقة التحيينية المشتركة بين الذاتين المتضادتين كما تبين الترسيمتان:
الذات: الحاج أحمد، الفرضية التحيين الغائية
الذهاب إلى الحاج المال المخصص للحج
الغائية التحيين الفرضية الذات: الحبيب
+ المال المخصص للحج الذهاب إلى الزاوية
نلاحظ أن الترسيمتين ذات اتجاهين متعاكسين لا يلتقيان، لأن الحاج أحمد لا يريد التنازل والحبيب مصر على الذهاب إلى الزاوية للهرب من القرية، وقد ورد رفض الحاج أحمد في عدة مقاطع ذات حجج متباينة نذكر منها:
- عدم القدرة على تأخير الحج.
- الدراسة متوفرة بالقرية.
- الدراسة بالعربية مضرة.
- العربية غير مفيدة.
- معرفة القرآن والفرنسية كافيان.
- ضرورة البحث عن العمل بدل الدراسة.
يقول الحاج أحمد لابنه الحبيب، موضحا سبب عدم تنازله عن المال المخصص للحج:
" الحج لا بد منه والقراءة متوفرة هنا بالقرية، سيدي خليل، البردة ... يا خيرك يا ربي! ثم إنك قرأت سنوات في المدرسة الفرنسية، في ذلك ألف بركة! العلم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر، إني لاحظت أنك لا تصلي حتى الصلاة! ثم ماذا تريد بهذا القراءة؟ تحكم الجزائر ؟ الجزائر يحكم فيها من يحكم ..."(40).
إن الأب لا يريد التنازل عن عنصر كفاءته حتى لا يحدث إنجاز انفصالي، وبهذا سيكون معارضا للإبن، لذا سيلعب وظيفتين عامليتين مزدوجتين لأنه ينتقل من الذات إلى الذات الضديد ومن ثم الانتقال إلى خانة المعارضة، أما الابن فلا يملك " الأدوات اللازمة المسندة للذات العاملة قصد تحقيق الإنجاز"(41).
هناك عنصران أساسيان في حوزته: وجوب الفعل ورغبة الفعل، أما معرفة الفعل، فتبدو غير مكتملة، من هنا عدم القدرة على تحويل العلاقة الانفصالية إلى نقيضها. لذلك يلجأ إلى الأم مستعملا الصيغ الطلبية التي تعامل بها الأب. وفي هذه المرحلة من الحكاية ستغدو الأم وسيطا أو جزءا من معرفة الفعل، لأن السياق يبين طبيعتها. إنها وسيلة من وسائل تحقيق الرغبة، كما افترض الابن، غير أن موقفها من ذهاب الابن إلى الزاوية كان موقفا سلبيا ومعارضا للمشروع الفرضي. لذا ستلعب دورين عامليين مختلفين: معارضة الابن ومساندة الأب، كما توضح المقطوعة:
"لماذا كل هذا التعب والحيرة. قالت له أبوك على حق، قرأت والحمد لله، أنت الآن شيخ. الحمد لله. "الغربة شينة يا ولدي"، أبوك سمع كل الناس أنه ذاهب إلى الحج، فكيف يؤخر حجه؟ هل الحج لعب؟ من في سنك تزوجوا"(42)
إن معارضة الأم لمسعى الذات، قائمة على وجهات نظر مختلفة قليلا عن وجهات نظر الأب. وتتمثل في:
- الوضع الاجتماعي للأب: شيخ.
- الحالة العائلية للإبن: أعزب.
- الحج: ضرورة.
- الدراسة: غير ضرورية.
تبين ازدواجية البرامج السردية كيف أن "اتصال ذات بموضوعها يعني إخفاق الأخرى، وتساعد هذه الخصوصية على التأكد من الطابع الجدالي لكل تحويل سردي ولكل قصة"(43).
إن إخفاق الابن في إقناع والديه سيؤدي به إلى الانتقال من القول إلى الفعل، حيز بروز الصيغ، لأن إخفاق المسعى يعني بالضرورة البقاء في القرية، التي تحيل من الناحية الدلالية، على التكرار والرتابة، كما يرى الحبيب "لأن المدلول هو نتاج استعمال، استعمال منظم اجتماعيا ومنسق"(44).
وتتجلى طريقة الاتصال بالموضوع الصيغي في سرقة مبلغ من المال المخصص للحج، كما تبين المقطوعة التي وردت على لسان رجل المحطة.
" أما الحبيب فذهب خيفة، لم يخبر بسفره أحدا، الخمسون فرنكا التي كانت معه سرقها من المبلغ الذي يعده أبوه للحج، المودع لدى أمه! كما حكى لي الحبيب. تصور تلك الأم المسكينة استيقظت فلم تجد ابنها ولا الخمسين فرنكا من الوديعة التي ائتمنها عليها زوجها!"(45).
ويتمثل ثاني برنامج سردي استعمالي في إيجاد وسيلة نقل للذهاب إلى الزاوية بعد الحصول على المال، كما يبدو من ملفوظ رجل المحطة. وأخيرا تقرر السفر ليلا بواسطة القطار ليصل الحبيب رفقة رجل المحطة إلى الزاوية صباحا.
ختاما يمكننا بنينة هذه المقطوعة الكبرى بالاعتماد على الترسيمة العاملية الآتية:
المرسل الموضوع المرسل إليه
- رجل المحطة الذهاب إلى الزاوية - الحبيب
- القرية - القرية
المساند الذات المعارض
Ø / الحبيب - الأب
- الأم
أول ما يمكن ملاحظته خلو المساندة من أي عامل، مما يشير إلى وحدة الذات في مسعاها وفي صراعها مع الآخر. الشيء الذي أدّى بها إلى:
- السرقة بعد فشل الفعل الإقناعي.
- السفر ليلا.
- عدم إخبار أحد.
أما معارضة الأب والأم فلم تكن معارضة للذات، كما تبين الترسيمة العاملية، بقدر ما هي معارضة لفكرة الذهاب إلى الزاوية لأسباب محض نفعية تتعلق الجانب المادي وبالحالة الاجتماعية، لأن الذين عادوا من الشرق لم يعثروا على ووظائف. وفرنسا تعادي اللغة العربية، كما يرى الأب:
" لا بد أن تعرف أن قراءة العربية تجلب لنا الضرر أكثر من النفع. ابن باديس نفسه لا يستطيع أن يجد عملا لدى فرنسا لو أراد ذلك"(46).
وتتكون خانة الإرسال من عامل جماعي: القرية، رجل المحطة، رغم أن هناك بعض الصعوبة في إيجاد تحديد دقيق لهذا العامل الذي يتمثل في أغلب الأحيان في " حوافز تحديد فعل الذات، مع العلم أن كلمة حافز ليس لها أي معنى نفسي استبطاني"(46).
تمثل القرية، بالنسبة للحبيب، الثبات والتكرار: الوجوه نفسها والأحاديث نفسها. ومن ثم يمكن اعتبارها مجموعة من القيم التي تتحكم في الناس، وفي هذه الحالة ستصبح قيمة مجردة تحفز الذات على الانفصال المكاني قصد التجدد.
الشيء نفسه بالنسبة لرجل المحطة. إنه شخصية تمثل زمانين متضادين: زمان القرية وزمان الزاوية، الأول متواتر ورتيب وقندورة بيضاء وكلام قديم، أما الثاني فهو عبارة عن تحول، كما يقول الحبيب في حديثه عن رجل المحطة:
" شخص آخر تماما، سواء في الملبس أو في الحديث، إنه الآن يلبس لباسا نصف مدني: جبّة جميلة، لا تشبه الجباب القروية (...) الحبيب يحتقر نفسه أمام صديقه القديم"(47).
هناك، في الحقيقة الأمر، شبه تداخل بين المرسل والموضوع، لأن غاية الذات هي غاية قيمية: الالتحاق بالزاوية لتجاوز الآن والهنا، والرغبة في التجاوز الآن والهنا هي الحافز المركزي الذي حث الذات على الانفصال عن القرية والالتحاق بالزاوية. وإذا كانت القرية قد وردت في خانة المرسل، فإن ذلك لا يعني أبدا عدم تموقعها في خانة أخرى، لأن رغبة الذات في تحقيق الموضوع والالتحاق بالزاوية هي رغبة مركبة، مزدوجة على الأقل. لذا أمكننا استبدال البرنامج السردي السابق ببرنامج مغاير قليلا:
الذات الفرضية التحيين الغائية
مغادرة القرية المال+ القطار +
لقد تعمدنا هذا اللعب الاستبدالي قصد تبيان مختلف البنى الغائبة التي لا يمكن التحكم فيها بدقة. خاصة عندما يتعلق الأمر بتراكب غير محددة نصيا أو بأدوار عاملية ترتبط بكيفية بنينة الجملة. هناك دائما عوامل مضمرة يتعذر علينا حصرها في علامة معينة رغم طريقة رفع اللباس عن "الوحدة الدلالية القابلة لعدة قراءات"(48).
تبقى الإشارة إلى أن شخصية الحبيب تلعب وظيفتين نحويتين مزدوجتين، إنه الذات والمرسل إليه. أي أنه الساعي والمستفيد الأول من المسعى في حالة تركيزها على البدايات الأولى للمقطوعة. لأن النص سيشهد تكتلا عامليا بعد تحقيق عنصر الرغبة، ثم انتقال الموضوع من الطابع التصويري الشكلي، من شكل التجلي إلى الدلالة، عندها يفقد اللفظ بياضه ليغدو قيمة. وهذه القيمة بالذات هي التي تضفي على المرسل إليه صفة جماعية.
إن سوء تدريس شيخ الزاوية، جعل الحبيب ينبذ الطريقة التعليمية المطبقة في الزاوية ويقرر العودة رافضا الأمية ودراسة المذاهب بشكل قديم على حد تعبيره. وقد أدى رفضه لأشكال التعليم إلى إخراجه من حلقة الدرس واتهامه بحمل أفكار مشبوهة.
" إذا كان هذا هو المنطق فإن الدروس التي نتعلمها هنا تعيدنا إلى زمن أهل الكهف ! غدا أغادر الزاوية وأهل كهفها"(49).
ويتبين لاحقا أن مغادرة الزاوية وأهل كهفها لا يتعلق بالملتقي الأول وحسب، وإنما بمستقبله ومستقبل القرية معا.
يؤدي هذا البناء الجديد إلى ظهور ترسيمة عاملية نقيضة بسبب انتقاء الموضوع المركزي واستبداله برغبة مختلفة تتمثل في العودة إلى القرية، الشيء الذي يسهمل في إبراز انزلاقات عاملية جلية، من ضمنها انتقال صديق الحبيب، رجل المحطة، إلى خانة المعارضة لرفضه الفكرة التي طرحها الحبيب. يقول هذا الأخير لرجل المحطة!
" ماذا يعني مستقبل القرية إليك، أنت الذي تدرس في السنة الثالثة، وبعد عام تصبح أستاذا؟ إن مستقبل القرية يتكون من مستقبل الأفراد، فأي مستقبل نحن متجهون إليه بهذا الفكر الذي يلقن لنا؟"(50).
في هذه المرحلة من الحكي يمتلئ الموضوع دلاليا، ويتضح، عكس ما ورد في البدايات الأولى، إن التلقي جماعي، يشمل الذات والقرية معا. حتى الموضوع نفسه لا يصبح مجرد قيمة، وإنما قيمة نوعية مرتبطة بتمركز الذات ورؤيتها للرغبة من منظور لا يخلو من الخصوصية والتفرد. وبإلغاء الخصوصية، أو التعليم النوعي الذي يريده الحبيب يبرز البناء الدائري لحركة الأحداث! العودة إلى المكان البدئي المتمثل في القرية. ومن ثم تجاوز موضوع السعي الذي تحقق لأنه سيتداخل مع مسعى نقيض، بل إن الموضوع الأول سيصبح حافزا للانفصال المكاني وإعادة الاتصال بالمكان - الأصل، بعدما كان في البداية حافزا جعل الحبيب يمقت القرية وقيمها.
الهوامش:
(1) - عبد الحميد بن هدوقة: غدا يوم جديد، منشورات الأندلس، 92، ص19.
(2) - المصدر نفسه، ص15.
(3) - المصدر نفسه، ص24.
(4) – الرواية، ص27.
(5) – المصدر نفسه، ص35.
(*) - فضلنا التعامل مع كلمة فرضية لتعدد الترجمات أو لابتعادها عن كلمة Virtualité. انظر مثلا دليل الدراسات الأسلوبية، ص163. وانظر المنهل، ص1083.
(**) - Actualisation.
(***) - اعتمدنا على ترجمة عبد السلام المسدي في كتابة: "الأسلوبية والأسلوب"، نظرا لتعدد الترجمات وعدم دقتها. انظر مثلا: عبد اللطيف الفاربي وآخرون، معجم علوم التربية، دار الخطابي للطباعة والنشر، ط1، الرباط1994، ص382.
(6) – الرواية، ص25.
(7) – Jean CAUNE: La dramatisation, Louvain-Laveuve,Belgique, 1981, p. 79.
(8) – الرواية، ص 24.
(9) – المصدر نفسه، ص34.
(10) - الرواية، ص35.
(****) - ستحقق الذات رغبتها لاحقا، لكن اعتماد الكاتب على الإضمارات لم يساعد على معرفة الكيفية التي أدت الاتصال بالمدينة.
(11) – المصدر نفسه، ص32، 33.
(12) – الرواية، ص 34.
(*****) - استعملنا كلمة سميأة للدلالة على كلمة Sémiotisation.
(******) - انتقدت أن أوبرسفالد Anne UBERSFELD هذه التسمية في كتابها Lire le Théâtre لعدم مقرونيتها، لكن البديل الذي قدمته لم يكن مقنعا، نظرا لعدم مقرونيته أيضا.
(13) – الرواية، ص 35.
(14) – الرواية، ص 233، 234.
(15) – المصدر نفسه، ص58، 59.
(16) – المصدر نفسه، ص91.
(17) – الرواية، ص 91.
(*******) - لم نعثر على الدراسة تحديد مفهوم البطل، ولا على طريقة واضحة لتصنيف الشخصيات إلى شخصيات رئيسية وشخصيات ثانوية، ولا يوجد مقياس لذلك، إذ يحدث أن تكون الشخصية بطلة على مستوى الرغبة، أو على مستوى القول، أو على مستوى الفعل، لكن لا شيء يثبت تموضعها سوى الأحكام الذاتية التي لا تستند إلى أيّ منهج دقيق.
(18) – عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، 1977، ص154.
(********) - عندما تقص مسعودة حكاية حياتها يكون الكاتب في خانة التلقي ومسعودة في خانة الإرسال، لأنها ذات التلفظ، وعندماي يصوغ الكاتب حكاية ويقرأها عليها يصبح هو في خانة الإرسال لأنه يتلفظ، في حين تصبح البطلة في خانة التلقي لأنها تستمع إلى قصتها التي خضعت لتشكيل مختلف.
(19) – الرواية، ص13،14.
(20) – الرواية، ص17.
(21) – الرواية، ص21.
(22) – المصدر نفسه، ص15.
(23) – الرواية، ص19.
(24) – المصدر نفسه، ص21.
(25) – Umberto ECO, La structure absente, éd. Mercure de France, 1988, pp. 138-143.
(26) – الرواية، ص14.
(27) – المصدر نفسه، ص20.
(28) – الرواية، ص14.
(29) – المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(30) – الرواية، ص37.
(31) – الرواية، ص101.
(32) – المصدر نفسه، ص104.
(33) – المصدر نفسه، ص105.
(34) – الرواية، ص119.
(35) – الرواية، ص195.
(36) – الرواية، ص195، 196.
(37) – Jean RICARDOU, Le niveau roman, suivi de: les raisons de l'ensemble collections Points, Seuil, Paris, 1990, pp. 88.
(38) – الرواية، ص197.
(39) – المصدر نفسه، ص204.
(*********) - إذا افترضنا أن الأب يريد الحفاظ على ماله فإنّه لا يصبح ذاتا ضديدة، وإنما مجرد معارض، لأن رغبة الحفاظ على الشيء لا تؤدي بالضرورة إلى ارتباط الشخصية بموضوع ما.
(40) – الرواية، ص202.
(41) – Groupe d'Entrevernes, Analyse sémiotique des textes, Presses Universitaires de Lyon, 1979, p. 17.
(42) – الرواية، ص203.
(43) – Groupe d'entrevernes, p. 23.
(44) – Christian BAYLON, Paul FABRE, La sémantique, éd. Fernand Nathan, France, 1978, pp. 68.
(45) – الرواية، ص211.
(46) – الرواية، ص202.
(47) – Anne UBERSFELD, lire le théâtre, éditions sociales, Paris, 1982, p. 67
(48) – الرواية، ص198.
(49) – GREMAS (A.T.), COURTES (J), Sémiotique, dictionnaire raisonné de la théorie du language, Hachette, Paris, 1979, p. 91.
(50) – الرواية، ص24.
(39) – المصدر نفسه، ص225.