أزمة الهوية في الرواية الجزائرية وجماليتها الفنية
الأستاذة فتيحة شفيري، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة امحمد بوقرة ، بومرداس
الأستاذة فتيحة شفيري، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة امحمد بوقرة ، بومرداس
الملخص:
تهتم الرواية الجزائرية المعاصرة بمسألة الهوية التي تُشكل خصوصيتها الأساسية، لتعكس من خلال معالجتها لهذه المسألة تساؤلات الفرد الجزائري عن العلاقة التي تربطه بأرضه وبدينه وبلغته، فهو إن ولد على هذه الأرض وتأسست جذوره فيها إلا أنه يعيش انفصالا إجباريا عنها وهذا ما جسدته رواية "ليل الأصول" أو la nuit des origines لنور الدين سعدي، فقد دفعت العشرية السوداء بالشخصية الرئيسية عبلة للهروب من قسنطينة والارتباط بالضفة الأخرى(فرنسا)، ولأنّ تلك الظروف أثرت فيها تأثيرا سلبيا فقد سعت في فضاء الآخر إلى إلغاء أي رابط بينها وبين الأرض(الأنا: الجزائر) تفكيرا وحديثا ولكنها لم تتمكن من ذلك فعليا، فقد عادت إليها عودة اضطرارية هي عودة جسد بلا روح .
وعكست رواية "القلاع المتآكلة" لمحمد ساري تأزم الهوية للفرد الجزائري في الفترة نفسها- فترة العشرية السوداء- فوطنه تبنى قيما دينية متطرفة تخالف تلك القيم التي تبناها في مراحل زمنية سابقة فإن حاربها رشيد بن غوشة إحدى شخصيات الرواية فقد تبناها ابنه الشاب نبيل معتقدا أنها وسيلته للوصول إلى الحق الذي يدعو إليه الدين الإسلامي، ليكون في نهاية الرواية ضحية لهذه القيم، لنقف من خلال ذلك على اللاتواصل الثقافي الذي عرفته الأسرة الجزائرية في تلك المرحلة الحساسة.
وقد عالج المبدعان هذه الخصوصية معالجة فنية محكمة، فالروايتان رصدتا بأسلوب سردي الظروف المأساوية للفرد الجزائري فترة العشرية السوداء، مبتعدتين بذلك عن الجمالية الإخبارية التي عرفتها بعض الروايات الجزائرية التي عالجت الفترة نفسها، كما اهتمت الروايتان بتبيين طبيعة الصراع والأمكنة والشخصيات القائم على الماضي والحاضر والمستقبل دون الخضوع التام لتراتبية زمنية متسلسلة..
نص المداخلة كاملة:
تأخذ الرواية قيمتها إذا ما ارتبطت بالسياق الاجتماعي القائم، تحلله وتطرح إيجابياته وتكشف سلبياته في مجاورتها للواقعي والمتخيل في آن معا، لتحقق للقارئ غايتين ، الغاية الأولى أن يجد هذا المتلقي صورة الواقع المعيش الذي يحياه، وقيام تفاصيل هذا الواقع في متن النص الروائي ، أما الغاية الثانية فهي ارتباط هذا المتلقي بعالم التخيل الذي يخلقه النسق اللغوي المحكم، والمبدع المتمكن هو من يسعى إلى تحقيق الغايتين معا ليضمن لنصه الروائي مقروئية أوسع، وتلقيا زمنيا متواصلا.
1-الرواية الجزائرية والسياق الاجتماعي:
تحمل كل أمة جملة من القيم الثقافية التي تتأسس بفضلها سلوكات الفرد وأفعاله، مع العلم أن هذه السلوكات والأفعال غير ثابتة لعدم ثبات القيم الثقافية القائمة، وبما أن الروائي جزء من هذا الواقع الثقافي اللاثابت فإنه سيسعى إلى وضع هذا الواقع تحت المجهر معبرا عنه باللغة التي ستشكلّ الرابط بين المتلقي وواقعه.
فكانت اللغة في النصوص الروائية الجزائرية فترة ما بعد الكولونيالية رابطا بين المتلقي وبين الواقع السبعيني الجديد، وقد شكلت رواية"ريح الجنوب" لعبد الحميد بن هدوقة أيقونته، فقد عرف الواقع آنذاك حمولة ثقافية معينة هي مفهوم الأرض التي ستقترن بالفرد الجزائري البسيط وليس بذلك الإقطاعي المتعجرف«على أن الشيء الجديد في الرواية هو الاهتمام بالأرض وارتباط الفلاح الجزائري بها، هذا الإنسان البسيط الذي كافح من أجلها ذلك الإقطاعي كما كافح الاستعمار»، وهو المفهوم ذاته الذي عالجه الطاهر وطار في روايته"الزلزال" ، لتؤكد ذلك الشعار الذي رفعته عاليا سلطة السبعينيات "الأرض لمن يخدمها"، وإن اختلفت طريقة معالجة المبدعَين لهذا المفهوم، إلا أنهما أسسا مقاربة نصية واحدة وهي التوافق مع إيديولوجية السلطة الحاكمة.
ومهما يكن من أمر، فالروائيان قدما ما ينبغي أن يكون، هو ذلك الواقع المثالي الذي سيرتبط به الفرد الجزائري، القائم على انصهار ذاته في بوتقة اذات الجماعية الخاضعة لمركزية واحدة هي السلطة الاشتراكية، علما أنّ الروايتين صورتا ذلك الواقع في حينه وأوانه فأتت وجهة نظر المبدعين فيهما إيجابية إلى حد كبير.
وإذا كان هذا حال الرواية السبعينية، فالأمر يختلف مع مدونتنا المختارة التي جاءت لإعادة قراءة فترة حساسة جدا عرفها المجتمع الجزائري وهي فترة العشرية السوداء، لتقدمها من وجهة نظر تحليلية، غرضها إثارة اهتمام قارئ الألفية الجديدة، فيقوم هو الآخر من جهته بإعادة النظر في واقع عاشه فعليا أو سمع عنه، ليشارك المبدعَين في طرح الإشكالية الآتية: ماكانت هوية الفرد الجزائري في هذه الفترة؟، ليبدأ في تأسيس الإجابة عن هذه الإشكالية مع قراءته للدلالات المختلفة المرتبطة بفواعل العمل«ينتج القارئ في تلقيه نصا محايثا للنص الأصلي على اعتبار أن حركية المعنى داخل النص لا يستقر على المعنى الواحد ».
وطرح الروايتين لإشكالية الهوية، يعني في المقابل طرح جديد لمفهوم الأنا والآخر، فمن هو هذا الأنا ومن هو هذا الآخر؟ لم تطرح هذه الإشكالية في الروايات الكولونيالية فالأنا فيها مرتبط دائما بالقوي صاحب النظرة الفوقية، بينما الآخر هو ذلك الضعيف المحتاج دائما لوجود الأنا. إن هذه الروايات تحمل خطابا« يعلن استعلاءه الحضاري، ويُكاشف بتهجين الآخر، ولا يتردد في إبراز قناعاته التي تُشرع لأفضليته الثقافية بناء على دونية سائر الثقافات الإنسانية»، وهذا الوضوح في ماهية الأنا والآخر قدمه دارسون عديدون من بينهم إدوارد سعيد ورضوى عاشور في قراءتهما الطباقية لأعمال شكسبير ودانييل ديفو على سبيل المثال.
وإن تجاوزت المدونة المختارة أسس الهوية التقليدية، فهذا لم يمنع محمد ساري تحديدا من إثارة مسألة اللغة، ناقلا من خلال شخصية المحامي عبد القادر تجذر الصراع اللغوي في الجزائر بين العربية والفرنسية، فالفرد الجزائري منذ الاحتلال وصولا إلى مرحلة الاستقلال وما بعدها داخل متاهة هذا الصراع الذي خلقته القوة الاستعمارية الفرنسية، وكما يرى أغلبية الدارسين للشأن اللغوي الجزائري، فهذه القوة أتت لمناهضة الشعب الجزائري في هويته وتحديدا في مسألة اللغة«وبين الاستعمار الفرنسي مثلا والاستعمار الانكليزي، فالأول يعمل على هدم البنيات اللغوية والثقافية التي كانت قائمة من قبل ليُحّل محله بنيات أخرى لا علاقة لها في الغالب بلغة البلد وثقافته»، وبما أن شخصية عبد القادر شخصية مثقفة فقد نقلت لنا هذا الصراع بعين الذات المثقفة الواعية في مواجهتها للذات المثقفة الفرنسية المتمثلة في المحامي بن ناصر«مطّ سي ناصر شفتيه وهزّ رأسه قائلا: قطار التعريب يجري بسرعة، وعلينا نحن أيضا أن نحجز مكانا قبل أن يفوتنا الركب. أخاف أن يحدث لنا مثلما حدث للأقدام السود، فنضطر إلى هجرة البلد ».
لم تنقل عبلة هوية الأنا والآخر الجديدة في "ليل الأصول" بشكل مباشر، وسبب ذلك حسب تأويلنا راجع إلى تركيز هذه الشخصية في رصد فعل "التقتيل" القائم والمستمر في جزائر العشرية السوداء فهو حسبها فعل عبثي لأنه مورس دون وعي شاملا الكبير والصغير معا«ماذا تريدني أن أقول لك إذا كان الجنين يخرج من بطن أمه لكي يُذبح؟ ماذا تريد أن تعرف عني وعن الجزائر إذا لم تعد توجد كلمات ولا مفردات للحديث عنا» ، وإذا مارسنا دورنا القرائي في هذه الرواية فيمكننا كشف هوية الأنا والآخر، فالطرف الأوّل هو الجزائري الفاقد لهوية الزمان والمكان يقابله الآخر القاتل الدموي المجهول الصانع للاهوية الجزائرية«فمن أي شيء تريد أن تداويني إن كنتً لا تستطيع حتى أن تفهم، أو تعاني مما أعاني منه؟ أرجوك يا دكتور دعني أنام، أنام، أنام»، لقد أراد نور الدين سعدي من خلال استقرائه للسياق الاجتماعي الجزائري الدموي تجاوز السؤال الذي ظل يُطرح طيلة الفترة الدموية : من يقتل من في الجزائر، إلى التساؤل عن مكانة إنسانية الفرد الجزائري، المؤسسة على وضع هش ومنكسر.
وقد قام محمد ساري بفعل الاستقراء نفسه للواقع الجزائري فترة التسعينيات، ساعيا من خلال ذلك إلى تفكيك كل الخطابات السائدة في تلك الفترة، محللا كل تفاصيلها المتنوعة ، رافضا إياها لأنها حسبه تفاصيل سلبية كان بإمكان الجميع تلافيها، فهي مدينة"عين الكرمة" التي تمثل كل المدن الجزائرية في تخلفها المتزايد، هي كذلك سيطرة اللاحوار بين أفراد المجتمع الجزائري الواحد الذي خلّف صورة جديدة للجلاد وأخرى للضحية، هي التعنت في فرض الرأي والاعتقاد بصوابه، ليتقمص ساري بهذا مثله مثل نور الدين سعدي مفهوم المثقف الناقد الذي طرحه إدوارد سعيد« هو ذلك المثقف الذي لا يرضى بكل ما يحدث له ولمجتمعه، فهو يتمتع بالعقل النقدي الذي يُعمله في النظر إلى الأشياء والقضايا الذي يمارسه إزاء السلطة أو إزاء المجتمع».
وإذا لم تتضح هوية الأنا والآخر في "ليل الأصول" بشكل بيّن، فقد قامت بجلاء في "القلاع المتآكلة"، فالطرف الأول هو ابن مدينة "عين الكرمة" والطرف الثاني هو التوجه الإسلامي المتطرف، ليكون نبيل ابن صديقه رشيد بن غوسة هو ضحية لإيديولوجية الطرف الثاني الذي أظهره ساري متطرفا ودمويا، ليعرف في الأخير تلاشيا تدريجيا«إن التطرف يؤدي في كل حالاته إلى اهتزاز موقف المتصف به وإضعاف حجته فتتآكل أسوار قلاعه»، ويمكن اعتبار رواية ساري وتطرقها للتطرف الفكري استشرافا مستقبليا لما سيحل بالوطن العربي كله في هذه الألفية، هذا التطرف الخطير كان السبب الرئيسي في تأسيس اللاهوية واللا نتماء.
وبربط متن المدونة المختارة بعنوانها، نكتشف أن المبدعيَن قد قدما إجابة لإشكالية الهوية التي طرحاها في عملهما، فذات الفرد الجزائري حسب نور الدين سعدي لا يمكن لها أن تتأسس بعيدا عن ذاكرته (الهوية)، لأنها جذوره التي لا يمكن التنصل منها، فهي متأصلة فيه مهما حاول تناسيها أو تجاوزها، لكن الإجابة عن هذه الإشكالية عند محمد ساري مختلفة، فهي مرتبطة بالفرد الجزائري وهو داخل الوطن، فلم يكن اهتمام الروائي بالذاكرة بقدر اهتمامه باستشراف المستقبل الذي سيتأسس على أرضية إيجابية، فالفرد في عين الكرمة بل وفي كل المدن الجزائرية سيعرف هوية واضحة من خلال وعيه بقيمة علاقته بذاته وبذات الآخرين في الوقت نفسه، ويكون ذلك بعيدا عن سفك الدماء وصورة الموت المجاني.
وقراءتنا لعنوان المدونة تكشف عن الحمولة الثقافية والاجتماعية التي أراد إيصالها كل من نور الدين سعدي ومحمد ساري، إنها حمولة مرتبطة بالتغير المستمر للمجتمع الجزائري«إن صياغة العناوين تطورت عبر التاريخ الأدبي، مادام العنوان هو الآخر بمثابة أثر ثقافي- اجتماعي يخضع لقانون التطور والتغير» ، ويمكن لكل متلق لهذه المدونة المختارة أن يُقدم قراءته التأويلية للعنوان، ساعيا من خلال ذلك إلى تحقيق انفتاحية دلالية له«أصبح العنوان يحقق غاية إيحائية تجعله مفتوحا على شتى القرارات كما هو في النص، وتكون فيه اللغة قائمة على الخرق والانزياح، تتشكل في خضمه العلاقة بين الدال والمدلول وفق ثنائية التحديد واللا تحديد »، فالمعنى الثابت لا يمكن أن يتأسس مع القراءة المفتوحة لعنوان المدونة المختارة لينطبق هذا أيضا على متنها.
2- الجمالية الفنية للمدونة المختارة:
اختار المبدعان شخصية مثقفة لتقديم صورة الجزائر فترة العشرية السوداء، لأنها القادرة على قراءة ما يقع، رافضة من خلال ذلك استمرار ضياع الهوية واللا انتماء المرتبط بكل فرد من أفراد المجتمع الجزائري، ونجاح الرواية عادة مايرتبط برصد واقعية مجتمعها لتكتسب بذلك تلق أوسع.
تعرف هذه الشخصية المثقفة في المدونة المختارة حالات سيكولوجية متباينة، فهي الهادئة والثائرة والمجنونة والساخرة، وهذه التقلبات مرتبطة باللاوعي الوجودي القائم في المجتمع الجزائري، فقد حملت عبلة هذه الحالات السيكولوجية إلى الضفة الأخرى كاشفة عنها من خلال أفعالها المفهومة حينا واللامفهومة حينا آخر، وكذلك من خلال أقوالها مع الآخر الغربي الذي تقاطعت معه في فضائها الجديد«لم أغادر الجزائر تحت ضغط التهديد، وإنما فررت من مرض الموت، ومن وباء القتل، فهل يمكن أن أكون أنا من أراد الفرار»، فذات عبلة وهي في الضفة الأخرى ضائعة بين الكينونة التي ترغب فيها وهي الانصهار في الوطن وبين اللاكينونة المفروضة عليها من فضاء الدم الجزائري.
وقراءتنا لشخصية عبد القادر في "القلاع المتآكلة" تكشف عن الحالات السيكولوجية نفسها التي عرفتها عبلة، فهو بين الكينونة التي أسسها مع والدته وأخيه الميلود وصديقه رشيد بن غوسة، وبين اللاكينونة التي ارتبط بها في واقع دموي ومتخلف، ورغم اقتران عبد القادر بهذه الثنائية الضدية، إلا أنه سلّم بوجودها، بدليل استمرار وجوده في "عين الكرمة" وعدم التفكير في مغادرتها، لنكون بذلك أمام صورة الفرد الذي يسكنه المكان ليعلن انتماءه الدائم إليه، فهو ذاك المعلم بإحدى متوسطات عين الكرمة ثم هو ذلك المحامي بالمدينة نفسها، وبما أن محمد ساري هو صورة للمثقف الناقد فقد سعى من خلال هذه الشخصية إلى ترسيخ مفهوم واضح للهوية، إنه ارتباط الفرد بأرضه وعدم مغادرتها مهما كانت الأحوال، لتتأسس اللاهوية حسبه في تغييب الفرد لعلاقته الروحية التلازمية بهذه الأرض عندما يغادرها أو يفكر في ذلك. ومقاربتنا لهذه الشخصية كشف عن التباين الثقافي بين شخصية عبد القادر وبين شخصية عبلة، هو ذلك التباين الموجود في المجتمع الجزائري بين المؤمن بتحدي سلبية التغيير الطارئ في هذا المجتمع وبين المؤمن بلاجدوى هذا التحدي.
ورغم هذه الدعوة للارتباط بالأرض، إلا أن عبد القادر وعلى خلاف عبلة ، أظهر صورة أخرى للفرد الجزائري الذي خدمته التغيرات الاجتماعية التسعينية، فقد تحسنت حالته المادية كثيرا بعد تركه لمهنة للتعليم والتواصل مع مهنة المحاماة التي أطلق عليها مهنة التشيطن، ونعلل هذا التحول القيمي في شخصية عبد القادر إلى الصورة العامة للفرد الجزائري في المجتمع ليرتبط إجباريا بجملة من القيم دخيلة عليه، ومن ثمة تبنيها بشكل مسلم به«أنا أيضا لم أبق ذلك المعلم الساذج، مدرس التاريخ الذي لا يرى في الناس إلا مظاهرهم المتوددة المنافقة. جرفتني الموجة الراجفة الزاحفة، فاستبدلت مهنة التعليم النبيلة الهادئة بمهنة المحاماة المتشيطنة المضطربة».
وإذا قمنا بتفكيك التحول المرتبط بشخصية عبد القادر، فإننا نقرأ تلك النظرة الساخرة التي سعى محمد ساري إلى تضمينها في نصه فهناك عبثية فرضها هذا الواقع سينجر عنها حسب المبدع تداعيات خطيرة تهدد وجود الفرد أولا ثم المجتمع ثانيا، فلا بد حسبه من تدارك الأمر قبل استفحاله«هدف المحاكاة الساخرة هو نقد أوضاع أو أفكار تهدد المجتمع من وجهة نظر المؤلف، ومن خلال النقد تسعى المحاكاة الساخرة إما إلى إحداث التغيير أو منعه»، ولايمكن اعتبار قيام النظرة الساخرة هذه مقترن بمرحلة التسعينيات وكشف أغوارها السوداوية فقط، بل نعتبرها استشرافا لما بعد هذه الفترة، ذلك أن الواقع الجزائري مثله مثل الواقع العربي قد تجذرت فيه بقوة هذه العبثية القيمية، وتوسعت أرضيتها، ساعية بذلك إلى إلغاء إنسانية الإنسان.
ويغيب هذا التسليم بمعايشة الكينونة واللاكينونة عند نبيل الذي رغب في الارتباط بقوة بالقطب الأوّل من الثنائية الضدية، من خلال ثورته على السلطة البطريركية التي مارسها عليه والده رشيد، وتفتر هذه الرغبة ويتقلص وجودها تدريجيا مع حالة الضياع النفسي الذي عرفته شخصيته بسبب تردده في قتل والده اليساري، لنقف بذلك عند ارتباطه القهري باللاكينونة من خلال تلك المذكرة الشخصية التي خلّفها بعد انتحاره، وقد ساعدت هذه المذكرة القارئ على تبيين العالم الداخلي المضطرب الذي عرفه شباب العشرية السوداء، فما بين اليقين واللايقين، وبين الحلم والواقع بنى هؤلاء الشباب وجودهم.
ونقف في رواية محمد ساري عند تحديد الصورة العامة لعبد القادر بن صدوق، فهو وإن كان مشاركا في الأحداث، إلا أنه ارتبط في الأغلب بدور الرواي الشاهد، وللإشارة فهذه الصورة لم تتأسس في "ليل الأصول" ذلك أنّ الراوي العالم بكل شيء هو من تكفل برصد ذاكرة عبلة الهاربة، كاشفا في الوقت نفسه ارتباط الآخر بهذه الذاكرة سواء كان ارتباطا تكامليا مثلما رغب فيه آلان، أو ارتباطا فضوليا مثلما عكسته مسؤولة "قصر المرأة" للاجئين أو ذلك الطبيب الفرنسي الذي سعى لإنقاذ حياة عبلة من محاولة انتحارها الأولى.
لقد كان عبد القادر الراصد الأوّل والرئيسي لحالة التعفن الإيديولوجي الذي وصلت إليه مدينة عين الكرمة الذي جسده تطرف الجماعات المسلحة في هذا الفضاء وتأثيرها الكبير في شبابها على وجه الخصوص(نبيل وصديقه المؤثر فيه: ياسين)، مقدما كذلك ردة فعل الآخر (رشيد) المتضرر الأكبر من التحول السلبي الذي عرفه مجتمع عين الكرمة عامة وابنه نبيل خاصة، ودور عبد القادر السردي أسس تبئيرا على عوالم الأنا والآخر النفسية، فاليأس قد استفحل داؤه عند نبيل الذي انتحر ثم عند رشيد الذي رغب في إلغاء هويته الوطنية« يصنعون جهنما هنا كي يستطيعوا إقناع الناس بفحوى جنتهم الموعودة هناك، ومثلما قلت لي أنت منذ أيام: القافزون دبروا فيزات وفروا بجلودهم إلى أوروبا وأمريكا. أما نحن...».
وتعتمد مدونتنا المختارة على جمالية فنية أخرى هي تقنية الاسترجاع الذي شكّل طبيعة أحداثها، فقد كان علي أو آلان الباحث عن هويته الجزائرية المفقودة المثير الخارجي الرئيسي في ارتباط عبلة القهري بذاكرتها الهاربة من مدينة الدم والموت المجاني، وتقنية الاسترجاع في هذه الرواية مرتبط بمفارقة نفسية طرفاها عبلة وآلان، فقد كان عاملا للاأمن والتوتر عند عبلة«يجب أ، لا أعود لرؤيته ثانية، إنني أشعر أنه سيعيدني إلى هناك... لا يكفي أن يشترك المرء مع آخرين لربط مصيره بهم»، بينما اقترن هذا الاسترجاع عند آلان بالأمن والراحة النفسية المرغوبة بإلحاح«كان يرغب في أن يعرف أكثر ويسمع منها أكثر ولكنها سكتت محتمية بنفسها في نفسها».
وتقوم تقنية الاسترجاع كمعطى جمالي في رواية"القلاع المتآكلة" المرتبطة بهوية الفرد الجزائري بداية من الاستقلال وصولا إلى العشرية السوداء، إنها الهوية الضبابية غير واضحة المعالم، التي ازدادت هشاشة مع فترة العشرية السوداء، فهي مابين صراع السلطة وصراع الإيديولوجية المتطرفة، وهذه الهشاشة مثلتها ذوات مختلفة فعبد القادر صورة الفرد الجزائري الذي ضاعت أحلامه الستينية، كشفتها جلساته مع ندمائه بإحدى حانات المدينة«إن ما يجمعنا ويُغذي جلساتنا هي هرمونات الشكوى الدائمة من الحياة الخاصة والعامة، نحن الآن في خريف العمر، ومعظم أحلامنا الرائعة التي رافقت حماس السنوات الأولى للاستقلال قد تبخّرت بل ومسخت إلى كوابيس تنخر أحشاءنا قبل عقولنا»، وقد رصدت شخصية الراوي الشاهد استمرار صورة اللاهوية هذه عند جيل التسعينيات المتخبط في وضع اجتماعي هش ووضع اقتصادي ليبيرالي فاحش.
وهذه الضبابية في الهوية قد سبق محمد ساري إلى معالجتها في روايته "الورم"، ساردا فيها ضياع الفرد الجزائري المتواصل«يرصد تحولات الأحداث منذ الحقبة الاستعمارية إلى المرحلة الاشتراكية بعد الاستقلال، إلى خيارات الانفتاح واقتصاد السوق في بداية التسعينيات، معرجا على أحداث أكتوبر والندوب العميقة في وجدان الشباب»، وهكذا يقوم محمد ساري بالدور المنوط به، إنه المثقف الناقد للمجتمع وتأثيراته السلبية في الفرد المنطوي تحت لوائه.
ولم تتمظهر الجمالية فقط في الشخصية وتنوع حضورها أو في الزمن وصورته الاسترجاعية المؤسسة في المدونة المختارة، بل قامت جمالية أخرى هي المكان الذي اقترن بالمدينة وبتحولاتها السريعة وبما أن«الفن الروائي اُبتدع ليعبر عن المدينة-وليس الريف أو القرية- وارتبط ازدهاره بنشأة المدن الكبرى وانتشار التعليم » ، فقد اهتمت المدونة المختارة بإبراز هذا المكان العام وتأثيراته الكبيرة في الشخصية الروائية ، وقد سعى كل من نور الدين سعدي ومحمد ساري إلى تقديم الصورة العامة له، فعبلة تلك الهاربة من حاضر دموي قائم في مسقط رأسها قسنطينة التي عرفت فيها انشطارا لذاتها.
وللهروب من هذا الانشطار وتلافيه ارتبطت بمدينة أخرى مفارقة للأولى هي باريس الغربة، لكنها باريس الذاكرة أيضا، ففيها سترتبط بجذورها الجزائرية القسنطينية التي أكدها شارع سانت أوان ودكاكينه المتنوعة لبيع الخردوات ورائحة أكله المثيرة لذاكرة المكان الهارب من الماضي إلى حاضرها الهش«حينما نزلت باريس أخذت بعض الوقت قبل أن تدرك لماذا كانت تتردد غالبا منجذبة إلى هذا الحي الذي يذكّرها ببلدها، فقد تبين لها من غير وعي منها أنها ترغب كثيرا في الهروب منه والذي كانت تبحث عنه في وجوه المهاجرين من أبناء بلدها وفي هذه اللغة التي تعرف من خلالها لهجة كل منطقة».
وإذا كانت هذه الذاكرة تهديد لرغبة النسيان التي راحت تمارسها عبلة ضد وجودها، فهي في الوقت نفسه مقصد هذه الشخصية وهدفها اللاشعوري. إن عبلة بهذا تلك الذات الباحثة عن الهوية القائمة المغيبة«وتبقى الأمان الأليفة تعيش معنا في عزلتنا ومع خيالنا وأحلامنا وشعورنا، وتبقى الذاكرة سيدة الموقف». وإذا بيّنت "ليل الأصول" لاهوية الفرد الجزائري بين مدينتين مفارقتين، فإن صورة اللاهوية هذه وفي "القلاع المتآكلة" قائمة على المدينة المركز: عين الكرمة ، يستحضرها التداعي الحر لذاكرة عبد القادر الشخصية الساردة، راصدا في الوقت نفسه انفعالاته وانفعالات الشخصيات الأخرى كرشيد ونبيل وسكان المدينة المتغيرة، وقيام هذا التداعي مؤسس على طبيعة التيار الذي تنتمي إليه رواية ساري وهو تيار الوعي«يتركز السرد على الحياة النفسية للشخصية، ويغيب التنظيم المنطقي للأفكار، ويفسح المجال للتداعي الحر والتكرار والحلم والارتداد والاستباق»، فما بين ماضي المدينة وحاضرها تتأسس هذه اللاهوية،
خاتمة
تظل الهوية مسألة ثقافية قائمة، تطرحها المتون الروائية ما بعد الكولونيالية، كاشفة عن تأثيراتها النفسية في الفرد ، لتظل بذلك إشكالية معقدة تقوم معها إجابات احتمالية نسبية يقدمها المتلقي المتعدد وفقا لمرجعيته الثقافية والاجتماعية، ف"ليل الأصول" لنور الدين سعدي و"القلاع المتآكلة" لمحمد ساري نموذج لضبابية الهوية التي عرفها الفرد الجزائري التسعيني التي مازالت تلقي بظلالها على وجوده مع قدوم الألفية الجديدة. وتقريب هذه الهوية وإشكاليتها المعقدة هذه لن يكون إلا بقلم الكاتب المثقف، الذي ينتقد الوضع القائم كاشفا عن سياقه الاجتماعي والثقافي الزئبقي.
الإحالات:
عبد الله ركيبي، تطور النثر الجزائري الحديث، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، الجزائر، 2009، ص 241
عبد النور إدريس، التمثلات الثقافية للجسد الأنثوي، سلسلة دفاتر الاختلاف المغرب، ط1، 2015، ص 67
عبد السلام المسدي، بين اللغة والهوية، مجلة دبي الثقافية، ع96، ماي 2013، ص 45
أحمد منور، الأدب الجزائري باللسان الفرنسي، نشأته وتطوره وقضاياه، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2007، ص 135
محمد ساري، القلاع المتآكلة، دار البرزخ، 2013، الجزائر، ص 42
نور الدين سعدي، ليل الأصول، دار البرزخ، الجزائر، 2007، ص 194
المصدر نفسه، الصفحة نفسها
هويدا صالح، صورة المثقف في الرواية الجديدة، دار رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2ّ013، ص 69
إبراهيم صحراوي، وثبة في مسار صاحب رواية" الورم"، ندوة الخبر حول رواية" القلاع المتآكلة" للروائي محمد ساري، ع 7283، 14 ديسمبر 2013
عبد المالك أشهبون، العنوان في الرواية العربية، دار محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، سوريا، ط1، 2011، ص 73
المرجع نفسه، ص 74
ليل الأصول ، ص 49
القلاع المتآكلة، ص 18
صورة المثقف في الرواية الجديدة، ص 163
القلاع المتآكلة، ص 196
ليل الأصول، ص 117
المصدر نفسه، ص 137
القلاع المتآكلة، ص 27
عبد الله شطاح، فضاء العنف في رواية العشرية السوداء، دار لف للنشر والتوزيع، الجزائر، 2014، ص 152، 153
محمد حسن عبد الله، الريف في الرواية العربية، نقلا عن بهاء الدين محمد مزيد، النزعة الإنسانية في الرواية العربية وبنات جنسها، دار العلم والايمان للنشر والتوزيع، مصر، 2008، ص 16
ليل الأصول، ص 106
الأخضر السائحي، سطوة المكان وشعرية القص، في رواية"ذاكرة الجسد" دراسة في تقنيات السرد، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2011، ص 12
محمد القاضي وآخرون، معجم السرديات، الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، تونس، ط1، 20910، ص 126